طريق السيادة لا يمر عبر المزاجية

7
طريق السيادة لا يمر عبر المزاجية
طريق السيادة لا يمر عبر المزاجية

صابر بليدي

أفريقيا برس – الجزائر. لا زالت المزاجية تخيم إلى حد بعيد على العلاقات الجزائرية – الفرنسية، ففي كل مرة يسجل التقارب بين الطرفين تطرح حجج تفتقر إلى الواقعية، وفي كل مرة يثار التنافر وتتم العودة إلى ملفات التاريخ، ونادرا ما كان الحوار بين الطرفين قائما على الندية والشفافية والمصالح المحترمة.

لقد ظلت الجزائر تقاطع منظمة الفرنكفونية بدعوى النفوذ اللغوي والثقافي الاستعماري للفرنسيين، لكن مؤسساتها ومسؤوليها السامين لا أحد يحترم الفرنسية ويتقنها ويدافع عنها مثلهم، وربما لا تحافظ مستعمرة من المستعمرات الفرنسية على الإرث الفرنسي كما تفعل الجزائر منذ الاستقلال.

صحيح أنّ لهذا الوضع مسوغاته التاريخية، ففرنسا لم ترض بالخروج من الجزائر إلا بعدما ثبتت ما يضمن مصالحها الاقتصادية والسياسية والثقافية، لأن إدارة الجنرال ديغول تكون قد اهتدت متأخرة إلى قاعدة الاستعمار الناعم، ولذلك تغيرت الإستراتيجية من إنفاق الأموال الضخمة على الجيوش والتسليح والخسائر المادية والبشرية إلى تثبيت روابط سياسية وثقافية تكون فرنسية أكثر من الفرنسيين. لكن ذلك لا يغفر للنخب السياسية الحاكمة التي تعاقبت على إدارة الشأن العام في الجزائر تمسكها بالفرنسية كأيديولوجيا سياسية وثقافية واقتصادية انتهت إلى فشل ذريع، عكس الولاءات اللغوية والثقافية الأخرى التي استفادت من النهضة الفكرية والحضارية وحققت لشعوبها تنمية مستدامة. وربما ما يعاب على المنظمة الفرنكفونية بشكل عام هو تركيزها على الروابط الثقافية واللغوية لاستمرار روابط تاريخية منبوذة من طرف الشعوب، بينما توجهت منظمات مماثلة إلى المساهمة في انتشال شعوب المستعمرات القديمة من الفقر والتخلف وإرساء تنمية محلية. ولعل ما يفقد الموقف الجزائري وجاهته في التعاطي مع المسألة الفرنكفونية هو تجاهل الواقع وعدم الجرأة على فرض المقابل الذي يتوجب على عرابي المنظمة دفعه للمستعمرات القديمة مقابل الحفاظ على الروابط اللغوية والثقافية، وإقناعها بأنه لا جدوى من تنظيم يكون ناطقا وممارسا باللغة والثقافة الفرنسية وأعضاؤه جوعى وجهلة ومتخلفون وفقراء. ثم ما الجدوى من منظمة الفارق بين أعضائها يقدر بالسنوات الضوئية في المدارس والجامعات والمنظومات التعليمية والجمعيات الأهلية، وحتى حركة أفرادها تكاد تكون مشلولة، وماذا بذلت فرنسا أو كندا في سبيل تطوير وترقية التعليم المدرسي والجامعي في المجتمعات الناطقة بالفرنسية على سبيل المثال لا الحصر.

ربما غياب النقاش الحقيقي والأسئلة اللازمة داخل المنظمة هو الذي جعل الفرنكفونية مجرد عنوان فقط لظاهرة استعمارية ناعمة، إذ يسعى العرابون للاطمئنان على نفوذهم السياسي وعلى الروابط الثقافية والاجتماعية، بينما يستمر الآخرون في مواقفهم المزاجية، فخطاب السيادة الوطنية والتحرر من التبعية اللغوية هو نتيجة طبيعية لولاء عميق تنفذه النخب الحاكمة قبل الشعوب.

لقد ظلت الجزائر تقاطع المنظمة تحت مختلف الشعارات، لكن مسؤوليها ومؤسساتها مربوطون رباطا وثيقا بالفرنسية أكثر من غيرهم، فكثيرا ما خاطب هذا الرئيس وذاك الوزير شعبه بلغة فولتير، وكثيرا ما تنازل هؤلاء طواعية عن شعار السيادة وخاطبوا العالم بلغة غير لغتهم الرسمية في المحافل الدولية. ومنذ أيام فقط وفي ذروة الجدل المتصاعد حول إحلال الإنجليزية محل الفرنسية في البلاد، تابع الجزائريون ونواب البرلمان مداخلة وزير المالية إبراهيم جمال كسالي، وهو يستنسخ أجواء مخاطبة ضباط ومسؤولي فرنسا للأهالي الجزائريين خلال حقبة الاستعمار وهم يجتهدون في تبليغ رسائلهم بلكنة عربية تظهر للمستمع أن ناطقها لا علاقة له بتلك الأرض وذلك الشعب.

لقد ألقى الوزير كلمته بلكنة عربية، وكأنه شخص فرنسي يجتهد في إيصال رسالته إلى بلد وشعب وبرلمان لا هو بلده ولا هو شعبه ولا هو برلمانه، فقد وجد الرجل صعوبة كبيرة في قراءة كلمته لأنه لا صلة له باللغة التي كتبت بها، وذلك هو عمق مشكلة اللغة والثقافة والهوية في الجزائر، قبل أن يكون مقاطعة للفرنكفونية أو انخراطا فيها، وقبل أن يكون مسعى لتحول لغوي في البلاد. والمشكلة الأعمق ليست شعارات شعبوية نكاية في فرنسا نهارا، والتودد إليها ليلا، فمن جاء بهذا الوزير ليشغل حقيبة سيادية كوزارة المالية، ولماذا لم يتجرأ أعضاء البرلمان وأنزلوه من المنصة، وأمروه بالذهاب لتعلم لغة الدولة ثم العودة لمخاطبة مؤسساتها، ولماذا لم يسألوه من عيّنه في هذا المنصب؟

السيادة الوطنية، والتحرر من التبعية اللغوية والثقافية هما أفعال قبل أن يكونا أقوالا وشعارات ومواقف مزاجية لأن مقاطعة الفرنكفونية والتحول من الفرنسية إلى الإنجليزية لن يكون ذا جدوى وفعالية، ما لم ترافقه جهود حقيقية في تحقيق استقلال اقتصادي وتجاري وتكنولوجي وتنموي وأخلاقي قبل كل شيء.

البلاد لا تتحرك إلى حد الآن إلا في هامش النفط والغاز، وما عدا ذلك كل شيء مرتبط بالخارج من الرأس إلى أخمص القدمين، ولعل صفقة الرقائق التي أدرجت في بطاقات الضمان الاجتماعي خلال سنوات مضت هي أول ضربة للسيادة الوطنية وللأمن الصحي، ففرنسا تعرف بفضل تلك الرقائق أمراض الجزائريين من أبسطها إلى أخطرها. وهذا غيض من فيض، فالسيادة الوطنية مرهونة في أيدي من يغذي ويداوي الجزائريين من أبسطهم إلى رئيسهم، وأول من يدمرها هو ولاءات عمياء لفرنسا، فمستقبل أولاد وأموال وممتلكات عائلات جزائرية راقية معقود في فرنسا وليس في الجزائر.

هذا هو منطق نخب حاكمة وأخرى نافذة، ترى أحيانا أن الحاجة إلى ترويض القطيع تتطلب شعارات مناوئة لفرنسا سياسيا ولغويا، بينما تحرص هي على رعاية مصالحها ومصالح فرنسا أكثر من الفرنسيين أنفسهم.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن الجزائر اليوم عبر موقع أفريقيا برس

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here