الأدب الإريتري بالعربية: صوت منفي لاستعادة الوطن إبداعيا

الأدب الإريتري بالعربية: صوت منفي لاستعادة الوطن إبداعيا
الأدب الإريتري بالعربية: صوت منفي لاستعادة الوطن إبداعيا

خلود الفلاح

أهم ما يجب معرفته

يستعرض المقال الأدب الإريتري المكتوب بالعربية، مسلطًا الضوء على التحديات التي واجهها الأدباء في ظل الظروف القاسية التي مرت بها إريتريا. يتناول المقال دور الأدب في الحفاظ على الهوية الوطنية والثقافية، وكيف أن الكتابة أصبحت وسيلة للمقاومة والتعبير عن معاناة الشعب الإريتري في المنافي. كما يبرز أهمية الأدب في توثيق تجارب النزوح واللجوء.

أفريقيا برس. تقع إريتريا في شرقي القارة الأفريقية وتحاذيها دولتان عربيتان هما السودان وجيبوتي، في حين تمتد شواطئها لأكثر من 1100 كيلومتر على البحر الأحمر مقابل اليمن والسعودية. ورغم ما تمتلكه البلاد من رصيد ثقافي كبير، فإن الظروف القاسية التي مرت بها أسهمت في تهميش الأدب الإريتري.

خلال إعداد هذا التقرير، استغرق البحث وقتا طويلا للعثور على أسماء بارزة في المشهد الأدبي الإريتري سواء في الداخل أو الخارج، مما يعكس حالة عزلة يعيشها هذا البلد. ومن جهة أخرى، لا يزال الأدب الإريتري بعيدا عن دائرة اهتمام القارئ العربي الذي يعرف أسماء قليلة جدا.

التنوع اللغوي

في هذا السياق، يعد الكاتب محمد سعيد ناود (1926-2010) حجر الأساس في الرواية العربية الإريترية، إذ قدم أول عمل روائي باللغة العربية بعنوان “رحلة الشتاء.. صالح”، الصادر عام 1978 عن دار الكاتب العربي في بيروت. وقد شكلت الرواية محطة فارقة في تاريخ الرواية الإريترية.

يتسم الأدب الإريتري بتنوع لغاته نتيجة التاريخ الطويل بين الاستعمار والحركات التحررية. فالكتابة الإريترية تشكلت في بيئة لغوية واسعة تشمل التغرينية والعربية، ومع ذلك ظلت الكتابة سلاحا للمقاومة وحفظا للهوية، لاسيما مع نزوح المثقفين إلى المنافي البعيدة.

وبعد استقلال البلاد عام 1993، ظل المشهد الأدبي في الداخل يمارس رقابة ذاتية خوفا من التعرض للأذى. في المقابل، ازدهرت الكتابة الإريترية في المهجر، حيث نشر العديد من الأدباء أعمالهم، مما منح الأدب الإريتري نافذة أوسع للوصول إلى القارئ العربي.

حرب ونزوح وحرية

يرى الروائي الإريتري هاشم محمود أن أدب الشتات الإريتري لعب، ولا يزال يلعب، دورا محوريا في صون الهوية الوطنية والثقافية للإريتريين، وبخاصة في ظل التشتت الجغرافي الذي عانوا منه خلال فترات الاستعمار والنزوح والحروب؛ فحفظ الذاكرة الجماعية، وعزز الانتماء الثقافي، وربط بين جيل المنفى وجيل الوطن، وكان في أكثر نصوصه الإبداعية منبرا للمقاومة بالكلمة والنضال بالأدب، وساهم في إيصال الصوت الإريتري إلى العالم، وعرف بمعاناة الشعب وكفاحه ضد الظلم والاستعمار.

ويضيف: أدب الشتات، أو أدب الدياسبورا (diaspora)، هو أدب المجموعات التي تعيش خارج وطنها الأم، وأصحابه هم الكتاب الذين مارسوا ويمارسون فعل الكتابة خارج أوطانهم ولغاتهم الأم، في وضعية اللا استقرار، وبحس فجائعي، وإحساس بالاضطهاد والخوف والاقتلاع، لأنهم يكتبون عن وطن في الذاكرة سيستوطن بدوره الورق، ويكتبون عن أوطان افتراضية، وبحس عنيف بالرفض وعدم القدرة على التلاؤم والاندماج في المجتمعات المضيفة، وحنين مضن إلى العودة.

وعلى جانب آخر، يتساءل القاص الإريتري جمال همد، وهو صحافي أيضا، “لا أدري إلى أي حد يمكن أن ينطبق مصطلح أدب الشتات على حالة الأدب الإريتري المكتوب بالعربية في حالته الراهنة؟”، ويستطرد “ومع ذلك أراهن وأقول إن المنفى أو اللجوء لم يكن خيارا للأدباء الإريتريين عامة، وخياري بشكل خاص تحديدا”.

ويلفت همد “هذه الحالة القسرية فرضت على الأدب الإريتري، وأخص هنا السرد، مثل قلق أسئلة العلاقة مع المكان، والانبتات والغربة القسرية، وما تفرضه سياقات الحياة الجديدة التي فرضت عليه. لذلك عليه التصدي لهذه الأسئلة، ونستطيع القول إنه يعمل أيضا لمواجهة أسئلة الهوية وتعقيداتها، وبعث الذاكرة الجمعية الوطنية لشعبنا، وترميم ما لحق ويلحق بها من غبار سياسات الاقتلاع، وما تسمى بالبوتقة الوطنية التي تحاول صناعة شعب جديد بذاكرة جديدة تتناسب وفكرة التدجين والشمولية. كما يوجه الأدب سؤال الوطن نفسه والتهديد الذي يواجهه، هذا بجانب تصاريف الحياة اليومية وما تمثله من أعباء على المشتغل بالفنون والآداب في حياته في عالم جديد لم يكن مخططا له”.

وفي هذا الصدد، أفادت الكاتبة الإريترية فاطمة موسى بأن: الروائيين الإريتريين وثّقوا معاناة الحروب والنزوح واللجوء، منهم أبو بكر كهال بروايته “تيتانيكات أفريقية” وهاشم محمود برواية “فجر أيلول” وحجي جابر برواية “مرسى فاطمة” وعبد القادر مسلم بروايته “أزمارينو” ومحمود شامي بروايته “التاسع من مارس”، وقد نقلت أعمالهم صوت الذين فقدوا وطنهم، وخلدت تجربة النضال والبحث عن الحرية.

تعدد لغوي وثقافي

وحول ما الذي يميز الأدب الإريتري عن آداب الدول الأفريقية والعربية الأخرى، تقول الشاعرة منى محمد صالح إن هذا الأدب يتميز بخصوصية فريدة تنبع من موقعه بين عالمين، ومن تشكله داخل تجربة تاريخية قاسية بين الاستعمار والحرب، والقمع والمنفى. ففي إريتريا، تحولت الكتابة إلى فعل نجاة ومقاومة أكثر من كونها مجرد ممارسة إبداعية، فحملت النصوص نبرة متميزة تقف على تخوم العربية والأفريقية دون أن تذوب في أي منهما، مما يجعلها مختلفة عن محيطها، ليس من باب التفاضل، بل من باب اختلاف التجربة وظروف التكوين والبيئة التي صاغت النص.

وتضيف “تستمد هذه الخصوصية قوتها من أن العربية ليست لغة وافدة، بل جزءا أصيلا من وجدان البلاد منذ الهجرة الأولى، مرتبط بالدين والتاريخ والذاكرة الشفوية. لذلك تبدو النصوص حية، ومشحونة بالأسئلة والتوتر، غالبا خارج المؤسسات الثقافية، ويعتمد الكاتب على صوته الفردي لحفظ ذاكرة جماعية قاومت الإقصاء بكل قوتها، مع مزج التعدد اللغوي والثقافي بين الموروث الشعبي والهوية الفردية. التجربة السياسية، من رقابة صارمة وحروب طويلة وشتات واسع، منحت النصوص كثافتها وحرارتها الوجدانية، فصارت الكتابة امتدادا للجرح، واللغة مشحونة بأسئلة الحرية والوجود والهوية، وحركة الذات في مواجهة المنفى والفقد”.

وتشير فاطمة موسى إلى أن الآداب والثقافة مرآة الهوية الإريترية، تعكس تنوعها العرقي والجغرافي من أريافها ومدنها وهضابها الجبلية وسهولها وجزرها وسواحلها الطويلة على البحر الأحمر. ومنذ القدم عبر الإريتريون عن وجدانهم من خلال القصائد والملاحم الشعرية المصحوبة بألحان الربابة وإيقاعات الطبل، لتروي قصص البطولة والكرامة والحنين إلى الوطن، وهي من أهم روافد الثقافة الإريترية التي غذت الهوية الوطنية. وعلى مدى ثلاثين عاما، واجه الإريتريون الاحتلال الإثيوبي، الناتج عن سياسات الاستعمار البريطاني بعد الحرب العالمية الثانية، بصبر وإصرار حتى تحقق الاستقلال يوم 24 مايو/أيار 1991، وتوجت المسيرة بإعلان الاستقلال رسميا عام 1993، معززة الوحدة الوطنية.

ويعني ذلك، بحسب فاطمة موسى، أن الأدب الإريتري لعب دورا محوريا في دعم الثورة وتعزيز الهوية. كتب الشعراء مثل محمد عثمان كجراي وأحمد سعد ومحمد مدني عن المقاومة، في حين صدحت من المهجر الشاعرة الراحلة شريفة العلوي بقصائد الغربة والحنين إلى الوطن. كما ساهم الفنانون الأمين عبد اللطيف ويماني باريا وعبد الرحيم عثمان وإدريس محمد علي في نشر الثقافة الإريترية وتعزيز هويتها من خلال الأغاني والأشعار بلغات الشعب المتعددة، لتكون أيضا رافدا أساسيا من روافد الثقافة الإريترية.

وتستدرك “رغم العزلة والتغييب الإعلامي، يواصل الأدباء والكتاب تقديم نتاج فكري وأدبي يترجم إلى لغات عالمية ويحصد الجوائز، في مسعى لفك العزلة الثقافية والتواصل مع شعوب المنطقة والعالم. إريتريا ليست مجرد وطن، بل لوحة فسيفسائية نابضة بالحياة، كما وصفتها الشاعرة الراحلة شريفة العلوي: (إريتريا زمردة الهويات)، وهو تنوع يتجسد في تراثها العريق وامتدادها التاريخي كمركز حضاري وتجاري منذ القدم”.

محمد سعيد نادو

ويلفت هاشم محمود إلى أن الأدباء الرواد في كل لغة من لغات العالم هم حملة المشاعل التي تضيء الطريق لمن يجيئون بعدهم، وهم الذين يضعون قواعد الفن في بلادهم. وقد قام الأدباء الإريتريون الأوائل، مثل محمد سعيد ناود، بدور محوري في تأسيس الأدب الإريتري بالعربية من خلال التعبير عن الهوية الوطنية والقضايا السياسية والاجتماعية لإريتريا عبر مختلف الأشكال الأدبية كالشعر والقصة. فقد ساهموا في تأصيل الأدب الإريتري من خلال محاكاتهم للأدب العربي الحديث في عصره وتطويره ليعكس واقع إريتريا وتاريخها، وذلك عبر أعمالهم الأدبية التي تناولت قضايا النضال الوطني والوحدة الوطنية وتعزيز الوعي الاجتماعي.

من جانبه، يرى جمال همد أن رواية “رحلة الشتاء.. صالح” للراحل المؤرخ والقائد السياسي محمد سعيد ناود يؤرخ لها كأول رواية إريترية مكتوبة بالعربية، رغم ما يعتريها من مشكلات فنية وتكنيكية وأسلوبية أقرب إلى التقريرية، مما يضعها في ما يمكن تسميته بالأدب التقريري والسرد المباشر، علما بأنها صدرت نهاية السبعينيات في وقت كانت فيه الرواية العربية في تمام عافيتها. ومع ذلك، فهي تستحق أن يؤرخ بها، علما بأنها الرواية الوحيدة لمحمد سعيد.

ويكمل همد “قد تأخرت القصة والرواية في إريتريا عن الظهور لعقود لعدة أسباب لا مجال هنا لسردها، ومع ذلك فكل المنتج الأدبي السردي الذي ظهر بعد التحرير نستطيع القول بارتياح إنه جاء مكتملا. اليوم بين أيدينا أسماء في الرواية والقصة أمثال أبو بكر كهال، وحجي جابر، والمغيب إدريس سعيد أبعري فك الله أسره، وعبد القادر حكيم، وخالد محمد طه، وجمال همد، ومنى محمد صالح، وفتحي عثمان، وهاشم محمود، وغيرهم”.

وتحدثت منى محمد صالح عن رواية “رحلة الشتاء.. صالح” لمحمد سعيد ناود بوصفها أول رواية بالعربية في الأدب الإريتري مزجت بين الذاكرة الوطنية والخيال، وأرست وعي الشعب الإريتري وهو يصنع تاريخه في المشهد الأدبي والثقافي معا.

وتابعت “ثم جاءت أصوات بارزة مثل الروائي أبو بكر كهال الذي كتب عن تجارب الشتات والهجرة في أشد لحظاتها ألما، وعن المخاطر الإنسانية التي رافقت الجغرافيا الإريترية أينما حلت. حجي جابر اشتغل على أسئلة الهوية والتشظي الثقافي. القاص جمال همد قدم صوتا عميقا لتحركات الذات الممزقة بين مكانين ولغتين. محجوب حامد قدم، في وجدانيات السرد، التراث الإريتري وأوجاع الأمكنة بين الداخل والمنفى. وفي الشعر، رسخ أحمد سعد، ومحمد عثمان كجراي، وأحمد عمر شيخ عبد الرحمن سكاب، ومحمد محمود الشيخ ما يعرف بـ”شعر العبور”، الذي يجمع الإيقاع العربي والانتماء الثقافي لشرق أفريقيا، ويعبر عن الوطن والهوية والشتات بمزيج من الموروث الشعبي والوعي السياسي والوجدان الفردي، مانحا النصوص عمقا وثراء خاصا”.

وتضيف “تفرد الأدب الإريتري ليس حكما على الآداب الأخرى، بل هو انعكاس طبيعي لتجربة الإريتريين نفسها، تجربة صنعت من هشاشة الرحلة قوة سردية وشعرية، ومن الذاكرة شكلا من أشكال النجاة، ومن صلابة الروح صوتا أدبيا فريدا يجاور الجميع ولا يشبه إلا ذاته”.

كاتبات إريتريا

في المقابل، تحدث الروائي الإريتري عبد الوهاب حامد عن دور الأدب الإريتري في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية في إريتريا، فقد عانى الشعب الإريتري من ويلات الاستعمار، وكان نتيجة ذلك العديد من الأناشيد الثورية والوطنية التي ساهمت في الفعل الثوري الذي أفضى إلى الحرية والاستقلال، الذي لعب فيه الأدب دورا مهما ربما أكثر من البندقية.

ويردف حامد “بدأ الأدب يزدهر عقب الاستقلال ويتصدى لمعالجة القضايا الاجتماعية والسياسية والثقافية، وحدث تطور مهم تمثل في بروز وجوه جديدة ساهمت في إثراء الساحة الثقافية، خاصة في الرواية والشعر والقصة المكتوبة باللغة العربية. لا ينظر في إريتريا إلى التعدد اللغوي كأداة من شأنها أن تعيق أو تؤثر سلبا على المشهد الأدبي، إلا أن ما حدث من تعدٍ وإقصاء متعمد للغة والثقافة العربية وضعها في مأزق قد يحد من وجودها في إريتريا، خاصة بعد رحيل معظم الكتاب والأدباء الذين أرغموا على مغادرة البلاد”.

وعلى جانب آخر، اعتبرت منى محمد صالح ما يحدث في المشهد الأدبي الإريتري في الداخل مثالا على أن الكتابة الإريترية بالعربية هي فعل مقاومة قبل أن تكون إبداعا؛ إذ يخضع الكاتب للرقابة المسبقة، وأي نص خارج عن المسموح يحجب، وقد يصادر أو يؤجل لمدة طويلة، وحتى مجرد طرح فكرة قد يعرض الكاتب للمساءلة، مما يجعل الكتابة مخاطرة يومية. كثير من الأدباء دفعوا ثمن تمسكهم بحرية التعبير مثل الصحفي والقاص صالح جزائري وإدريس سعيد أبعري صاحب “عظام من خزف”، ومن واجهوا سلطة لا تمنح مجالا للرأي المستقل أو التعبير الحر.

تزداد التحديات تعقيدا بالنسبة للنساء الأديبات اللواتي يواجهن قيودا اجتماعية وثقافية إضافية تجعل التعبير عن الذات أكثر صعوبة، وتجعل الكتابة مقاومة مزدوجة للسلطة وللضغوط الاجتماعية.

ويعني ذلك، بحسب منى محمد صالح، أن الأدب يعاني من غياب البنية الثقافية الداعمة؛ فلا مكتبات عامة، ولا دور نشر مستقلة، ولا اتحادات فاعلة، مما يجعل الكاتب يبدأ دائما من نقطة الصفر، وغالبا يجد أعماله بلا قارئ، فيصبح النص مهاجرا قبل صاحبه. حتى اتحاد الكتاب الإريتريين في الخارج لا يغني عن الفجوة بين الداخل والشتات. فالمنفى الطويل يفرض تحديا إضافيا، يجبر الكاتب على الكتابة بعيدا عن جمهوره الطبيعي، محملة نصوصه بالحنين والشعور بالغياب. ويواجه الكاتب أيضا تحديات التعدد اللغوي بين العربية والتغرينية وأحيانا الإنجليزية، مما يثري النصوص لكنه يضاعف الإحساس بالتمزق بين الجذور والانتماء الجديد.

وتختم “رغم ضعف الترجمة، وغياب مؤسسات النشر، وعزلة الأدب أمام القارئ العربي، فإن الأدب الإريتري يظل حيا، مقاوما للطمس، وناقلا للذاكرة والثقافة. التحدي الأكبر هو ضمان وصول صوت الكاتب إلى القارئ، وربط ما يكتب في الداخل بما ينتج في الشتات، ليبقى الأدب شاهدا صادقا على شعب لم يتخل عن قصته رغم القمع والغياب، ولتظل الكتابة أداة مقاومة وحفظا للهوية”.

المصدر: الجزيرة نت

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here