هل حان وقت استبدال اللغة الفرنسية بالإنجليزية في المغرب؟

163
هل حان وقت استبدال اللغة الفرنسية بالإنجليزية في المغرب؟
عريضة الكترونية طالب من خلالها مغربيون على مواقع التواصل، الحكومة باعتماد اللغة الانجليزية بدل الفرنسية

مصطفى واعراب

أفريقيا برس – المغرب. قررت الجزائر رسميا الخريف الماضي، “التخلي نهائيا” عن استعمال اللغة الفرنسية “تدريجيا”، في كل دوائرها الرسمية مع نهاية السنة الجارية. ورغم أن هذا القرار الرئاسي يصب في إطار التصعيد الجزائري تجاه باريس، بعد الأزمة السياسية الأخيرة بين البلدين التي أثارتها التصريحات “المسيئة” التي أطلقها الرئيس الفرنسي في حق الجزائر، إلا أنها تعكس مع ذلك نقاشا عميقا حول الجدوى من استمرار استعمال اللغة الفرنسية، في وقت يتخلى الفرنسيون أنفسهم عن استعمالها كأداة للتعلم والبحث والتواصل مع العالم.

وليست الجزائر وحدها المعنية بهذا النقاش، بل يشهد المغرب أيضا نقاشا مشابها وبالحدة نفسها، بين تيار “الفرنكوفونيين” أنصار اللغة الفرنسية، من جهة، وتيار “العروبيين” من أنصار اللغة العربية ومعهم أنصار اللغة الإنجليزية، من جهة أخرى.

والواقع أن المنطقة المغاربية (بالأساس الجزائر والمغرب، وبدرجة أقل تونس)، تعتبر –منذ سنوات– جزءا من حالة عامة تشهدها دول إفريقيا الفرنكوفونية، التي اتخذت بعض دولها (رواندا والغابون) قرار استبدال اللغة الفرنسية بالإنجليزية، في التعليم والإدارة، بحثا عن إعادة تموقع أفضل في عالم تراجعت فيه فرنسا ولغتها كثيرا. لكن لكل دولة في ذلك سياقها الخاص…

نقاش سياسيقديم ومُعَقّد

لا يختلف اثنان على كون اللغة الإنجليزية هي الأكثر تداولا في العالم، سواء تعلق الأمر باستخدامها كلغة تدريس للعلوم والتكنولوجيا في أغلب جامعات العالم، أو استعمالها كوسيلة تواصل في عالم المال والأعمال. بل وحتى في شبكة الأنترنت، تحتل الإنجليزية الصدارة من حيث نشر الأبحاث العلمية والمعلومات. ولذلك كان رئيس الحكومة المغربية السابق عبد الإله بنكيران (زعيم حزب العدالة والتنمية الإسلامي)، قد عبر عن رغبته في تحويل السياسة التعليمية بالمغرب نحو اللغة الإنجليزية، قائلًا إن “الفرنسية ليست قدرنا إلى يوم القيامة. وإذا كنا سنختار، فإننا يجب أن نختار الإنجليزية لأنها لغة العصر والعلم والتجارة. ولست أندم على شيء أكثر من ندمي على عدم تعلم الإنجليزية جيدا”.

لكن على الرغم من إطلاق صفحات مغربية متخصصة في نشر المحتوى التعليمي والتربوي والسياسي بالإنجليزية، للمطالبة بجعل الإنجليزية اللغة الأجنبية الأولى في النظام التعليمي بدل الفرنسية، وعلى الرغم من تقدم المغرب في استعمال اللغة الإنجليزية في السنوات الماضية، إلا أن هذا التقدم ما يزال محدود الأثر والمدى، بحيث يصطدم بالحضور القوي للغة الفرنسية في التعليم والإدارة والاقتصاد. فالواقع العملي عنيد ويتطلب المزيد من الدراسة والتعمّق والاستعداد الجيّد على أكثر من نطاق، من أجل تفعيل هذا المسعى الذي يراد به الارتقاء بالمستوى العلمي والتعليمي في المغرب. لكن ينبغي التنبيه إلى أن اللغتين الفرنسية والإنجليزية ليستا وحدهما في المعادلة.

إن الصراع اللغوي في المغرب ليس جديد، بل هو قديم منذ السنين الأولى للاستقلال (1956) عندما تم تعميم سياسة “التعريب” على قطاعات التعليم والإدارة لمحاصرة سطوة اللغة الفرنسية. ومع تجدده على مر السنين بحيث لم يعد طرفاه هما العربية في مواجهة الفرنسية (العروبيون ضد الفرنكوفونيين)، أحدهم يتشبث بربط المغرب بمشرقه العربي عبر حرصه على إضفاء ما يشبه القداسة على اللغة العربية، وآخر يسعى لدفعه باتجاه أوروبا القريبة منه جغرافيا.. بل أصبح متعدد الأطراف والأقطاب عبر الانتصار للهجة المغربية الدارجة ضد اللغة العربية الفصحى، والعربية ضد الفرنسية، والفرنسية ضد الإنجليزية. وظهرت لوبيات متصارعة لكل منها مصالح ومبررات. وعلى ذلك، فإن الصراع اللغوي في المغرب ليس منحصرا بين لغات، بقدر ما هو صراع متواصل يستعصي على الحسم، بين أنصار كل تيار لحسابات قد تكون في النهاية خارج اللغة. 

الفرنسية أداة للهيمنة

المغرب، كما الجزائر وتونس وموريتانيا، هو دولة إفريقية “ناطقة” باللغة الفرنسية. وفي كتاب “أفريقيا بدون فرنسا”، يسلط جون-بول نغوباندي وهو رئيس حكومة سابق لجمهورية أفريقيا الوسطى، الضوء على العلاقة المعقدة بين البلدان الأفريقية الفرنكفونية والقوة الاستعمارية الفرنسية السابقة، وعلى الأوضاع المتدهورة في القارة وإمكانيات الإقلاع اقتصاديا وسياسيا. فيلاحظ بأنه على خلاف الاستعمار البريطاني، كان الاستعمار الفرنسي اندماجيا (سياسيا وثقافيا) بمعنى أن سعى إلى أن يفرض لغته وثقافته كهوية جديدة على مُستعمَريه. وعن ما يسمى “أفريقيا الفرنسية”، يقول نغوباندي إنها لا تمثل سوى 13% من سكان القارة السمراء وثقلها الاقتصادي لا يكاد يُذكر. فدول منطقة “الفرنك الأفريقي” لا تزن أكثر من دولة نيجيريا [الأنغلوفونية] من حيث الناتج المحلي الخام.

وفي سياق ما آلت إليه العلاقات الفرنسية-الأفريقية، يتحدث الكاتب عما يسميه “طلاق النخب”. ملاحظا أن فرنسا التي تكونت فيها كل نخب أفريقيا الفرنكفونية لم تعد اليوم وجهة النخب الأفريقية. كما أن تأسيس الجامعات الأفريقية لعب دورا رئيسا في تكوين النخب محليا. لكن الطلاق مع تلك النخب يرجع في رأيه إلى سياسة التأشيرات المتشددة، التي تمارسها فرنسا حيال الطلبة الأفارقة. ما جعل النخب الأفريقية تتوجه اليوم إلى كندا والولايات المتحدة. وهنا يتساءل الكاتب عن مصير الفرنكفونية، خاصة مع الشعور المتنامي في أوساط النخب الفرنكفونية الإفريقية، بأن المعنيين الأوائل(أي الفرنسيين) بتطوير اللغة الفرنسية لا يعيرونها أهمية.

للتذكير، يوجد في قارة أفريقيا وحدها قرابة 100 مليون ناطق بالفرنسية. وبذلك تضمّ أكبر عدد من الناطقين بها في العالم.

​وتسعى فرنسا من خلال المنظمة الدولية للفرنكفونية، إلى المحافظة على حياة لغتها وثقافتها في إفريقيا والمنطقة المغاربية، باعتبارها سوقا اقتصادية هامة بالنسبة لها. وبخصوص مطالب إحلال الإنجليزية بدل الفرنسية، يرى باحثون مغاربيون بأن هذا الهدف ليس عملية سهلة، بحكم أن الفرنسية لا تزال متداولة بشكل واسع في الإدارة والمؤسسات التعليمية والاقتصادية والأمنية بالمغرب.

الفرنسية لغةميتةقريبا..

أصبحت اللغة الفرنسية خامس لغة على مستوى العالم من حيث التحدث بها. ويعود الفضل في ذلك تحديدا إلى ملايين الأفارقة الذين يستعملونها بشكل يومي. وبحسب المنظمة العالمية للفرنكوفونية، فإن هناك 300 مليون شخص في القارات الخمس يتحدثون لغة موليير، بحيث تصنف اللغة الفرنسية في المركز الخامس بعد الصينية، والإنجليزية، والإسبانية والعربية. لكن ذلك لا يخفي حقيقة كونها في تراجع متواصل، وسط توقعات باختفائها بعد جيل.

فقد سبق أن توقع رئيس المجلس الأعلى للغة العربية صالح بلعيد، اختفاء اللغة الفرنسية من التداول في العديد من دول العالم كلغة أجنبية أولى. وأكد أنها لن تكون لغة “الفرنكة” بحلول سنة 2050 وفقا لدراسة أعدّها المجلس. وحسب نتائج هذه الدراسة التي أعلن عنها صالح بلعيد بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية، يرتقب أن تبقى اللغات الأكثر تداولا في العالم هي: الإنجليزية ثم العربية فالإسبانية، تعقبها اللغة الروسية. محصيا تداول مليار و800 مليون ساكن في العالم للغة العربية، التي أصبحت لغة رسمية على مستوى 60 دولة في العالم.

المعروف أن قواعد اللغة الفرنسية معقدة جدا، ما يجعل من الصعب على من لم يتعلمها منذ الصغر، أن يضبطها جيدا. هذا فضلا عن كون الفرنسية ترمز إلى الماضي الاستعماري، وبالتالي إلى استمرار الهيمنة الاستعمارية على الدول والشعوب الناطقة بها. وهي ليست لغة للبحث العلمي ولا التجارة العالمية. ولذلك يهجرها الفرنسيون أنفسهم، إذ رغم إتقانهم اللغة الفرنسية كتابة ونطقا، ينتقلون إلى تعلم الإنجليزية، لكي يواكبوا مجالات العصر. وتفسر هذه الأسباب ضمن أخرى كثيرة، لماذا تفكر دول إفريقيا الفرنكفونية استبدال لغة مستعمر أمس الفرنسي بالإنجليزية.

وهكذا وفي أكتوبر 2021، انسحبت الغابون من منظمة الدول الفرنكوفونية (الناطقة بالفرنسية)، والتحاقها بمجموعة الكومنولث (الناطقة بالإنجليزية). وبرر وزيرها الأول هذه الخطوة قائلا بأن اللغة الفرنسية لم تعد تساير التحولات التكنولوجيا والمعرفية والتنموية الطارئة في العالم. وقد اتخذت الغابون رواندا مثالا لها، بالنظر إلى التقدم الذي تحرزه رواندا في عدد من المجالات بعد تخليها عن الفرنسية. وأظهر علي بونغو رئيس دولة الغابون، و هو صديق مقرب للعاهل المغربي محمد السادس، حماسة بالغة في حذو نموذج رواندا، معتبرا أن التقدم الاقتصادي الذي تشهده رواندا كان بسبب تحررها من الهيمنة الفرنسية وتبنيها للديناميكية الأنغلوفونية.

القرار سياسي بالأساس

وفي المغرب الذي يعد خامس دولة فرنكفونية من حيث عدد الناطقين بالفرنسية،  فإن هذه الأخيرة تشهد مع ذلك تراجعا تدريجيا على مستوى التداول الشعبي. ومن مؤشرات ذلك أن اللغة العربية أصبحت تحتل الصدارة، بين اللغات المستعملة في الشبكات الاجتماعية لدى المستخدمين المغاربة والعرب لمواقع التواصل الاجتماعي، وفيسبوك يعد أبرز مثال على ذلك.كما بدأ الشعب المغربي ينتفض للتملص عبر جمعيات وناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي، مطلقين حملات تطالب بتعويض اللغة الفرنسية بالإنجليزية في النظام التعليمي؛ في ما يشبه تمردا مغاربيا على الهيمنة الفرنسية.

وقد لوحظ مؤخرا  أنه في مجال علامات التشوير الجديدة على الطرقات السريعة مثلا، تتم كتابة الاتجاهات والارشادات الطرقية باللغتين العربية والأمازيغية فقط. بينما كان الحال في السابق أن تتم كتابتها بالفرنسية والعربية. ويُفَسر هذا التحول بشروع السلطات الوصية على القطاع في تنزيل مقتضيات الدستور، الذي يحدد اللغات الرسمية في المغرب في اثنتين: العربية والأمازيغية. وعلى مستوى وزارة الخارجية، حيث لاحظ المغاربة أن اللوحة الإرشادية للوفد المغربي في الملتقيات والمؤتمرات الدولية، أصبحت تحمل اسم المملكة المغربية، وتحتها مقابله الإنجليزية (Kingdom of Morocco).

هكذا، وكما يحصل في الجزائر، تتوالى المطالَبات بإنهاء التعامل باللغة الفرنسية في القطاعات الحكومية، وسط دعوات لتعزيز مكانة العربية باعتبارها اللغة الرسمية للبلاد، وكذا دعم تواجد الإنجليزية في التعليم بدل الفرنسية. وقد أصبح هذا المطلب يتردد على نحو واسع، على لسان أولياء التلاميذ في المدارس والطلبة الجامعيين وحتى الأساتذة والباحثين. على اعتبار أن اللغة الإنجليزية هي السائدة في العالم. وفي غياب تفاعل حكومي مع مطالبهم، يلجأ قطاع عريض من الآباء إلى تسجيل أبنائهم في مراكز خصوصية لتعليم ودعم اللغة الإنجليزية. والملاحظ أن هذا النوع من المراكز الخصوصية انتشر على نحو كبير في السنين الأخيرة.

ويعتبر موقف الباحث المغربي في اللسانيات ورئيس مجلس إدارة مركز الدراسات والبحوث الإنسانية فؤاد بوعلي، حاسما في موضوع إعطاء الأولوية للإنجليزية بدل الفرنسية. فهو يرى بأن اللغة الإنجليزية هي “لغة العلوم والأكثر انفتاحا على المعارف.

فلا يمكنك مثلا أن تسجل بحثا في جامعات العالم إلا بالإنجليزية”، يقول بوعلي. ويضيف موضحا: ​​”صحيح أن اللغة الفرنسية عرفتنا بالآداب والفنون وبفولتير ومالرو وروسو وفلسفة الأنوار، لكن الفرنسيين أنفسهم عرفوا أن العصر الحالي هو عصر الإنجليزية”.

لكن مع ذلك، ما زال المستوى الرسمي المغربي يبدو غير جاهز بعد لاتخاذ قرار القطيعة مع لغة مستعمر الأمس. فاتخاذ قرار بالتراجع عن اللغة الفرنسية في المغرب، يعني تراجعا للعلاقات الثنائية السياحية والثقافية والاجتماعية وحتى الاقتصادية والسياسية مع باريس.

حزب البيجيدي: المشكلة ليست في اللغة

يعتبر حزب العدالة والتنمية الإسلامي، أن مشكل المدرسة المغربية “ليس في التدريس باللغة العربية، بل في غياب الإرادة الحقيقية في إصلاح التعليم المغربي والرقي به، والنهوض باللغة العربية وتعميم الدراسة بها من المدرسة إلى الجامعة، وإحياء وظيفة المترجم كما فعلت كوريا الجنوبية”، بحسب ما جاء في مقال وَقّعه علي فاضلي القيادي في شبيبة حزب العدالة والتنمية ونُشر على موقع الحزب.

علي فاضلي - قيادي في شبيبة حزب العدالة والتنمية
علي فاضلي – قيادي في شبيبة حزب العدالة والتنمية

ويستدل حزب “البيجيدي”، الذي قاد الحكومة المغربية منذ موجة الربيع العربي وحتى الخريف الماضي، على خلاصات تقييمه لمشكل المدرسة المغربية في مقال نشره على موقعه الرسمي، بدولة نيجيريا التي يرى بأنها و”على الرغم من أن اللغة الإنجليزية هي اللغة الرسمية للبلاد، وهي اللغة المعتمدة في الدراسة من المدرسة إلى الجامعة، إلا أن التعليم بها يحتل أسوأ المراتب العالمية، بحيث تحتل نيجيريا المرتبة 185 عالميا ضمن ترتيب الدول من حيث جودة التعليم. كما أن الجامعات في نيجيريا تحتل مراتب متأخرة ضمن قائمة أفضل الجامعات في العالم، في وقت تعتبر فيه إحدى أغنى دول العالم من ناحية البترول وباقي الموارد الطبيعية”.

بينما يضع العدالة والتنمية على كفة الميزان الأخرى كوريا الجنوبية، التي يقول إنها “تحتل المرتبة الأولى عالميا في جودة التعليم، والمرتبة الأولى من حيث براءات الاختراع، كما تحتل جامعاتها مراتب جد متقدمة ضمن قائمة أفصل جامعات العالم. وقد حققت كوريا الجنوبية هذا التقدم الهائل بالاعتماد على لغتها الوطنية، والتدريس بها من المدرسة إلى الجامعة، وفي كل المواد بما فيها العلوم الدقيقة”. مؤكدا بأن “كوريا الجنوبية استطاعت تحقيق هذا الإنجاز، على الرغم من أن اللغة الكورية لا يتحدث بها إلا عدة ملايين من الكوريين، وليست من اللغات المنتشرة عالميا”. وموضحا بأنه “على الرغم من فقر كوريا من ناحية الموارد الطبيعية، وبالرغم من مساحتها الصغيرة وتعدادها السكاني الضعيف مقارنة مع نيجيريا، وبالرغم من أن البلدين حصلا على الاستقلال في نفس الفترة تقريبا، إلا أن كوريا الجنوبية أصبحت من أقوى اقتصادات العالم”.

لماذا نحصر اللغات العالمية في الفرنسية والانجليزية؟

للإجابة عن هذا التساؤل؛ أجرت “أفريقيا برس” حوارا مع الباحث والمحلل السياسي محمد الغيث ماء العينين:

محمد الغيث ماء العينين - باحث ومحلل سياسي
محمد الغيث ماء العينين – باحث ومحلل سياسي

هل تتفق مع الرأي السائد بين المغاربة، في أن اللغة الفرنسية هي سبب تردي الواقع التعليمي في المغرب؟
صحيح، الرأي السائد يعتبر بأن مشكل التعليم مرتبط بلغة التدريس، وأن استعمال اللغة العربية في تدريس المواد العلمية هو سبب الوضعية المتردية للتعليم في المغرب. لكن هذا الاستنتاج خاطئ، سواء أكان ناتجا عن دراسة وتحليل ناقصين، أو عن أهداف إيديولوجية ضد التعريب. ولعل الأمثلة التالية توضح ذلك: الدراسة في اليابان تتم باليابانية، وفي الصين لغة التدريس هي الصينية مع أنها ليست هي اللغة الأم لجميع الصينين. وفي كوريا لغة التدريس هي الكورية، وفي إيران لغة التدريس هي الفارسية، مع أنها ليست هي اللغة الأم لجميع الإيرانيين. وفي تركيا، لغة التدريس هي التركية مع أنها ليست هي اللغة الأم لجميع الأتراك. وحتى بعض الدول التي لا يصل تعداد سكانها إلى عشرة ملايين نسمة، و لا يتحدث لغتها أحد، بعضها يدرس بلغته و حقق نتائج باهرة في العلوم. ففي تشيكيا لغة التدريس هي التشيكية التي يتحدث بها أقل من 8 ملايين شخص. وفي سلوفينيا لغة التدريس هي السلوفينية التي يتحدث بها أقل من مليوني شخص. والتدريس في سلوفاكيا يتم باللغة السلوفاكية، التي يتحدث بها أقل من 6 ملايين شخص.

لكن الفرنسية ليست فحسب لغة تدريس وثقافة. بل هي أيضا لغة الإدارة ولغة هوية لجزء هام من النخبة المغربية النافذة.. فكم سيتطلب من الوقت والإمكانيات، الانتقال بنا من لغة “عالمية” إلى أخرى؟ (من الفرنسية إلى الإنجليزية، مثلا)؟
فيما يتعلق باللغة المستعملة، أو التي يجب استعمالها للتدريس، هناك مشكل حقيقي في المغرب، يكمن في أن الكثيرين من نخبنا المقررة ومن الجمهور، يحتاجون إلى نظارات كبيرة جدا لتصحيح المشكل العويص في النظر، الذي يعانون منه حتى يتمكنوا من رؤية ما يقع في العالم القريب والبعيد؛ خارج الدائرة الضيقة المعتادة والمتمحورة حول فرنسا. والحديث عن اللغات العالمية نفسه يحتاج إلى توضيح، لأننا في المغرب نكاد نحصر هذه اللغات في الفرنسية و الإنجليزية، وأحيانا نضيف لهما الإسبانية والألمانية. كأننا ننفي عن باقي لغات العالم –من ضمنها العربية– صفة العالمية. وهو خطأ فادح ينم إما عن جهل، أو عن سوء نية لدى من لهم أهداف من وراء ذلك.

الملاحظ أن الفرنسية التي تتوفر على لوبي قوي بالمغرب، آخذة في التراجع عالميا.. فلماذا التمسك بها لغة للعلم والتعلم؟الفرنسية –وفرنسا نفسها– أصبحت خارج دائرة المنافسة عالميا، اقتصاديا وعلميا وحضاريا، ونحن لا زلنا متعلقين بها لأسباب لا يمكن تبريرها ولا قبولها اليوم. ومن غير المعقول من حيث الكرامة والسيادة للمغرب والمغاربة، أن يستمر البعض في وضع الفرنسية في مكان من القدسية، كأننا لا زلنا دولة مستعمرة أو تابعة أو مستلبة من فرنسا. وإذا كنا فعلا نحتاج لغة ثانية لتقوية انفتاحنا على العالم، فإن الفرنسية ليست هي الأداة الصالحة لذلك.. بل استعمال الإنجليزية هو الذي يجب أن يُناقش. وكما يقال بالدارجة: “اللي بلاه الله بالسعاية يمشي للدار الكبيرة” [من ابتلاه الله بالتسول، فليقصد دارا كبيرة]. و الدار الكبيرة هنا، من بين لغات العالم، هي لغة شكسبير [الإنجليزية]. أما لغة موليير[الفرنسية] فقد تجاوزها القطار بمحطات عدة.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن المغرب اليوم عبر موقع أفريقيا برس