انتخابات نقابة الصحافيين المصريين

4

عصام شعبان

أفريقيا برس – مصر. بهذه العبارة “عاشت حرية الصحافة، عاشت وحدة الصحافيين”، حيّا خالد البلشي الحضور في نقابة الصحافيين بعد إعلان فوزه بمنصب النقيب متقدّماً على منافسه عبد المحسن سلامة، رئيس مجلس إدارة الأهرام سابقاً، والمدعوم من السلطة ورموزها، وهو التوصيف ذاته الذي حمله خالد ميري، رئيس تحرير صحيفة الأخبار، في الدورة السابقة (2023)، لكنّ كليهما أخفقت محاولاتهما، واختارت كتلة غالبة من الصحافيين مرشّحاً ينتمي إلى تيار الاستقلال النقابي. وفي ذلك مؤشّرات دالة إلى بقاء هذا التوجّه بإرادة الجمعية العمومية، التي أظهر أفرادها حرصاً على التأثير، وتصاعدت مشاركتهم بالانتخابات، فكانت 43% في 2017 لترتفع إلى 49% في 2023، وبلغت في الانتخابات الماضية 60%، بحضور يتجاوز ستة آلاف، أكثر من نصفهم (3346) منحوا أصواتهم للبلشي، ما يظهر أن تطوّراً نسبياً في تيّار استقلال النقابة، مدفوع بفاعلية أجيال جديدة وميراث أجيال سابقة، ما يمنح القدرة على التفاوض من دون التنازل عن استقلال النقابة أو الخضوع لوصاية الدولة، خلافاً لما يروّج أنصار مرشّحي السلطة، ومعها تكون صياغة خطاب نقدي ومواقف حرّة وقوية للنقابة ممكنة، بما يتجاوز فرص التبعية، حين تحلّ قيادة تنتمي إلى السلطة، وتعتمد على أساليب السيطرة البيروقراطية، وتعتبر نفسها أقرب للأجهزة الحكومية متماهية معها.

وكان اختيار الصحافيين الحرية واضحاً، من دون إغفالٍ لسماتٍ لمن فازوا عن جدارة، وإيمان بالاستقلالية النقابية، والمرتبطة بطبيعة المهنة، وألا تكون عملية اختيار قيادتها مهندسةً ومفروضةً ضمن ما درجت عليه السلطة في ممارستها سلوكاً يشكّل ظاهرة التحكّم في كلّ مؤسّسة في المجال العام، لشلّ فاعليتها عبر فرض القيود، أو الدفع بقيادات تمارس الضبط الذاتي للمؤسّسة وأعضائها.

وكان التوجّه نحو استقلال النقابة ومعالجة مشكلات الصحافيين، من دون تفريق بين انتماءاتهم أو مواقفهم السياسية، ضمن أسباب بقاء البلشي في موقعه، بجانب ما أظهره من قدرة في إدارة مجلس النقابة (المتنوّع)، وأعلنت مواقف داعمة للحرّيات، إلى جانب مواكبة الأحداث على المستويين الوطني والإقليمي، خاصّة رفض العدوان على غزّة، وهو ما بين حالات استثنائية كسرت حالة الصمت التي سادت فتراتٍ في عاصمة كانت مركزاً للفاعلية السياسية، ودورتي الانتخاب، بات أكثر وضوحاً، زيادة ثقة وقدرة الجماعة الصحافية في التعبير عن نفسها ومطالبها، بينما اعتبرت السلطة أن تولّي قيادة النقابة من أشخاص ليسوا تابعين لها يُعدّ “اختطافاً”، وهي الدعاية والمغالطة التي حاول مرشّحون ترويجها، لكن آثارها كانت محدودةً، كما الوعود الحالمة والمستندة إلى مفهوم العطايا الحكومية، وبالنظر لمخرجات آخر دورتَين، لم تزد من كتلة المؤيدين لهم كثيراً، وبذلك لم تُعرقل أن يختار الصحافيون طريقاً لتحرير إرادتهم، وتحقيق مطالبهم عبر التفاوض لا اعتبارها مِنَحاً مقابل الإذعان.

ومع انتهاء هذا الاستحقاق، اعتبر بعض مناصري مرشّح الحكومة أن بقاء ممثّلين لتيار الاستقلال في قيادة النقابة نتاج تصويت عقابي، أي ليس دليلاً على الجدارة، غير إخفاق حملة المنافس في استخدام وسائل اتصال حديثة. لكن هذا التبرير، وإن ذكر ملمحاً حقيقياً، وهو رفض ممارسات السلطة ومن يمثّلها، إلا أنه يتجاهل طبيعة الخلاف الرئيس، وهو التوجّهات التي يحملها المرشّحون وسماتهم التي تؤهّل لانتخابهم، وكذلك إيمانهم بفكرة التنوّع واتباع نهج ديمقراطي في الإدارة، والقدرة على التفاوض أيضاً بخطابٍ ذكيٍّ قادرٍ على احترام الاختلاف، وإدارة التنوّع، وهذه النقاط كلّها ضمن مسوّغات الجدارة، ودافعاً لتوجّهات في التصويت لمرشّحين يشتركون معهم في المهنة ذاتها والهموم نفسها، حريصين على حرّية ومصالح زملائهم، وهي مقاييس للاختيار يُراد نزعها بسرديات وصلت إلى حدّ الادعاء أن أطرافاً رسميةً تساند البلشي. وكانت السلطة قد تركت مساحاتٍ لانتخابات من دون تدخّل، ومن دون مرشّحين يمثّلونها، ويتناسى هؤلاء سلوكيات السيطرة على هيئات المجتمع المدني، وحجب التنافس كلّما أمكن في كلّ انتخابات، غير قيود على الصحافة وحرية الرأي بتشريعات عدة، وبسببها ما زال باقياً قيد الاحتجاز عشرات من الصحافيين، إلى جانب آلاف من المواطنين احتُجزوا في قضايا الحقّ في التعبير، واتُهموا بإذاعة أخبار كاذبة.

ولكن يبدو أن أنصار السلطة، بعد أن أخفقوا في تحقيق أهدافهم، يسعون إلى تغطية إحباطهم بهدم همم الآخرين، والتشكيك في جدوى أيّ حراك، في محاولةٍ لنزع ثقة الجماعة الصحافية، وأيّ مجموعة من قدرتها على الفعل، ما يسهّل هيمنة ممثّلي السلطة، ويحدّ من فرص تمثيل الجماعات المهنية لمصالحها، وأيضاً إحداث انقساماتٍ بينها كلّما أمكن، عبر التشكيك فى قدرتها إذا ترشّحت، ونزاهتها إذا نجحت، ما ينشر الإحباط ويعزّز الإيهام بأن أيَّ تفاعلاتٍ تجري في المجال تحت سيطرة الحكومة، ورهينة لإرادتها ومحسومة النتيجة، وأنه لا فرص ممكنة لانتزاع مساحات من الحرية. وبالتالي، لا داعي لمواجهة شخوص السلطة، فالمعارك دوماً خاسرة، والاستبداد سيظلّ قائماً.

في المقابل، كان هناك خطاب حريص على وحدة الجماعة الصحافية، وعلى إدارة التنوّع، والدفاع عن الحقوق من دون تمييز، ولعبَ هذا دوراً في تعزيز فكرة الأمل، وهو شرط أولي لتحقيق إرادة التغيير، وأن تصبح الجماعات المهنية ذات أدوار فاعلة، تفرض نفسها قوّةً مستقلّةّ، وهذا (بين شروط أخرى) لتحقيق شعار “مهنة حرّة ونقابة قوية”، وهو ما لا تريده السلطة بقدر رغبتها في تعزيز الثقة في رجالها دون غيرهم، لترسيخ نمط الولاء المؤسّسي والسياسي، ورمي منافسيهم بالاتهامات علناً أو من خلف ستار، كما حاولت لجان إلكترونية تزامنت مع الحملة الانتخابية، وكانت في أغلبها محلّ استهجان، لما انطوت عليه من سلوكٍ مذموم، يهدف إلى الاغتيال المعنوي من أجل الإقصاء، حتى وإن ادّعى أصحابه الشجاعة في محاربة الفساد، ويبقى غرضه التشويه غير الأخلاقي، ويتجاوز قواعد المنافسة ولا ينفصل عن خطاباتٍ نرجسيةٍ تتصف بتعالٍ وأوهام، وتقليل من شأن المنافسين لإثبات الذات.

إجمالاً، كان المشهد واضحاً ودالّاً، ما بين ملامح الدعاية الانتخابية وأدواتها وسماتها، وصولاً إلى نتائج التصويت؛ إذ ارتفعت أسهم مرشّحي كتلة الاستقلال النقابي، بحضورهم الفاعل ومواقفهم، وجدية المنافسة التي استدعت الحشد، وترتب عليها اتساع نسبة (ومعدّلات) المشاركة لتصبح الأكبر منذ عقود، وذلك دليلُ حيوية، ومكسبٌ يعزّز العمل النقابي، وكان محلّ متابعة واحتفاء بوصفه انتصاراً لإرادة الناخبين. بقي البلشي، وعُزّز مجلس النقابة بعضوية إيمان عوف، وهي صحافية مؤمنة بالعمل النقابي قبل أن تكون في موقعها المستجد. ومجمل المشهد، بما فيه من رؤية وتنافس، قد يدفع الأمل لدى تيّار الاستقلال في نقابات أخرى إلى ترتيب صفوفهم نتيجةً للتفاعل بين مكوّنات المجال العام، لكن نتائج التجربة، مع ما تحمله التجربة نفسها من إشارات، تظلّ في سياقها النقابي، ومهم عدم المبالغة في أنها تمثّل تحوّلاً حتى لا يعود الإحباط مجدّداً، إذ لا تزال ملامح التحكّم السلطوي في أغلب مؤسّسات المجال العام، لكن مواجهته تبدأ بمراكمة المكاسب في طريق طويل.

وحتى تحقيق أهداف التيّار الغالب في الجمعية العمومية، مشروط بقوتها ووحدة حركتها، ما يجعل قيادة النقابة تفاوض الأطراف المختلفة على لائحة المطالب، سواء ما تعلّق بملفّ الحرّيات أو الأوضاع الاقتصادية للعاملين بالمؤسّسات الصحافية، وتظلّ هناك إمكانية للحدّ من القيود، وتوفير مظلّة للحماية تمنع تكرار حالات الحبس، خاصة أن مصر من أكثر الدول ممارسة للتقييد، ما جعلها في المرتبة 170 من أصل 180 دولة في مؤشّر حرّية الصحافة لعام 2024، بينما كانت في المرتبة 159 في 2016 (مراسلون بلا حدود)، ويتكامل ملفّ الحرّيات مع مطالب تساهم في معالجة أوضاع الصحافيين اقتصادياً، هذا بجانب إمكانية عودة التنسيق حول قضايا وطنية وقومية كانت تقوم بها النقابات، ولها فيها صوت مسموع.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن مصر عبر موقع أفريقيا برس

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here