أفريقيا برس – مصر. أكد المدوّن وصانع المحتوى المصري أنس حبيب، المقيم في هولندا، أنه لا يستطيع أن يواصل حياته بأمان بينما يموت سكان غزة جوعاً تحت الحصار على مرأى ومسمع من العالم، قائلاً: “لا يمكنني أن أعيش حياتي على نحوٍ طبيعي وهناك من يتضوّر جوعاً في غزة. لا بدّ أن أفعل شيئاً أقدّمه لله ولهؤلاء المستضعفين”.
بهذه الكلمات عبّر أنس عن دوافع خطوته الاحتجاجية الاستثنائية التي قام بها خلال الأيام الماضية، حين أغلق أبواب السفارة المصرية في لاهاي مستخدماً أقفالاً حديدية، ثم لطخ اسمها بالبيض، وسكب الطحين الأبيض على الأرض، كأنما يعيد تمثيل مشهد من غزة المحاصرة، وقال مخاطباً إياهم: “اجمعوه من الأرض، كما يفعل أهل غزة”.
لم يحمل أنس لافتات شعارات ولا ميكروفونات، فقط صوته الغاضب وكاميرا هاتفه. ولم يتوقف تحركه عند لاهاي، بل أعقبه بخطوات مماثلة، إذ وضع الأقفال على أبواب سفارة الأردن، ثم سفارة مصر في بلجيكا، مُرسلاً رسائل احتجاج رمزية ضدّ الصمت العربي تجاه المجاعة المفروضة على القطاع المحاصر.
في صباح يوم الاثنين الماضي، لم يطرق الأبواب بحثاً عن تأشيرة أو معاملة قنصلية. بل حضر ليرفع الصوت مدوياً: “غزة جائعة ومحاصرة، لا حليب للأطفال، لا مساعدات، والمعابر مغلقة، وتقولون إنها مقفلة من عندهم وليس من عندكم…. جربوا الحصار”.
قال أنس حبيب: “قرّرت أن أُذِيق ممثلي هاتين الدولتَين من الكأس نفسها، وبالحجة ذاتها التي يستخدمها النظام المصري: المعبر مغلق من الجهة الأخرى. فأغلقتُ عليهم الباب وادعيتُ أنه مغلق من الداخل. هكذا يفعلون مع الفلسطينيين، وهكذا أعبّر عن رأيي”. وعند سؤاله عن الرمزية التي يوظفها في احتجاجاته، أجاب: “الهزل يفضح الكذب. ما فعلته من تهريج أمام السفارة كشف زيف ادّعاءاتهم، وسأواصل استخدام الوسائل ذاتها، وفي أماكن أخرى، حتّى يعيش الفلسطينيون بأمان”.
يأتي هذا في الوقت الذي تتكدس آلاف الأطنان من المساعدات الإنسانية التي تبرعت بها الدول والمنظمات الدولية والمصرية على مدار أشهر الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، نتيجة الإغلاق الإسرائيلي لمعبر رفح منذ مايو/أيار 2024.
صرخة الشاب المصري التي وثّقها عبر بث مباشر على مواقع التواصل، سبقتها تدوينة لها على فيسبوك قال فيها: “أنا نازل عند سفارة النظام اللي محاصر غزة عشان نفسي أنا… عشان سؤال ربنا يوم القيامة يمكن ده يكون عذر ليا يوم القيامة… حصار وتجويع غزة مش هيخلي حد مستريح ولا عايش مستريح وطول ما غزة مش آمنة عمركم ما هتكونو في أمان…”.
لم يكن الاحتجاج الذي قام بها المصري أنس حبيب بإغلاق سفارة مصر في هولندا الأول من نوعه له، فرغم الطريقة المبتكرة التي تُعدّ خطوة احتجاجية فردية، تبعها بعدة خطوات أخرى بوضع الأقفال على سفارة المملكة الأردنية في هولندا، وسفارة مصر في بلجيكا، إلّا أن لأنس قصة يتشابه فيها مع عدد من شباب مصر الذي تلقوا وابلاً من القمع السياسي بعد انقلاب يوليو/ تموز 2013.
فمن يكون أنس إبراهيم حبيب؟ الشاب الذي استطاع بصحبة أخيه طارق، الاحتجاج الرمزي أمام السفارة المصرية، لتنتشر حول العالم ويتفاعل معها رواد منصات التواصل الاجتماعي.
وُلد أنس إبراهيم حبيب عام 1998، في مدينة دمنهور، عاصمة محافظة البحيرة، بشمال مصر، لأسرة تنتمي إلى الطبقة الوسطى. تعلّم بالأزهر الشريف، حتّى مرحلة الثانوية في مدينة دمنهور، شارك والده وأخوه الأكبر طارق (من مواليد عام 1994)، في ثورة يناير 2011، إلى أن تحوّل مصير الأسرة تماماً بعد انقلاب يوليو 2013. فقد شهدت مدينة دمنهور آنذاك مظاهرات عارمة رافضة للانقلاب، كان أبرزها المظاهرة الرافضة لمجزرة فضِّ ميداني رابعة العدوية والنهضة يوم 14 أغسطس/ آب 2013، التي شهدت اشتباكات غير مسبوقة نتج عنها حريق مبنى محافظة البحيرة، وعدد من المباني الحكومية، وعدد كبير من المعتقلين.
بعد انطلاق العام الدراسي الأول بعد شهر من مذبحة فضّ رابعة والنهضة، شارك أنس (15 عاماً آنذاك) في التظاهرات الطلابية الرافضة للانقلاب في معهده الأزهري، وفي شوارع مدينة دمنهور، وفي 9 يناير/ كانون الثاني وفي مظاهرة ليلية بمدينة دمنهور أُصيب صديقه عادل الحوفي (1998 – 2014)، برصاصة في الرقبة نُقل على إثرها للعناية المركزة، وفارق الحياة في 2 فبراير/ شباط 2014. كان مقتل صديقه عادل الحوفي دافعاً لإكمال مسيرته في التظاهر والمشاركة في الفعاليات الاحتجاجية ضد الانقلاب في مدينته دمنهور، وظلّ الأمر كذلك إلى أن كان في زيارة إلى صديقه المعتقل أثناء عرضه على النيابة، وعرف من خلال أحد المحامين أنه مُدرج في 3 قضايا، وقد صدرت بحقه أوامر اعتقال.
اعتُقل والده الذي يعمل معلّماً للتاريخ أثناء إنهاء أجراء إجازته، واستطاع أخوه الذي كان يدرس بكلية الهندسة جامعة الأزهر الخروج خارج مصر، وانتقل أنس برفقة والدته إلى القاهرة، التي اتّخذها محلاً جديداً للإقامة، واستطاع التسجيل بأحد المعاهد الأزهرية هناك، بعد أن اكتشف أنه متهم برفقة أبيه وأخيه في 3 قضايا متنوعة.
الخروج للمنفى
في شهر يوليو/ تموز 2015، وأثناء الإجازة الصيفية، حاول أنس مغادرة مصر نحو السودان عبر مطار القاهرة، إلّا أنه اعتقل من المطار، وبدأ رحلة داخل السجن استمرت نحو عامين، أمضى فيها سنة ونصف السنة داخل سجن “معسكر أمن دمنهور”، حتى أكمل الثامنة عشرة من عمره ورُحّل بعد ذلك إلى سجن الأبعادية “دمنهور العمومي” الذي أمضى فيه ستة أشهر حتى خرج من السجن وحده، تاركاً والده يمضي 3 سنوات داخل السجن.
تمكّن أنس من اجتياز امتحانات الثانوية الأزهرية من داخل السجن، رغم الظروف القاسية التي وصفها في شهادته لبودكاست “عنبر كله يسمع” بأنها كانت “كارثية”، قال: “لم نكن نستطيع النوم خلال فترة الامتحانات، ولم تتوفر ظروف للمذاكرة داخل الزنازين المزدحمة، فاعتمدنا فقط على القراءة”. ورغم ذلك، تمكّن من نيل معدل 76 في المئة في الفرع العلمي.
بعد مغادرة السجن، حاول أنس السفر مرة أخرى، إلّا أنه فوجئ بمنعه من السفر ومصادرة جواز سفره للمرة الثانية، والتحقيق معه في مقر الأمن الوطني بدمنهور مرة أخرى. بعدها حصل على جواز سفره وسُمح له بالسفر إلّا أنه لم يعد إلى البلاد منذ أن غادرها عام 2017.
سافر أنس إلى تركيا لمتابعة دراسته الجامعية في تخصّص الإعلام، إذ التحق بشقيقه طارق الذي أنهى دراسة الهندسة. وأطلقا معاً قناة على يوتيوب بعنوان “2 Brothers”، قدّما من خلالها تجارب اجتماعية متنوعة ورحلات ميدانية، واشتهرا من خلالها.
قبل أربعة أعوام، قرّر الأخوان أنس وطارق الانتقال للعيش في هولندا. وهناك، تزوّج أنس من فتاة هولندية أعلنت إسلامها، وقد أثارت قصتها إعجاباً واسعاً بعدما بثّ تسجيلاً يظهره وهو يلقّنها الشهادة. لاحقاً، رزق الزوجان بطفل أسمياه “مالك”.
تعرّض أنس قبل ثلاثة أعوام، لضغوطات شديدة نتيجة التهديدات المتكررة التي طاولت عائلته في مصر، ما اضطره إلى التزام الصمت والامتناع عن الحديث في السياسة لمدة شهر ونصف الشهر، إلى أن تمكّن من تأمين خروج أهله من البلاد. بعدها، استأنف نشاطه وواصل مشاركته في الوقفات الاحتجاجية الدورية أمام السفارة المصرية في هولندا.
بعد طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023، ازداد حضور أنس على وسائل التواصل الاجتماعي داعماً للمقاومة، وتعرّض للاعتقال مرة بسبب مشاركته في الاحتجاجات ضد الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في قطاع غزة، وظلّ يشارك في الفعاليات الداعمة لفلسطين في هولندا.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن مصر عبر موقع أفريقيا برس