وزيرة الثقافة السابقة تسترجع ذكريات الاستقلال

7
وزيرة الثقافة السابقة تسترجع ذكريات الاستقلال
وزيرة الثقافة السابقة تسترجع ذكريات الاستقلال

أفريقيا برس – الجزائر. تسترجع وزيرة التربية السابقة، زهور ونيسي، في هذا الحوار مع “الشروق”، ذكريات السنوات الأولى من الاستقلال، بكل تحدياتها ورهاناتها، خاصة في تنظيم الدخول المدرسي وإعداد المعلمين والإطارات التي ستشرف مستقبلا على قيادة البلاد. كما توقفت أول وزيرة في تاريخ الجزائر بمناسبة الاحتفال بستينية الاستقلال على معركة استعادة الإدارة الجزائرية من رواسب الاستعمار، حيث ترى زهور ونيسي أن ستين سنة من الاستقلال تمكنت خلالها الجزائر من بسط سيادتها، ليس فقط على أراضيها وثرواتها، لكن أيضا على الاستعادة التدريجية لحاضنتها الثقافية والتحرر من رواسب الاستعمار الثقافية والحضارية.

تحتفل الجزائر بالذكرى الستين لاسترجاع السيادة الوطنية، في رأيك هل استعادت الجزائر شخصيتها الحضارية بعد قرن ونيف من الاستدمار؟

السيادة الوطنية بشكل عام كمفهوم ليست بالأمر السهل، لأن السيادة تتمحور في عدة قضايا وعوامل، وتحمل عدة مفاهيم تاريخية. هل استعدنا كل شيء؟ هل استعاد الإنسان الجزائري ذاته حتى ما قبل الاستعمار الفرنسي؟ هل شفينا نفسيا من حالة الاستلاب والاستعمار والتبعية الفكرية.. هذا يحتاج منا إلى وقفات وتحليل ودراسات وبحوث. لكن بشكل عام، إذا توقفنا عند مفهوم السيادة كعلم يرفرف وثوابت وطنية من دين ولغة وتقاليد وعادات، وإذا كانت السيادة في أن نحكم أنفسنا بأنفسنا وألا يكون للاستعمار سلطة عليك، فأقول نعم فنحن استعدنا سيادتنا. الجزائر اليوم بين أيدي أبنائها لها علم ودستور وشعب اختار نظامه. فالسيادة موجودة، لكن يبقى أن الاستعمار عندما يخرج يترك رواسبه، تلك الرواسب أحيانا تذوب وأحيانا تطفو على السطح. لذا نجد مثلا من يقول في ساعات الغضب واليأس والحنق إن حزب فرنسا ما زالت نافذة في الجزائر.. وهذا يتجلى أيضا في ساعات الحنق والقلق لدى شبابنا في التوجه نحو فرنسا. البعض يقول إن هذا يحدث بسبب اللغة التي تسهل هذه الوجهة. والبعض يعتبره أمرا غير مقبول ويصنفه في خانة الحنين إلى الماضي الاستعماري. طبعا الأمر ليس بهذه السهولة التي نتصورها. فقرن وأزيد من الاستعمار مع ما فعلته فرنسا من تحطيم للشخصية الجزائرية ومحو التقاليد واللغة وتمسيح الشعب وطمس هويته، جعلها تسعى لتغيير مجتمع بمجتمع ودين بدين ولغة بلغة طيلة سنوات، بل عقود من الاستعمار. وبالنظر لكل هذه الحقائق، فالاستقلال معجزة حدثت. ورسم الاستقلال لا يزال مستمرا في عدة مجالات ورهانات وتحديات تواجه الجزائر في عالم متوحش تتجلى فيه أزمة أخلاقية تفرض علينا الوعي بالمتغيرات التي تحيط بنا خاصة والجزائر بلد أغلب سكانه شباب.

هذا الرهان الذي تتحدثين عنه، ربما يرتبط بفشلنا في إيجاد نموذج حضاري يقتدي به الشباب رغم كثرة رموزنا.. برأيك، لماذا؟

عندنا الكثير من الرموز التي تستحق أن نسوق لها كنجوم يقتدي بها الشباب أو يستمدون منها النموذج، لكن للأسف، نحن لا نحسن التسويق. وهذا ليس تواضعا منا كما يعتقد البعض، لكنه نابع من عقدة النقص التي خلفتها سنوات الكبت الاستعماري. فطيلة أزيد من قرن ونحن لا نتفاوض ولا نتحاور فحتى الثورة في بدايتها وجدت صعوبة في إقناع الشعب في القرى والمداشر بأن “كمشىة” من الشباب بإمكانه مقارعة فرنسا.. لهذا فالثورة “أنشأت” منصب المحافظ السياسي الذي كان دوره يتلخص في توعية الشعب، بأن هذا البلد بلدنا ويجب أن نستعيده. فقد كانت أغلبية الشعب مقتنعة بأن العصي والهراوات وبعض بنادق الصيد لا يمكنها أن تقف في وجه أعتى قوة استعمارية في المتوسط في زمانها. لهذا قلت إن الاستقلال معجزة وإن ما قام به الجزائريون في بداية الاستقلال أيضا معجزة، بعد أن خرج الاستعمار وترك 90 بالمئة من الشعب أميا والإدارة مفرنسة والوعي غائب.. لهذا فعندما نرى اليوم الجزائري تمكن من استعادة لغته والعمل مستمر لفرضها في الإدارة والتعاملات والتحرر التدريجي من رواسب الاستعمار، أقول إن هذا نتاج عمل جبار تم القيام به لأن قرنا ويزيد من الاستدمار كان كافيا لمحو الجزائر من الوجود نهائيا.

ومن جملة المكتسبات التي تحققت التي نعتز بها، نظام تعليمي مجاني يمنح الحق والفرص المتساوية لكل أبناء الشعب. لم يكن سهلا الوصول إلى هذه النتائج، وتنصيب لجان التعريب وإعداد الكتاب المدرسي وتشييد المدارس في بدايات الاستقلال كان عملا جبارا يحتاج ليس فقط إلى الموارد المالية، لكن أيضا للطاقات البشرية القادرة على تحقيق التحرر من التبعية للنظام الإداري القديم الفرنسي، الذي تركه الاستعمار. يبقى أمامنا اليوم تحدي العمل على التكيف الدائم لهذه المنظومة مع متطلبات العصر الرقمي والتحيين الدائم للبرامج والمحتويات، حتى يبقى أبناؤنا دائما على علاقة بتحديات عصرهم.

بالنسبة إليكم أنتم الإطارات الأولى للاستقلال، ما هي الصعوبات التي واجهتكم في بناء الدولة؟

كان صراعا كبيرا، فالإدارة كانت بالفرنسية وكان علينا أن نخوض عدة معارك لوضع الجزائر بكل مقوماتها بما فيها اللغة والشخصية في الواجهة. الزعيم أحمد بن بلة مثلا، في البداية رفض الاعتراف بالمعلمين الأحرار، حتى جاء عبد الرحمان بن أحميدة وعبد الكريم بن محمود ووقع المرسوم الذي يعترف بسنوات الخدمة في الثورة للمعلمين، وقد ساهم هؤلاء إلى جانب أسماء أخرى على غرار بن بليدية ووعراب والشيخ شيبان وأحمد حماني وعملوا على تنظيم الدخول المدرسي وكافحوا من أجل الاعتراف بسنوات تدريس المجاهدين ومعلمي المدارس الحرة.. وقبلها لم نقبل نحن للعمل في أي مكان لأن بن بلة لم يعترف بنا كمعلمين والإدراة كانت بالفرنسية، ما اضطرنا للانتساب لثانوية ديكارت في دروس مسائية لمحو الأمية بالفرنسية من 6 إلى 8 مساء ثم دارت عجلة الزمن وعملت لما أصبحت وزيرة للتربية على استبدال ثانوية ديكارت بثانوية بوعمامة وما تبعها من لغط وصراع لم ينته في لجنة التعريب التي قادها عبد القادر حجار.

هل يعني هذا أن أول تحد كان استعادة لغة الجزائريين؟

نعم، كان تحديا كبيرا، بالنظر لمخلفات الاستعمار الذي أحرق المكتبات ودمر المساجد وحولها إلى كنائس وشدد على طمس كل مظاهر الشخصية والثقافة الجزائرية. كنا أجانب في بلدنا. في بداية الاستقلال، كنا تقريبا كلنا متطوعين في المنظمات الجماهيرية، إعلاميين تربويين سياسيين.. كنا جميعا في بوتقة واحدة، وهي استعادة الجزائر لمكانتها ووعائها الحضاري. أذكر مثلا أنني عندما كنت في اتحاد النساء الجزائريات وتم انتدابي لتمثيل الجزائر في مؤتمر النساء الأفرو أسيويات في القاهرة، لم يكن لدي مال لشراء حذاء، حتى جمعت لي زميلاتي “زهية تغليت وليلى شريف زهار وزهور زيراري”، مبلغا من المال اشتريت به الحذاء الذي ذهبت به للقاهرة، لتمثل الجزائر. حدث هذا في 1964. اليوم، أسرد لك هذه الحادثة فقط لأضعك في صورة ما واجهناه في بداية الاستقلال. لم تكن إعادة بناء الجزائر سهلة.

هل لك أن تضعينا في صورة الصعوبات التي واجهتكم كأول فوج معلمين ضمن الدخول المدرسي بعد الاستقلال؟

صعوبات كثيرة، الاستعمار ترك 90 بالمئة من الشعب أمي كان علينا أن نعود إلى الجامعة لاستكمال الدراسة التي حرمنا مها الاستعمار، حيث تم توجيهنا مباشرة بعد التخرج إلى التعليم الثانوي الذي كان يعاني من نقص شديد في المؤطرين. العديد من المجاهدين عادوا إلى مقاعد الجامعة أمثال محمد الصالح يحياوي محمد علاق والعديد من الذين كانوا في المدارس الحرة وجدوا أنفسهم في معركة أخرى، وهي الاتجاه للتدريس لبناء إطارات المستقبل. الإدارة كانت مفرنسة والاستعمار خلق طبقية كبيرة في المجتمع. وبفضل وعي والتزام رجال ونساء تلك المرحلة وخاصة من خلال المنظمات الجماهيرية التي كانت رافدا مهما في إعادة البناء، ساهمنا في إطلاق وتأسيس صحف ومجالات، مثل مجلة الثورة والعمل، المجاهد الثقافي، الجزائرية مجلة الجيش وغيرها. كان هناك صراع كبير بين تيار بقايا الإدارة الفرنسية وبين التيار الوطني تجلى في عدة مظاهر ومجالات، مثلا في اتحاد الكتاب في الأمانة العامة كنا سبعة معربين، وكان المرحومان مالك حداد ومولود عاشور فقط مفرنسين، لكن محتوى أعمالهم كان ذا بعد وطني. لهذا عندما اقترحت مالك حداد لرئاسة الاتحاد ثار ضدي المعربون، وقد وافق الرئيس بومدين لاحقا على الاقتراح، لأني كنت أرى في مالك حداد جامعا للشمل.

بالنظر إلى دور معلمي المدارس الحرة بعد الاستقلال، ألا ترين بأن جزءا من عبقرية الرعيل الأول من الثوار عدم تحييد الجانب الفكري والثقافي في الإعداد للثورة؟

نعم، كان الرعيل الأول من القائمين على المدرسة الإصلاحية واعين بأهمية الجانب الفكري والثقافي للحفاظ على الشخصية الوطنية وغرس حب الوطن في النفوس، فحتى المحفوظات التي كانت تدرس للتلاميذ كانت تدعو إلى استرجاع السيادة الوطنية. بعض متعصبي الحركة الوطنية حاولوا طمس دور جمعية العلماء وقالوا إنها لم تفعل شيئا للثورة. الجمعية أعدت أجيالا كانت لها الروح الوطنية التي ساهمت لاحقا في إطلاق الثورة. العديد من القيادات الثورية كانت لها علاقة بشكل أو بآخر مع مدارس جمعية العلماء أمثال بوراس الذي أطلق الكشافة الإسلامية، وباجي مختار وبن مهيدي ومحمد علاق والهاشمي هجرش ويحياوي وحتى عميروش، رفقة الفضيل الورتيلاني.. بن بولعيد ساهم بماله في بناء مدارس، وغيرهم من القيادات التي تعلمت حب الوطن من خلايا مدارس الحركة الإصلاحية.

بالنسبة إلى زهور ونيسي، ما هو أهم شيء حدث بعد الاستقلال؟

كل شيئا كان جديدا بالنسبة إلي، كثيرا ما كنت وصديقتي عندما كنا نخفي أسلحة الثوار في المدارس التي كنا ندرس بها، نتساءل: ترى هل نعيش حتى ندرك الاستقلال؟ ولم نكن نؤمن بذلك كثيرا بالنظر لما عايشه شعبنا، وكنا شهودا عليه ثم استقلت الجزائر وصار لنا رؤساء وعلاقات مع الدول وصرنا نستقبل ونذهب ونبني ونشيد كل شيء كان جميلا. اليوم نقول إننا حققنا الكثير بمقاييس تلك المرحلة، لكن يبقى الطموح أكبر من الإنجازات. وأجيال اليوم لها دورها الذي يجب أن تضطلع به.

كيف كان تنظيم أول دخول مدرسي بعد الاستقلال؟

الفضل يعود إلى وعراب وبن بلدية محمد فارس حميد مهري الشيح شيبان وعلي مرحوم، الذين أشرفوا على عقد تربص مغلق استغرق أربعين يوما في بوزريعة، تحضيرا لضمان دخول مدرسي ناجح حتى لا تقول فرنسا إننا عجزنا بعدها عن تنظيم دخول مدرسي. التربص ضم كل من يتقن الكتابة والقراءة من جميع الولايات، وعرف ضم ما يقارب 400 مدرسة حرة للحركة الإصلاحية إلى المدارس التي كانت موجودة على قلتها، وجمعت كلها تحت إشراف وزارة التربية والتعليم وأطلق الدخول المدرسي.

في هذا التربص، أنا شخصيا كنت ضمن فريق التنظيم والتدريس، حيث درست المحفوظات ودرست بدوري عند أساتذة آخرين. في البداية، عينت في مدرسة ابتدائية بحيدرة ثم إكمالية قبل أن أنتقل إلى ثانوية الثعالبية ثم عائشة بعد إنهائي الجامعة. الرهان في البداية كان محو أمية شعب كامل، وخاصة الأطفال. كنا نجمع في نفس القسم تلاميذ في 16 سنة وفي 10 سنوات. المهم أن نتوصل إلى ضمان تمدرس أطفال الجزائر، الذين خرجوا من حرب مدمرة، والكثير منهم قادم من المحتشدات والكثير منهم أيتام دون أهالي، أو قادمين من مناطق اللجوء على الحدود في نهاية الحرب.

كيف تقيم السيدة زهور اليوم تلك المرحلة؟

نجحنا إلى حد ما في استعادة الشخصية الجزائرية، بل وتقديم تلك التجربة لاحقا إلى بعض إخواننا. أتذكر مثلا أنني عندما كنت وزيرة للتربية، زارني وزير التربية العراقي، واستمد منا تجربة المدرسة الأساسية، التي اعتبرت مهمة في محو أمية الأطفال طيلة تسع سنوات قبل تحديد الاختيارات المستقبلية.

الفضل في هذا يعود لإطارات عديدة منهم عبد القادر فضيل والعديد من الأسماء التي اشتغلت وناضلت في سبيل إعداد المقررات الدراسية ودراسة محتويات الكتب عبر اللجان، وكانت في البداية لجانا عادية قبل أن تصبح لجانا متخصصة لاحقا، وتخصص دوريا للمراجعة والتقييم.

كيف ترى زهور ونسي الرهانات القادمة في ضوء استمرار الاهتمام الفرنسي خاصة بالجانب الفكري والثقافي عندنا؟

واجهت فرنسا منذ دخولها إلى الجزائر مقاومة كبيرة على امتداد وجودها هنا، حيث عملت على تحطيم وطمس كل ما له علاقة بمقومات الجزائريين، بما فيها تحويل المدارس إلى كنائس والتضييق على تدريس العربية وتحويل أماكن العبادة وغيرها.. اليوم بدأ الفرنسيون أنفسهم يسجلون ويكتبون حول الموضوع، ونحن اليوم أمام تحدي تسجيل وتوثيق وتمحيص الشهادات، وخاصة ما يأتينا من هناك، لأن فرنسا التي ما زالت مصرة على احتكار الأرشيف أفرجت عن جزء من الأرشيف المتعلق بمحاضر الاستماع لدى الشرطة والدرك، وتلك حيلة خبيثة من فرسنا حتى تؤجج نار الفتن والخلافات بين المجاهدين، وتفتح الباب أمام التشكيك في الثورة. علينا اليوم أن نتعلم وبحذر كيف نتعامل مع الأرشيف، مع العلم أن الأرشيف الجزائري لا يتواجد في فرسا فقط، بل في العديد من الدول، مثل تركيا والأردن وسوريا والقاهرة وغيرها..

لدى الجزائر اليوم ما يكفي من الإطارات والإمكانيات لتخوض هذه المعركة. فالبلد الذي خرج بـ 10 ملايين نسمة، 90 في المائة منهم أميون، اليوم تعداد سكانه يضاهي 45 مليونا، و75 بالمائة منهم شباب، ولدينا 8 ملايين تلميذ.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن الجزائر اليوم عبر موقع أفريقيا برس

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here