أفريقيا برس – مصر. لم تكن زيارة رئيس جمهورية القمر المتحدة، عثمان غزالي، إلى القاهرة، الأحد الماضي، مجرد محطة بروتوكولية في سياق العلاقات الثنائية، بل حملت بين سطورها أبعاداً استراتيجية تتجاوز الملفات الاقتصادية والتنموية المعلنة، لتكشف عن ملامح توجه مصري جديد نحو تعزيز الحضور الجيوسياسي في المحيط الهندي والقرن الأفريقي، في وقت تشهد فيه المنطقة سباقاً متسارعاً على النفوذ بين قوى إقليمية ودولية.
وتقع جزر القمر في موقع استراتيجي بالغ الحساسية على المحيط الهندي، بالقرب من مضيق موزمبيق، أحد أهم ممرات التجارة البحرية بين آسيا وأفريقيا. ومن ثم، فإن أي تقارب مصري- قمري يمكن النظر إليه كجزء من تحركات أوسع للقاهرة تهدف إلى تثبيت موطئ قدم لها في منطقة تزداد فيها التحديات، من أزمة البحر الأحمر، إلى التنافس الدولي في السواحل الأفريقية.
وبحسب الخبراء فإن الزيارة تندرج ضمن استراتيجية مصرية صامتة لإعادة التموضع في فضاء طالما هيمنت عليه قوى مثل فرنسا، والهند، والصين، وتركيا، فضلاً عن نفوذ متنامٍ للإمارات والسعودية في أرخبيلات المحيط الهندي. وإذا كانت القاهرة قد ركزت في السنوات الأخيرة على شرق أفريقيا والقرن الأفريقي، فإن جزر القمر تمثل حلقة مكملة لهذا الطوق الجنوبي الشرقي من النفوذ.
وفي خطابه العلني خلال المؤتمر الصحافي مع الرئيس غزالي، أكد السيسي استعداد مصر لدعم “خطة القمر البازغة 2030″، وهي خطة تنموية قمرية طموحة تسعى لتحويل الأرخبيل الصغير إلى مركز لوجستي وسياحي في المحيط الهندي. غير أن الدعم المصري، المعلن في شكل تعاون في قطاعات مثل الصحة والتعليم والبنية التحتية، يمكن قراءته أيضاً باعتباره بوابة لتحريك أدوات “القوة الناعمة المصرية” في فضاء كانت غائبة عنه لسنوات.
ومن المرجح أن تسعى القاهرة لتكرار نموذج “المقاولون العرب” ومشروعات الشركات الوطنية في أفريقيا، لكن الأهم هو أنها تتحرك نحو جزر القمر باعتبارها ساحة جديدة للتوازن مع أطراف تتقاطع مصالحها مع مصر، لا سيما تركيا، التي كثفت من وجودها في جزر القمر خلال الأعوام الماضية عبر اتفاقيات تعليمية ودينية وتنموية.
كما لا يمكن فصل الزيارة عن الخلفية الفرنسية للعلاقات مع جزر القمر، خصوصاً أن باريس تحتفظ بنفوذ قوي في البلاد، وكانت دائماً راعية لنخبه السياسية. ولذا فإن استقبال غزالي في القاهرة قد يعكس توافقاً فرنسياً-مصرياً على تقاسم الأدوار في أفريقيا، خاصة في ظل انحسار الدور الفرنسي في دول الساحل إثر الانقلابات العسكرية، وحاجة باريس إلى شركاء إقليميين قادرين على ملء الفراغ.
ويرى مراقبون أنه بما أن فرنسا تتبنى خطاباً أوروبياً متمايزاً عن واشنطن في ملف البحر الأحمر، فإن تعميق الحضور المصري في المحيط الهندي يعزز من قدرة القاهرة على التفاوض بصفتها لاعباً فاعلاً يتجاوز مجرد الدور الحدودي في سيناء.
كان من اللافت أيضاً في تصريحات السيسي حرصه على التذكير بـ”أهمية التمثيل العادل لأفريقيا في المؤسسات الدولية”، وهي رسالة مزدوجة موجهة للخارج كما للداخل الأفريقي. في هذا السياق، يمكن فهم احتفاء مصر بدول صغيرة مثل جزر القمر، بوصفها حليفة محتملة في معارك التمثيل الدبلوماسي، سواء داخل الأمم المتحدة أو مؤسسات التمويل الدولية.
ويحمل الصوت القمري، رغم ضآلة حجمه الجغرافي، وزناً معنوياً في القمم الأفريقية والدولية، ويمكن أن يُوظف في إطار تحالفات مصرية تحاول إعادة توازن الثقل السياسي داخل القارة، لا سيما مع صعود تكتلات جديدة مثل مجموعة “بريكس+” ومبادرات “جنوب الجنوب”.
وبالمجمل، فإن زيارة رئيس جزر القمر إلى القاهرة، وما تخللها من توقيع اتفاقيات وتعهدات بالتعاون، ليست حدثاً منعزلاً عن سياق أوسع من التنافس على النفوذ في المحيط الهندي والقرن الأفريقي؛ فمصر تدرك أن مستقبل أمنها القومي مرتبط بعمقها الأفريقي والبحري، وأن قوة الدول لم تعد تقاس فقط بترساناتها العسكرية، بل بمدى قدرتها على التمدد الاقتصادي والسياسي في محيطها الحيوي.
وفي السياق، قال السفير محمد حجازي، مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، إن لقاء الرئيس عبد الفتاح السيسي برئيس جمهورية القمر المتحدة، عثمان غزالي، جاء في توقيت بالغ الأهمية، في ظل التطورات المتسارعة التي تشهدها الساحتان الأفريقية والعربية، وكذلك على الصعيد الدولي، وهو ما يستدعي مزيداً من التنسيق والتشاور بين القادة الأفارقة.
وأوضح حجازي أن اللقاء يندرج ضمن سلسلة من الاتصالات الدبلوماسية المكثفة التي أجراها الرئيس المصري مؤخراً، لتعزيز العلاقات مع دول القارة، ومن بينها ما وصفه بـ”دبلوماسية القمة” التي ساهمت في التهدئة بين الكونغو الديمقراطية ورواندا، حيث أجرى الرئيس السيسي مباحثات مباشرة مع نظيريه الرئيس فيليكس تشيسيكيدي والرئيس بول كاغامي، وأسهمت هذه الجهود، إلى جانب وساطات أخرى، في التوصل إلى “اتفاق واشنطن للسلام” بين الطرفين.
وأشار حجازي إلى أن زيارة الرئيس غزالي للقاهرة تعكس عمق العلاقات العربية والإسلامية والأفريقية التي تجمع البلدين، وتؤكد ما أشار إليه الرئيس السيسي من أهمية الروابط التاريخية والثقافية، خاصة مع وجود عدد من الخبراء المصريين العاملين في جزر القمر بمجالات التنمية المختلفة، وكذلك مع تلقي العديد من الطلاب القمريين تعليمهم في الجامعات المصرية، وفي مقدمتها جامعة الأزهر.
وأضاف أن الملف التنموي كان محوراً رئيسياً في المباحثات بين الرئيسين، حيث أعربت جزر القمر عن رغبتها في الاستفادة من الخبرات المصرية، خاصة في مشروعات البنية التحتية، في ظل ما تمتلكه مصر من تجارب ناجحة في هذا المجال. وقد رحّب الرئيس المصري بالتعاون، وتم توقيع عدد من مذكرات التفاهم في مجالات التعليم، والصحة، والثقافة، والاقتصاد، والتجارة، إضافة إلى مشروعات البنية التحتية، بما يعكس رغبة البلدين في تطوير العلاقات الثنائية على نحو شامل.
ونوّه حجازي إلى أن مصر، في انطلاقتها الأفريقية، تولي أهمية كبيرة للتجمعات الاقتصادية الإقليمية، وعلى رأسها الكوميسا، التي تضم مصر وجزر القمر وعدداً من الدول الأخرى. وكانت الزيارة فرصة لبحث ملفات عدة، من بينها تنمية منطقة التجارة الحرة القارية، وتعزيز الروابط الثنائية، ومناقشة الأوضاع في السودان وقطاع غزة، مع التأكيد على أهمية مواصلة الجهود الرامية إلى وقف الاضطرابات الإقليمية والدولية الناجمة عن النزاعات أو السياسات الاقتصادية الحمائية التي تعيق صادرات الدول الأفريقية، بما فيها الدول الفقيرة.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن مصر عبر موقع أفريقيا برس