محمد عبد الله
أفريقيا برس – مصر. من قلب القاهرة الصاخبة، حيث تمتزج الحداثة بظلال التاريخ، تبدأ رحلتي إلى أعماق الزمن، نحو بوابة الأسرار في “العرابة المدفونة”، أو أبيدوس، التي كانت عاصمة مصر الأولى في عصور الفراعنة الأوائل.
هناك، عند نقطة التقاء التاريخ بالأسطورة، تختبئ المدينة التي اختارها المصريون القدماء مقرا أزليا لمعبودهم أوزوريس، سيد العالم الآخر، وضريحا مقدسا لحجهم الجنائزي.
انطلقت بالقطار من القاهرة نحو قلب الصعيد، إلى البلينا في محافظة سوهاج، إحدى محافظات إقليم جنوب الصعيد، حيث تحتضن الرمال أسرار آلاف السنين.
تُعد سوهاج العاصمة الإدارية للإقليم، وتتوسط المسافة تقريبا بين القاهرة وأسوان، إذ تبعد 467 كيلومترا عن الأولى و412 كيلومترا عن الثانية، فيما تستغرق الرحلة إليها بالقطار نحو 7 ساعات ونصف، بتكلفة تتراوح بين 175 جنيها (نحو 3.5 دولارات) للدرجة العادية، و650 جنيها (نحو 13.5 دولارا) للدرجة الممتازة.
رحلة إلى التاريخ
الوصول ليلا إلى مدينة البلينا يضعك أمام خيارين، إما نزُل بسيط لا تتجاوز كلفته 10 دولارات، أو فندق بأسعار تبدأ من 105 دولارات للغرفة مع الإفطار في الموسم المنخفض، بينما أنا فضّلت المبيت عند صديق قديم.
وفي الصباح الباكر، توجهت نحو “العرابة المدفونة”، التي غمرتها الرمال لقرون وكأنها تخفي أسرارها، حيث يرقد أحد أعظم كنوز الحضارة المصرية القديمة في قلب أبيدوس المهيبة.
تبلغ تذكرة دخول معبد أبيدوس للمصريين والعرب 10 جنيهات للبالغين، و5 جنيهات للطلاب (أقل من 20 سنتا)، وهي أسعار رمزية مقارنة بقيمته التاريخية. ورغم السماح بزيارة معبدي أبيدوس ورمسيس الثاني، فإن معبد الأوزيريون يظل مغلقا أمام الزائرين، مما يضفي على الموقع هالة من الغموض والتشويق.
السير على دروب القدماء
أحمل فضولي وأسير على دروب القدماء، من معبد سيتي الأول إلى أقدم نقش لمعركة “قادش” بمعبد رمسيس الثاني، ثم إلى دهاليز “الأوزيريون” التي تخفي أسرارا منذ آلاف السنين.
أما سوهاج فتبدو كصفحة باهتة من كتاب مجيد، حاضرها لا يعكس ماضيها العريق، وتقبع بين أفقر محافظات مصر تحت شمس لاهبة ومناخ صحراوي قاس.
على بُعد نحو 60 كيلومترا جنوب مدينة سوهاج، تقع منطقة عرابة أبيدوس الأثرية بمدينة البلينا، وتضم 3 معالم رئيسة:
معبد سيتي الأول
تحفة معمارية مذهلة، يضم “قائمة أبيدوس” الشهيرة، وهي سجل تاريخي بأسماء ملوك مصر بدءا من الملك مينا (موحد البلاد) وحتى الملك سيتي الأول.
يضم معبد سيتي الأول 7 مقاصير مميزة؛ ست منها خُصصت للمعبودات أوزوريس، إيزيس، حورس، آمون رع، رع حور آختي، وبتاح، والسابعة للملك نفسه، تأكيدا على مكانته في الطقوس الجنائزية والعبادية.
يتميز المعبد بروعة نقوشه الزاهية وقائمة أبيدوس الشهيرة، والتي تضم أسماء 76 ملكا من أكمل قوائم الملوك في مصر القديمة.
وما إن تطأ قدماك عتبة المعبد حتى تتضاءل أمام أعمدته الباسقة المزخرفة على هيئة نبات البردي، وتُبهر بعظمة تيجانها المتفتحة وألوانها المبهرة، في تناغم معماري يأخذك في رحلة دهشة لا تنقطع.
وبين النقوش المدهشة، تبرز مشاهد أسطورة موت وبعث أوزوريس، التي تمنح المعبد هالة روحانية، فيما تنتشر أعمدته الشاهقة كحراس لعظمة الماضي.
معبد رمسيس الثاني
يقع إلى الشمال من معبد سيتي الأول، وتُزيّن جدرانه الخارجية نقوش معركة قادش، التي تُعد من أقدم وأشهر المعارك المسجلة في التاريخ بين المصريين والحيثيين.
معبد رمسيس الثاني في أبيدوس، الذي شُيّد في القرن 13 قبل الميلاد بالقرب من معبد والده سيتي الأول، خصصه الملك لتكريم الآلهة أوزوريس، إيزيس، وحورس، ولتخليد نفسه أيضا.
ورغم أن معظم بنيانه لم ينجُ سوى الأجزاء السفلية، فإن زخارفه المتبقية لا تزال شاهدة على دقة التنفيذ وروعة الفن، أبرزها قصيدة “بنتاؤر” التي تخلد معركة قادش، وتُظهر شجاعة رمسيس الثاني كملك محارب.
أول معابد رمسيس الثاني
يصف باسم سليمان، الباحث في الآثار المصرية بجامعة عين شمس بالقاهرة، معبد رمسيس الثاني بأنه أول معابد الملك الذي شيد سلسلة من أشهر المعابد خلال فترة حكمه، ويقع على بُعد نحو 300 متر خلف معبد والده سيتي الأول.
وأوضح سليمان أن من أبرز هذه المعابد معبد أبو سمبل في الأقصر، إضافة إلى كونه المعبد الوحيد في مصر (معبد رمسيس الثاني بأبيدوس)، والذي يضم مقصورة كاملة من حجر المرمر.
وأضاف الباحث الأثري أن بعثات أثرية أجنبية اكتشفت مؤخرا أكثر من ألفي رأس كبش مُحنطة تعود للعصر البطلمي، إلى جانب ودائع أساس، هي الأولى من نوعها، كما يضم المعبد بوابات نادرة من الجرانيت الأسود والأحمر. وقد تم أيضا اكتشاف بقايا قصر للملك رمسيس بجوار المعبد.
معبد الأوزيريون
يقع خلف معبد سيتي الأول، ويُعتقد أنه المقبرة الرمزية للإله أوزوريس، ويحمل طابعا معماريا غامضا وفريدا يثير فضول الباحثين حتى اليوم.
خلف معبد سيتي الأول في أبيدوس، يتوارى “الأوزيريون”، معبد غامض وفريد لا يزال يحيّر علماء المصريات. يُنسب هذا البناء إلى الإله أوزوريس، إلا أن الغموض يلف الهدف الحقيقي من وراء بنائه، إذ تتضارب الآراء بين كونه قبرا رمزيا لأوزوريس، أو ضريحا لسيتي الثاني، أو مزيجا من الاثنين.
ورغم أن الأوزيريون غير مفتوح للزيارة المباشرة، يمكن للزائرين مشاهدته من خلف معبد سيتي الأول، حيث تحيط به قنوات مياه ومنصة غرانيتية توحي بجزيرة طقسية غامضة، إذ يقع على مستوى منخفض كثيرا عن الأرض، في لغز لم يُحسم بعد.
شُيد المعبد بأعمدة غرانيتية وردية ضخمة من أسوان، يزن بعضها أكثر من 100 طن، ومعظمها بلا نقوش. في وسطه منصة تحيط بها المياه تعلوها 10 دعائم حجرية، يُرجّح أنها كانت تسند سقفا مفقودا، وتضم إحدى غرفه قاعة بسقف مزخرف برموز فلكية تشير إلى بعث الملك سيتي الأول.
ما قبل التاريخ
في أبيدوس، حيث تتوارى الرمال خلف صمت الحجارة، تروي جدران المعابد حكايات ملوك سبقوا زمانهم، منذ أكثر من 5 آلاف عام، حين شيد حكام ما قبل الأسرات والأسر الأولى حتى الخامسة قبورهم هنا، مؤمنين بأنها بوابة الخلود.
ازدادت قدسية المكان في الأسرة الخامسة مع أسطورة أوزوريس، إله الأرض والعالم الآخر، الذي يُعتقد أن رأسه دُفن في هذه الأرض. وفي عهد الملك أنتف الثاني (2121–2070 قبل الميلاد)، أصبحت أبيدوس المدينة المقدسة ومركز عبادة أوزوريس في مصر القديمة.
وهنا، شيد الملك سيتي الأول معبده البديع (1294–1279 قبل الميلاد)، وأكمل زخرفته ابنه رمسيس الثاني، قبل أن يضيف حفيده مرنبتاح لمساته الأخيرة، لتبقى هذه التحفة المعمارية شاهدا خالدا على عظمة الفن والدين في مصر القديمة.
وهكذا تنتهي رحلتي في أبيدوس، بين أطلال صامتة وطقوس خالدة، حيث يمتزج الغموض بالجمال، ويتشابك التاريخ مع الخيال. مرّ عليها بعض أقدم ملوك الأرض ودفنوا فيها، لكنها بقيت شامخة، عصية على الفهم، لا تبوح بكل أسرارها.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن مصر عبر موقع أفريقيا برس