عندما تعجز مصر عن إدخال كيس طحين لغزة

3
عندما تعجز مصر عن إدخال كيس طحين لغزة
عندما تعجز مصر عن إدخال كيس طحين لغزة

عمر سمير

أفريقيا برس – مصر. على مدار الأسبوع الماضي، كانت نداءات الاستغاثة من الجوع عنواناً للأحداث في غزّة، بعد مرور أكثر من 18 شهراً على حرب الإبادة الدائرة هناك منذ 7 أكتوبر (2023)، وبعد أكثر من ثلاثة أشهر على العودة للقتال، والخرق الإسرائيلي للاتفاق الذي تم التوصل إليه بشقّ الأنفس، ولم تستطع البلدان العربية والإسلامية حتى إدخال الكميات المتّفق عليها في إطار هذا الاتفاق.

ينادي الغزّيون في نداءات استغاثة: “كيس طحين يا مصر”، وهو النداء الذي تحوّل وسماً انتشر بشكل واسع أياماً، ثمّ خفُت وكأنّنا جميعاً نسينا أو تناسينا، فما المشكلة؟ هل تبلّدت مشاعرنا أم اعتدنا مشاهد الموت؟ وإذا كنا اعتدنا مشاهد الموت قصفاً وخسفاً بالطائرات أو اصطياداً بالمسيّرات، وهو فعل الجبناء، فهل اعتدنا مشاهد الموت جوعاً؟ صحيح أن هذه المنطقة العربية موبوءة بالحروب عقوداً، ورأينا مشاهد مئات الآلاف في اليمن والصومال وغيرها من بلدان يموتون جوعاً بعد موجات جفاف ومجاعات، سواء بفعل البيئة أو الحروب، لكنّ حال الغزّيين مختلف، فهم يموتون بالتجويع لا بالجوع، فلماذا الاعتياد إذن؟ وهل هو مشهد اعتياد الخذلان؟

يدرك العالم أجمع أن الغرض من سياسة التجويع بعد تدمير القطاع دفع الناس دفعاً نحو التهجير، وهو الهدف الأكبر لبنيامين نتنياهو وحكومته المتطرّفة، ولذا يستعدّ لحشد الجيش لتدخّل برّي واسع، ولا يردعه سوى الخسائر المادّية والبشرية العالية للتوغّل البرّي، التي لا تزال فصائل المقاومة قادرةً على تكبيده كثير منها، وتعود نتيجته على الجبهة الداخلية لدى نتنياهو بمزيد من الاحتجاجات بعد توقيع عشرات الآلاف من النُخب الإسرائيلية عرائضَ تطالب بوقف الحرب واستعادة الأسرى وعدم الذهاب بعيداً، ليس حبّاً في الفلسطينيين، ولا إنسانيةً، بل خوفاً على بقاء دولة الكيان نفسها، وما يهدّدها من تفكّك.

وإذا كان العالم يدرك ذلك، فما الذي حدث لمصر الرسمية، هل لا تدرك هذا حقّاً؟ ألا تدرك أن عدم إدخال الطحين ومقوّمات الحياة للقطاع يعني تنفيذاً عملياً لمخطّط التهجير، سواء توصّلنا لوقف لإطلاق النار أم لا، بعد أن تحوّل القطاع بقعةً غير صالحة للعيش؟.

لا، بل بدلاً من ذلك، فإن مصر الرسمية تبحث عن مبرّر للتخاذل والخذلان والتكاسل عن واجبها القومي في الدفاع عن أرضها أولاً، ودورها وحضورها الإقليمي ثانياً، بالذهاب بعيداً، والقول إن هذا موقف براغماتي ما كان لعبد الناصر لو كان موجوداً بيننا أن يتّخذ أفضل منه، وهو الذي قبل مبادرة روجرز، وقال “اعتبروني انهزاميا وحاربوا أنتم…” إلى آخره من مقتطفات مقتطعة من سياقاتها لتبرير موقف الخذلان الحالي.

أعزائي وإخوتي الغزّيين: قد أسمعتم لو ناديتم حياً، ولكن لا حياة لمن تنادي، فكيف يدعمكم من يستورد الطحين بضعف ثمنه المحلّي وكأنّه يدعم مزارعي أوروبا وأوكرانيا والهند، وبقيّة مورّدي القمح من الخارج؟ كيف لمن لا يملك قوته ولا حريته ولا قراره، ولا يخاف على وحدة وسلامة أراضيه، أن يحافظ على بقائكم في أراضيكم، وهو من سلّم جزيرتي تيران وصنافير إلى بعض الأطراف الخليجية، بالتوازي مع هدم وإغراق الأنفاق وإزالة كلّ العمران في طول الشريط الحدودي، تمهيداً لدور محتمل في خطّة “السلام الإبراهيمي”؟ تعتصرنا المرارة ونحن نطالب معكم بكيس طحين لأهل غزّة، لكن ألا نعلم نحن وأنتم أن مساحة هذه الأماكن التي جرى تفريغها من سكّانها لصالح مشروعات التطوير العقاري المفترسة للإمارات وشركائها من الرأسماليات المحلّية الشرسة قد تساوي مساحات أكبرَ من مساحة قطاع غزّة، ثمّ نعود فنستجديه أن يُدخل كيس الطحين؟

يرى كثيرون، سواء من معاصرينا أو مؤرّخين ومفكّرين قدامى، أنه لا تحرير لفلسطين سوى بتحرّر مصر والشام شروطاً أوليةً، وهذه المقولات رائجة بشدّة منذ بداية هذه الحرب، لكنّنا لا نقول إن هذه حرب التحرير، وهي إحدى الحروب الأشد وطأةً على المحتل، كما هي على أهلنا في غزّة والضفة ولبنان واليمن بالتأكيد، لكن غاية ما يُراد من مصر إدخال الطحين والمواد اللازمة، وتعجز عن هذا، وهي مهنة النساء في الحروب.

بين حين وآخر، يفكّر الناس من فرط عجزهم بأفكار عن إلقاء الطعام والماء ولو يدوياً من السياج الحدودي الفاصل، فيما يفكّر آخرون بأنه ألا يمكن تحميل هذه الطرود على مسيّرات وإلقاؤها أو حتى ألا يتمكّن اليمنيون من إلقاء مقذوفات بها طرود غذائية، بما أنهم ينفذون إلى قلب فلسطين المحتلة؟.. وهذه بالطبع حلول مفترضة، لكنّها بعيدة من التحقّق ومن تلبية احتياجات سكّان القطاع، لأن لا حلّ لهم إلا بفتح دائم للمعابر، وإدخال مكثّف للأغذية والاحتياجات الأساسية.

أدركت مصر حسني مبارك أن المعابر والأنفاق وسيلتها الوحيدة لممارسة الدور الإقليمي، سواء كان أصيلاً أو وظيفيّاً، وقت الحروب الخاطفة بين غزّة وإسرائيل.

ومهما أعلنت السلطات في مصر حينها عداءً لـحركة حماس والفصائل الفلسطينية، إلا أنها كانت تحافظ على دورها الإنساني والقومي، باعتبار هذه الحدود مصرية فلسطينية لا تحكّم للإسرائيلي بها، بينما انزلق الوضع الحالي إلى هيمنة كاملة للاحتلال في محور فيلادلفي، وفي المعابر، وفرض شروطه القاسية على إدخال المساعدات.

بل والأدهى من ذلك أنه تنصّل من اتفاق توصّل إليه لوقف إطلاق النار وإدخال المساعدات، بل حوّل المساعدات الغذائية وسيلةَ ابتزاز في مخالفة صريحة وانتهاك للمواثيق والأعراف والاتفاقات الدولية المنظّمة للحرب، إذ يساوم مرّة بأن إدخال المساعدات مقابل الأسرى، وأخرى بأن إدخال المساعدات مشروط بالاستسلام التام وإعلان الهزيمة من الفصائل، بل وتركها القطاع للأبد.

بين هذا وذاك، تعلن مصر وأخواتها العرب عجزهم عن إدخال المساعدات التي تقف الشاحنات بها منذ شهور، أنهم قد استسلموا أمام صلف الطرف الإسرائيلي وعناده، ناهيك عن شكوك حول أن عرباً (ضمن أطراف وأنظمة إقليمية أخرى) يريدون الخلاص ممّا تسبّبه المقاومة لهم من حرج في كلّ حرب خاطفة مع إسرائيل. وبالتالي، يرغبون في تسوية القضية بالأرض، وبأيّ ثمن، وحتى لو دفعوا ثمنَ هزيمة متوهّمة.

وها هم يطرحون مقترحات شبه مستحيلة من قبيل انسحاب المقاومة أو تسليم سلاحها، في سياق تعترف فيه أميركا بقوة الحوثي، وبعدم قضاء إسرائيل على معظم قدرات الفصائل بعد، وبفشل الحرب في حسم الصراع، ويبقى للفلسطينيين أمل في كيس طحين يا مصر.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن مصر عبر موقع أفريقيا برس

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here