المهدي مبروك
أفريقيا برس – تونس. في إثر إضراب خاضه، الأسبوع الماضي، الاتحاد العام التونسي للشغل في قطاع النقل العمومي، شنّ أنصار النظام حملةً عليه، بدأت بمظاهرة اتجهت صوب قلعته الحصينة وسط العاصمة تونس، حيث ردّدوا هتافات تطالب بحلّ الاتحاد ورحيل قيادته الحالية ومحاسبتهم بتهم عديدة، منها الفساد وشلّ الاقتصاد… إلخ. تجنّب أعضاء المكتب التنفيذي ردّة الفعل، وفي تصريحاتهم نسبوا الاحتجاجات إلى عناصرَ مجهولة متجنّبين التصعيد. غير أن الرئيس قيس سعيّد، في لقائه رئيسة الحكومة سارة الزعفراني، تعرّض لتلك الأحداث، وألمح إلى ضرورة محاسبة قادة الاتحاد على “هدر” مال المؤسّسة، ذاكراً مظاهر البذخ التي رافقت أنشطته، مقارناً، في الوقت نفسه، زهد روّاد العمل النقابي بالبلاد من أمثال محمد علي والطاهر الحدّاد وغيرهم، بثراء بعض قادة الاتحاد الحاليين، ما ينذر بفتح جبهة صراع عليهم، قد تبدأ بفتح ملفّات فساد ومقاضاة بعضهم.
“الاتحاد العام التونسي للشغل أطول عمراً من الدولة الوطنية”… عبارة يردّدها أبناء الاتحاد وأصدقاؤه في شكل من التباهي لبيان عراقة الاتحاد وعمره المديد. وليس هذا ادّعاءً باطلاً، لقد نشأ الاتحاد قبل ميلاد الدولة الوطنية بما يناهز عقداً. كان أوّل نقابة عمّالية في العالم العربي وأفريقيا. كان ميلاده زمن الاستعمار فرصة نادرة هيأته لأن يلعب دورَين أساسيَّين، دور وطني تصدّى بمقتضاه الاتحاد للاستعمار، وقد اختار مؤسّسه المرحوم فرحات حشّاد الانسحاب من أنماط الاستعمارية كافّة، وقد جرّبها وخبرها، ورأى فيها رديفاً للاستعمار ومنحازة للرأسمال الاستعماري على حساب عمّال البلد، وظلّ، من حين إلى آخر، يلتقي زعماء الحركة الوطنية، ومنهم الحبيب بورقيبة، للتنسيق حول رفع وتيرة النضال الوطني، حتى دفع حياته ثمناً لهذا الدور. اغتالت “اليد الحمراء” (تنظيم إرهابي فرنسي) فرحات حشّاد في 5 ديسمبر/ كانون الأول 1952 في رادس، جنوبي العاصمة تونس.
الدور الثاني الذي لعبه الاتحاد اجتماعي، مثّل فيه العمّال زمن الاستعمار، ودافع عن مصالحهم الطبقية، ولا يزال يقوم بهذه المهمة. تشكّلت لديه عقيدة عمّالية حية، تحوّلت إلى ما يشبه الحزب النقابي، خصوصاً بعد الاستقلال. وإذا كان التيّار المستقلّ، الذي ينسب إلى زعيمه التاريخي، المرحوم الحبيب عاشور، قد صاغ التوجّهات الكُبرى لهذه المنظمة النقابية الكبيرة، فإنه ظلّ يسحب تدريجياً إلى اليسار، خصوصاً في ظلّ صعود لافت لممثّلي قطاعات وازنة فيه، على غرار التعليم والنقل والصحّة، وهي نقابات استطاعت خلال العقود الماضية أن تكون الحربة التي بها يصارع الاتحاد خصومه، سواء كانت الدولة ممثّلة للقطاع العام، أو رأس المال ممثلاً في القطاع الخاص من أبناء البلد، أو المستثمرين الأجانب.
شكّلت هذه السردية المغرورة ثقافة صلبة تردّد أهازيجها وأغانيها وشعارتها في اجتماعات الاتحاد وتحرّكاته الاحتجاجية، ولا يتوانى قادة الاتحاد في ترديديها إذا ما استشفّوا مواجهة قادمة مع النظام السياسي. غير أنه لا يمكن إنكار أن العلاقة بين قيادة الاتحاد والنظام الحاكم عرفت بدورها منعطفات وأشكال مختلفة، تراوحت بين المواجهة العنيفة، على غرار ما حدث في يناير/كانون الثاني 1978، حين سقط مئات الشهداء النقابيين دفاعاً عن الاتحاد واستقلاليته، في واحدة من أكثر المواجهات الدموية بين الاتحاد والدولة، وبين الاحتواء والتكامل في فترات عديدة، لعلّ أهمها تلك التي جمعت قيادة الاتحاد مع نظام زين العابدين بن علي، حتى قامت الثورة سنة 2010، وبعد تردّد وضغط عالٍ وهادر استجابت القيادة النقابية إلى مطالب القواعد النقابية العريضة، وتحرّك الاتحاد مساهماً في إسقاط النظام، وتأجيج الثورة الشعبية في مدن الداخل على غرار صفاقس وجندوبة… إلخ.
دخل الاتحاد مرحلة الانتقال الديمقراطي، منتشياً بتلك الأدوار التاريخية كلّها التي قدّمها، سواء على صعيد دوره الوطني أو دوره الاجتماعي، وظلّ متمسّكاً بأن يلعبهما حتى بعد أن زالت الديكتاتورية، وبدأت النُّخب السياسية ترسي نظاماً سياسياً تعدّدياً.
مشاعر العظمة والغرور التي انتشى بها القادة النقابيون جعلتهم فوق النقد، حتى أجازوا لأنفسهم احتكار حقّ الفيتو السياسي، فعيَّنوا مَن شاءوا من قادتهم السابقين، والمحسوبين عليهم في الكواليس، أعضاء في مختلف الحكومات (وزراء، كتّاب دولة…)، وكان لهم وحدهم حقّ الاعتراض على أي شخص، سواء في منصب وزاري أو تنفيذي أو في أي مركز رفيع على غرار المديرين العامين للمؤسّسات الإدارية والاقتصادية، وكانت لهم الكلمة الفصل في مختلف الحوارات السياسية أو الاجتماعية التي عرفتها البلاد خلال عشرية الانتقال.
صدرت من قادة الاتحاد تصريحات فيها كثير من العنجهية، على غرار أنهم “أكبر قوة في البلاد”، وأنه “لم يولد بعد من يراقب الاتحاد أو يحاسبه”… إلخ. القيادة الحالية، وقد ضمّت شخصيات يسارية متشنّجة، حوّلت الاتحاد حزباً يسارياً معارضاً ذا نزعات إقصائية. لقد تحالف الاتحاد مع الجبهة الشعبية وكثير من مكوّنات المجتمع المدني اليساري، لأجل إسقاط حكومة “النهضة” وحلفائها. حطّم الاتحاد الأرقام القياسية بشهادة منظّمة العمل الدولية في عدد الإضرابات التي وصلت في السنة الواحدة إلى ما يناهز أربعة آلاف إضراب.
حين أعلن الرئيس قيس سعيّد وضع حدّ لتجربة الانتقال الديمقراطي يوم 25 يوليو/ تموز 2021، والانقلاب على دستور الثورة، لم يتردّد الاتحاد بعد ساعات قليلة في تأييده تحت ضغط القيادات اليسارية المنتمية بشكل صريح إلى بعض التيّارات القومية، حتى إن بعضهم زار دمشق والتقى الرئيس المخلوع بشّار الأسد، أمّا قياداته اليسارية المتورّمة غروراً وصلفاً، فلقد ساندت تلك الإجراءات تأييداً لكلّ الملاحقات التي طاولت خصومهم من الإسلاميين. ولكن لم تشفع لهم هذه المواقف كلّها المنحازة إلى الرئيس. لقد ظلّ سعيّد متوجّساً من الاتحاد لسببَين. الأول، أيديولوجي سياسي، فالرئيس يرى في الاتحاد جسماً وسيطاً مثله مثل الأحزاب، يحول دون مقاربته الشعبوية. والثاني سياسي، إذ يرى الرئيس أن الاتحاد امتداد لمنظومة الفساد التي بنى على محاربتها شرعيته السياسية. يتحدّث أنصار الرئيس عن ملفّات تورّط قيادته، ولقد حسم الرئيس هذا التردّد حين صرّح في لقائه السابق عن “فساد” ينخر الاتحاد، وأن “المحاسبة” ضرورية، ما ينذر بمواجهة محتملة، تؤكّد المؤشّرات كلّها أن الاتحاد لن يقدر على تحمّلها، في ظلّ أخطاء متراكمة ارتكبها، وتبرّم طيف واسع من الرأي العام من ممارساته النقابية التي أضنته.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس