مصر وإيران… تقارب الضرورة وشراكة محتملة

5
مصر وإيران... تقارب الضرورة وشراكة محتملة
مصر وإيران... تقارب الضرورة وشراكة محتملة

عصام شعبان

أفريقيا برس – مصر. تضيف زيارة نائب وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي القاهرة، مطلع يونيو/ حزيران الجاري، للمرّة الثالثة منذ تولّيه منصبه في أغسطس/ آب الماضي، محطّةً جديدةً في مسار العلاقات المصرية الإيرانية، التي شهدت تزايداً في وتيرة التفاعل منذ اندلاع العدوان الإسرائيلي على غزّة، إذ تكثّفت الاتصالات بين الجانبَين، مدفوعةً بجملة من الملفّات المشتركة، في مقدّمتها السعي إلى احتواء تمدّد الحرب، ومحاولة منع اندلاع مواجهة إقليمية (أصبحت مرجّحة أكثر بعد الهجوم الإسرائيلي على إيران فجر أمس الجمعة) في حال تعثّرت مفاوضات الملفّ النووي بين طهران وواشنطن، التي انطلقت في إبريل/ نيسان الماضي برعاية عُمانية.

وقد انخرطت القاهرة ميسّراً للحوار، مستضيفةً اجتماعات لأطراف متعدّدة، في محاولة للوصول إلى تسوية دبلوماسية، خاصّة مع وضع واشنطن التهديد بالخيار العسكري على طاولة المفاوضات، وعدم الاكتفاء بالعقوبات، وتلويحها بإطلاق يد إسرائيل في تنفيذ هجوم على منشآت نووية ومواقع للصواريخ، ما يتّصل باستراتيجية توسّعية تركّز فيها إسرائيل على إضعاف القوى والجماعات المسلّحة من غير الدول، ومحاصرة النفوذ الإيراني وإضعافه، إلى جانب الإبقاء على العقوبات سيفاً مسلّطاً، والسعي إلى عزل طهران دبلوماسياً بقطع صلاتها بدول المنطقة. في المقابل، وقفت مصر في الجهة الأخرى، تحاول الحدّ من فرص المواجهة العسكرية عبر العمل الدبلوماسي، وتوجيه رسائل إلى أطراف إقليمية ودولية عدّة بأن التصعيد يحمل تداعيات لا تصبّ في مصلحة دول المنطقة، ويمكن تجنّب التهديدات المتبادلة التي تصاعدت مع جولة التفاوض الخامسة.

عملياً، كانت تل أبيب قد صعّدت من مواجهتها مع الحوثيين بعد إعلان الولايات المتحدة إنهاء عملياتها ضدّهم (في 6 مايو/ أيار)، وكرّرت هجماتها الجوية، واختبرت أسلحةً مثل القنابل الخارقة للتحصينات (بمثابة بروفة قبل الهجوم أمس على المنشآت الإيرانية). وللمرّة الأولى، وفي تعبير عن تمديد وجودها في منطقة باب المندب والبحر الأحمر، قصفت قواتها البحرية ميناء الحديدة صباح الثلاثاء الماضي، قبيل الجولة السادسة من مفاوضات الملفّ النووي، وهي رسائل إضافية كانت بمثابة ضغوط على إيران، وتؤشّر إلى أن ورقة الملاحة البحرية، بما فيها البحر الأحمر، يمكن أن تُستخدم عكسياً من الطرفَين.

هذا الوضع المتوتّر، وتوسّع المواجهة، يؤثّران على مصالح مصر اقتصادياً وأمنياً؛ فقد أدّت هجمات الحوثيين سابقاً، والحظر البحري على السفن المرتبطة بالاحتلال، إلى تراجع حركة الملاحة التجارية، ما أثّر في عوائد قناة السويس، وهي مصدر رئيس للنقد الأجنبي. ورغم أن القاهرة أبدت تفهّماً لسياقات هجمات الحوثيين، فقد خاطبت سلطنة عُمان، قبل أن تفعّل خطوط التواصل المباشر مع إيران لتجنّب تأثير المواجهات على مصالحها، وهو ما لاقى استجابةً انعكست في زيادة نسبية في أنشطة المرور في القناة مع تقلّص أهداف الحوثين، والتركيز في تعطيل الملاحة الجوية باستهداف مطار بن غوريون بالصواريخ، وهو ما يتّصل بتفاهماتٍ مع واشنطن حول استهداف السفن، وإتاحة فرصة لتفاعل مختلف الأطراف مع مفاوضات الملفّ النووي.

ولكن التصعيد الأميركي غير المباشر (عبر إسرائيل) سيترك تبعاته على دول المنطقة، وقد يتحوّل البحر الأحمر أيضاً ساحةَ مواجهة متعدّدة الأطراف. وقد كان هذا الملفّ من ضمن نقاط التشاور الأساسية بين القاهرة وطهران، وقد شدّدت الأولى، في بيانات رسمية فضلاً عن المؤتمر الصحافي بين وزيرَي الخارجية، على ضرورة عودة الملاحة إلى وضعها الطبيعي، كما شملت ملفّات التشاور الوضع الإقليمي، وسبل وقف العدوان على غزّة، وضمان وصول المساعدات، إلى جانب تطوير العلاقات على المستويات الأمنية والتجارية والسياحية، وهو ما طرحته طهران أيضاً مع أنقرة، ضمن مشهد دبلوماسي نشط، رغم الخلافات حول الملفّ السوري.

ولا تنفي هذه التباينات بين القوى الثلاث (مصر وتركيا وإيران) إمكانية إيجاد منصّات للتعاون مستقبلاً، تتوافق مع مصالحها ووضعيتها بوصفها قوى تقليديةً في الشرق الأوسط. ورغم أن مواقف القاهرة مع إيران تبدو تكتيكية، ومرتبطة بملفّات راهنة، فإن هذا لا ينفي احتمالات تطوير العلاقة إلى شراكة استراتيجية، مدفوعة بحاجة مصرية لتعزيز دورها الإقليمي، وتوسيع هامش المناورة في ظلّ أزمات إقليمية متصاعدة، وضغوط أميركية تتصّل بملفّات التهجير والتطبيع وبناء تحالف عربي تقوده إسرائيل ضمن رؤى إعادة تشكيل المنطقة. ويفرض هذا على مصر التحلّي بمرونة في التعامل مع أطراف دولية وإقليمية متعدّدة، وهو ما ظهر جلّياً في مسار العلاقات المصرية التركية، التي تشهد تطوّراً يعكسه إطار مجلس التعاون الاستراتيجي بين البلدَين، وكان من ضمن أجندة اللجنة العسكرية المشتركة في اجتماعها في الشهر الماضي (مايو/ أيار) التخطيط لتدريبات مشتركة وتعاون في الصناعات الدفاعية، ومنها المسيّرات التي تسعى القاهرة إلى تطويرها. ويتقاطع هذا مع توجّهات القاهرة لتنويع الشركاء عبر تدريبات مع قوى دولية وإقليمية، بينها روسيا والصين، بينما تجري إيران مع الدولتَين تدريبات مشتركة للعام الخامس على التوالي، منها مناورات “حزام الأمان البحري” في مارس/ آذار الماضي، وذلك يعكس تشاركاً في الرؤى حول أطراف التعاون ومصادر التهديد، وضرورة تنويع الشراكات، وتجمع مصر وإيران أيضاً ظروف متشابهة من حيث الأزمات السياسية والاقتصادية والإقليمية، تدفعهما إلى مزيد من التقارب. ويبدو أن العلاقات بين البلدَين دخلت مرحلة جديدةً من التطوّر، مع طرح نقاط تفاهم مشتركة تبني جسوراً تعيد وصل ما انقطع من علاقات عقوداً. ورغم أن القاهرة تتخذ خطوات تمهيدية هادئة، إلّا أنها مستمرّة وتتخذ طابعاً متعدّد الأوجه، يتبلور في خطوات رسمية مدعومة بتعاون اقتصادي، وتمهيد لقبول شعبي.

وفي هذا السياق، لم تقتصر زيارة عراقجي، وكذا لقاؤه العاشر مع نظيره المصري بدر عبد العاطي، والرابع مع الرئيس عبد الفتاح السيسي، على الأجندة الرسمية، بما في ذلك لقاء جمعه برئيس جهاز المخابرات العامّة، ورئيس وكالة الطاقة الذرية، إذ تداخلت فيها ملفّات الوساطة والشأن الأمني. بل كان هناك أيضاً برنامج موازٍ لإظهار الترحيب، والتعبير عن انزياح تدريجي للحواجز، منها لقاءات مع نخب مصرية متنوّعة، وعشاء ضمّ ثلاثة وزراء خارجية سابقين، وجولة في خان الخليلي، وصلاة ثالثة في مسجد الحسين ضمن مسار “آل البيت”، إلى جانب لقاء في التلفزيون الرسمي، وكلّها إشارات إلى ترحيب مصري بصيغ سياسية وثقافية ودينية، تؤكّد إمكانية الحوار في مواجهة الصراع أو بديلاً من بناء تحالفات مذهبية (سنّي ضدّ شيعي)، وهي الفرضيات التي حاولت بعض الأطراف ترويجها سابقاً. وقد جاءت هذه المشاهد من الترحيب استجابةً لطلب إيراني لاقى تجاوباً، بل شهد وضع خريطة طريق لعلاقات تعاون مختلفة نوعياً وأكثر فاعلية، قائمة على تفاهم حول تباين الأدوار والتقديرات، وكما قال عراقجي: “العلاقة مع مصر أفضل من علاقاتنا مع دول كثيرة تربطنا بها علاقات دبلوماسية”، في إشارة إلى عمق العلاقات وفاعليتها رغم عدم تبادل السفراء بين البلدَين، الذي يبدو أنه يقترب.

ولعلّ من المهم الإشارة إلى أن توسّع العدوان الإسرائيلي، وسعي تل أبيب إلى قيادة المنطقة وتهميش القوى الإقليمية، إلى جانب ضغوط الحرب على غزّة، ومحاولات تنفيذ مخطّط التهجير، كلها تشكّل دوافع رئيسة للتقارب المصري الإيراني، الذي يهدف إلى خفض حدّة المواجهات الإقليمية عبر الوساطة وتوسيع دوائر الحوار مع أطراف متعدّدة، كما أن هذا التقارب يمثّل رسالةً إلى قوى إقليمية ودولية تسعى لتكريس واقع إقليمي جديد على حساب توازنات قائمة بحكم عوامل قوة يحاول بعضهم تجاهلها.

وإجمالاً، يبقى حفظ الأمن البحري هدفاً رئيساً لمصر؛ لذا سعت القاهرة إلى إزالة أسباب المواجهة كلّما أمكن، وإلى الوصول إلى تسوية تحدّ من فرص التصعيد، خصوصاً أن المفاوضات والتفاعلات الدولية باتت تتناول الملفّات جملةً واحدةً: العدوان على غزّة، سياسات إيران، والملفّ النووي، وتسعى مصر لأهداف في رأسها عودة الاستقرار الإقليمي، وتهدئة التوتّرات، والتوصّل إلى تسوية سياسية متوازنة حول الملف النووي الإيراني، وكذلك الدفاع عن حقّ دول المنطقة في الاستخدام السلمي للطاقة النووية، وجعل الشرق الأوسط خالياً من أسلحة الدمار الشامل، مع الإشارة إلى أن المشروع النووي الإسرائيلي، وممارسات تل أبيب، تُعدّ مصدر تهديد إقليمي يجب التعامل معه بصفته أولويةً مشتركةً في المحافل الدولية متعدّدة الأطراف، إلى جانب التعاون فى ملفّات الطاقة والأمن والدبلوماسية عربياً وأفريقياً، ومع مجمل الدول الإسلامية.

ويبدو أن تقارب القاهرة مع طهران محسوب ومتدرّج، ومدفوع بمصالح استراتيجية في ظلّ التحديات التي تواجهها مصر، سواء على صعيد الأمن الإقليمي، أو مخطّطات تهميشها، أو الضغوط السياسية والاقتصادية المتزايدة. ورغم أن هذا التقارب يبدو في بعض جوانبه تكتيكياً، إلّا أنه مرشّح ليكون جزءاً من رؤية استراتيجية جديدة تقوم على استقلالية أكبر في السياسة الخارجية المصرية وتنوّع في أدواتها، وهو ما لا ترحّب به إسرائيل، ولا بعض الجهات التي ترى في أي تقارب مصري – إيراني تهديداً لعلاقات القاهرة بدول الخليج أو الولايات المتحدة.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن مصر عبر موقع أفريقيا برس

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here