هل يتجه سعيّد إلى “العزل السياسي” والمواجهة؟

24
هل يتجه سعيّد إلى
هل يتجه سعيّد إلى "العزل السياسي" والمواجهة؟

محمد أحمد القابسي

أفريقيا برس – تونس. لم يعد خافياً اليوم، وقد اكتمل في تونس سيناريو استفتاء 25 يوليو “تموز الماضي”، على ما اعتبر دستور الرئيس قيس سعيّد محل الجدل الذي لا يزال قائماً بين رافضيه والمرحبين به من أنصار سعيّد، وذلك تبعاً لِما شاب العملية الانتخابية في مجملها من نقائص وإرباك وتجاوزات وانحسار شريحة المستفتين التي لم تتجاوز ربع التونسيين المسجلين على القوائم الانتخابية.

لم يعد خافياً إذاً نزوع رئيس الجمهورية قيس سعيّد إلى التسريع في خطاه لإعادة صياغة شكل الدولة تحت يافطة جمهورية جديدة أو ثالثة في علاقة بدستوره الجديد، واستناداً للمخيال الجمعي التونسي، وقد ارتبطت الجمهورية الأولى بدستور 1959، في حين كانت الثانية نتاج دستور 2014 الذي انقلب عليه سعيّد. ويبدو أنّ خطى سعيّد المتسرّعة باتجاه صياغة قانون انتخابي جديد يطوي فيه الأجسام الوسيطة من أحزاب ومنظمات، انطلاقاً من سيناريو العزل السياسي الذي سيمضي فيه سعيّد قريباً، وهي مجازفة قد تعصف بما بقي من قيم الدولة الحديثة ومؤسّساتها وثقافتها، فالأحزاب، كما هو متعارف في كل الديمقراطيات، رغم انحراف بعضها ماضياً وحاضراً تظل من مكملات الدولة، ومن شروط اللعبة الديمقراطية. وبخلاف ذلك، تجمع كل الأدبيات في هذا المجال على أن الدولة لن تستقر في هذه الحالة إلا بسلطة الاستبداد وهيمنته وارتداداته الخطيرة.

ورغم الدعوات الكثيرة والملحّة من جهات داخلية وخارجية، تدعو سعيّد إلى فتح باب الحوار ومجال التشارك في وضع “أو تعديل” النظام الانتخابي الجديد الذي ستنتظم به الانتخابات التشريعية في 17 ديسمبر/ كانون الأول المقبل، فإنّ الرجل لا يستبعد أن يمضي وحيداً ومنفرداً لصياغة هذا النظام الانتخابي، وبذلك سيضع نفسه ومسانديه في مواجهة مع معارضيه الذين تتسع دوائرهم من يوم إلى آخر، خصوصاً مع أحزاب كبرى انبنت عليها الحياة السياسية في تونس، والسؤال اليوم: أي مشهد سياسي ستعرفه تونس في حال توجه سعيّد إلى العزل السياسي وطيّ صفحة الأحزاب وإخراج شخصيات وازنة من اللعبة السياسية، وذلك كله بتعلّة أن لا حق في السياسة لكل من كان فاعلاً قبل انقلاب 25 يوليو 2021؟.

ويؤكّد تراكم مؤشّرات عديدة أن الانتخابات التشريعية لن تكون صورتها ولا مرجعيتها ولا نتائجها على غرار الاستحقاقات الانتخابية السابقة التي شهدتها تونس من 1959 إلى 2019، فاستناداً إلى نقاشات فتحتها جمعيات ومنابر أكاديمية وأحزاب ومنظمات اجتماعية، بعد نشر مشروع الدستور الجديد في الجريدة الرسمية، فإنّ هناك إجماعاً على أنّ الخطوة الأولى التي سيخطوها سعيّد ستكون في مرمى تغيير القانون الأساسي المتعلّق بالانتخابات، وذلك بجرّة قلم ومن دون استشارة أحد، لأن من تجاهل هذه الأحزاب والمنظمات ونتائج أعمال الهيئة الاستشارية التي أحدثها بنفسه بغرض وضع الدستور الجديد الذي رماه جانباً لا يُنتظر منه أن يفتح باب الحوار وقد أغلقه سابقاً بشأن القانون الانتخابي معدلاً أو جديداً، فالرئيس سيصدر كالعادة مجلة انتخابية جديدة بمرسوم. وقد لا يكتفي بذلك، فربما سيغير القانون المتعلق بالأحزاب والمرسوم المتعلق بالجمعيات وبهيئات عتيدة على غرار “الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري” وغيرها.

وتتزايد اليوم أمام هذا النزوع الجارف لقيس سعيّد لهدم ما هو كائن، وتأسيس ما سيخدم مشروعه القاعدي الهلامي، المخاوف في أوساط معارضي الرئيس وبين المراقبين، ولدى جهات ساندته ثم استعادت صحوتها. وأسباب هذه المخاوف تبدو جلية وواضحة، فهذه الإجراءات التي سيقدم عليها سعيّد لا تجري في ظروف عادية، بل هو ينجزها في سياقات سريان الحالة الاستثنائية، واستناداً إلى الفصل 14 من دستوره الجديد الذي ينص “على أن يستمر العمل في المجال التشريعي بأحكام الأمر الرئاسي عدد 117 لسنة 2021 والمؤرّخ في 22 سبتمبر/ أيلول 2021 المتعلق بالتدابير الاستثنائية إلى حين تولي مجلس نواب الشعب وظائفه بعد تنظيم انتخاب أعضائه”. وفي قراءتهم هذا الفصل، يجمع خبراء حقوقيون على أن سعيّد يمكنه، استناداً لذلك، تغيير المنظومة القانونية برمتها المتعلقة بالانتخابات وبالاستفتاء، عبر مراسيم يصدرها، وهو ما تأكد صراحة على لسانه في دعوته رئيسة الحكومة نجلاء بودن إلى ضرورة إعداد مشروع مرسوم يتعلق بالانتخابات الخاصة بمجلس نواب الشعب المقبل، والغرفة الثانية التي سيحدثها، أي المجلس الوطني للجهات والأقاليم والمثيرة للجدل، إذ يعتبرها الجميع تأسيساً صريحاً للنظام القاعدي الذي يمضي سعيّد باتجاهه.

وقد سبق هذا البيان تصريح لسعيّد من شارع بورقيبة في العاصمة تونس، قال فيه إن أول قرار سيتخذه بعد الاستفتاء هو وضع قانون انتخابي جديد، فهو يرى أن الانتخابات في السابق تتم بدون مشروعية من الناخبين، وأن من يتم انتخابه يستمد مشروعيته ممن رشّحه. مباشرة بعد هذا التصريح، تعالت أصوات من محيط سعيّد للمطالبة بأن يتضمّن هذا القانون الانتخابي الجديد قانوناً للعزل السياسي يمنع كل الأطراف والأحزاب والشخصيات التي قادت السنوات العشر الماضية من الترشّح للانتخابات المقبلة. وجاءت الدعوة إلى هذا الإجراء في ظل انسداد الأزمة السياسية وبلوغ الصراع بين قيس سعيّد ومعارضيه، في مقدمتهم حركة النهضة ورئيسها راشد الغنوشي، أعلى درجاته، بما زاد في منسوب الاحتقان وتضاريس الاصطفاف وخطر الاحتشاد في الشارع.

قيس سعيد والسلطة

وقد قوبلت هذه الدعوة إلى العزل السياسي بخشية كبيرة من الناشطين والفاعلين في المجتمع المدني، خوفاً من إمكانية تكرار العزل السياسي الذي جرى انتهاجه في تونس بعد الثورة، بدفع من حركة النهضة نفسها، والذي أدى إلى إبعاد خصومها من الحكم، وقد تم ذلك الإقصاء بمقتضى المرسوم عدد 35 لسنة 2011 المؤرّخ في 10 مايو/ أيار 2011، والمتعلق بانتخاب أعضاء المجلس الوطني التأسيسي. وجاء في ديباجته ما يهدف إلى الإقصاء السياسي لخصومها، وأمام تصدّي المجتمع المدني لهذا الإجراء، وضماناً لبقائها في المشهد السياسي خصوصاً بعد اغتيال الناشطين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، تخلّت “النهضة” عن توجهها إلى العزل السياسي، مسدلة الستار عن ذلك بوضع راشد الغنوشي يده في يد الراحل الباجي قايد السبسي مؤسس حزب نداء تونس، الحزب الذي عاد من خلاله سياسيو أمس من حزب الرئيس بن علي إلى الحكم، وسنّوا قانون المصالحة، وأعلنوا تجربة حكم وفاقية بينهم وبين “النهضة”.

وها هو اليوم قيس سعيّد يسعى إلى القيام بما قام به عدوه السياسي راشد الغنوشي بالأمس القريب، ولكن هذا التوجه يُجابه في الواقع برفض جل المنظمات الحقوقية التي تعتبره أرضية خصبة لإقصاء آلاف التونسيين، اعتماداً على انتمائهم الحزبي خلال السنوات العشر الماضية. وترى هذه المنظمات أن تونس طرف قائم في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وعليها تبعاً لذلك أن تسمح لجميع المواطنين بأن يشاركوا في إدارة الشأن العام مباشرة، أو بواسطة ممثلين ينتخبونهم في كنف الحرية ومن دون تمييز وقيود غير منطقية. كما أن الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان، وتونس طرف فيه، نصّ هو أيضاً على أن تضمن الدول حق كل مواطن في المشاركة الحرّة لتسيير شؤون البلاد، ويعلو صوت هذه المنظمات الحقوقية، معتبراً أن توجه سعيّد إلى العزل السياسي مجازفة خطيرة، من شأنها أن تحكم دوائر العزلة التي دخلتها البلاد، وأن ترفع منسوب الاصطفاف والتوتر بين فئات الشعب الواحد، علاوة على خرقها كل القوانين والأعراف، لذلك تدعو هذه المنظمات قيس سعيّد إلى أن يكون القضاء هو الفيصل بالنسبة للأفراد والأحزاب التي تروم دخول الانتخابات المقبلة، فإن كانت لهم جرائم حزبية أو تجاوزات قانونية أو مالية على رئيس الدولة إحالة أصحابها إلى القضاء، والمتهم بريء حتى تثبت إدانته، كما يقولون، ذلك أن سن قانون للإقصاء غير مبرّر، وأن استمرار خطاب الرئيس في نعت خصومه بالخونة والفاسدين والمجرمين في حق البلاد أمرٌ يجب أن يتوقف فوراً والبلاد مقبلة على انتخابات تشريعية جديدة.

أخيراً، يمكن القول إنّ أنظار التونسيين تظل معلّقة باتجاه ما سيفعله سعيّد في قانون الانتخابات، والأرجح أنه سيمضي في سنّ ما يضمره من عزل سياسي، وطيّ صفحة الأحزاب والشخصيات التي تعارضه، على غرار حركة النهضة و”قلب تونس” و”مشروع تونس” و”آفاق” وغيرها، وبذلك يكون سعيّد قد اختار مواجهة مع الجميع غير معلومة العواقب.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس اليوم عبر موقع أفريقيا برس

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here