مصر وصندوق النقد الدولي… ما الذي تغير هذه المرة؟

مصر وصندوق النقد الدولي... ما الذي تغير هذه المرة؟
مصر وصندوق النقد الدولي... ما الذي تغير هذه المرة؟

أفريقيا برس – مصر. يُجيد صندوق النقد الدولي لعبة السياسة ويمارسها بعناية رغم تأكيده المستمر أنّ قراراته تخضع لاعتبارات مالية واقتصادية وفنية بحتة، ولنا في تجارب مصر والأرجنتين وباكستان وأوكرانيا والإكوادور وجنوب أفريقيا والأردن وتونس وكولومبيا وغانا وكينيا وأنغولا وبنغلادش عِبَر، وهي الدول الأكثر استدانة من المقرض الأكبر على مستوى العالم.

فعندما يكون صندوق النقد راضياً عن دولة، حكومة ونظاماً سياسياً، فإنه يبالغ في العطايا والقروض والمنح والمساعدات و”يبلع لها الزلط” كما يقولون حتى إذا تأخرت في السداد، أو خالفت شروط وبنود عقد الإذعان الموقع بينهما، ولم تلتزم بما جرى الاتفاق عليه في عقد القرض، أو تلكأت في تعويم عملاتها وتحرير أسواقها وإلغاء دعم السلع والوقود والخدمات.

يمنح صندوق النقد تلك الدول المرضي عنها قروضاً بعشرات المليارات من الدولارات بين ليلة وضحاها، وتأتي الموافقات من واشنطن في جلسة واحدة وبسرعة مذهلة، وربما تجري عملية المنح بلا ضمانات كافية أو بدون ضامنين للسداد، وأحياناً يغضّ الصندوق الطرف عن مطالبة الدول المدينة بتطبيق برامج جدية لمكافحة الفساد ووقف تهريب وغسل الأموال والإنفاق العام التبذيري من قبل الحكومات، ولا يمانع من تدخل الدولة ومؤسّساتها السيادية في الشأن الاقتصادي على نحوٍ احتكاري، ويطالبها فقط بخطوات شكلية مثل تحسين أرقام الموازنة وتحقيق فائض أولي حتى لو كان شكلي وصوري، وزيادة الاحتياطي الأجنبي حتى لو كان عبر قروض خارجية ومحلية وودائع مساندة، ولا مانع لديه من تطبيق إجراءات تقشفية بالغة القسوة، تمسُّ الغالبية العظمى من المواطنين، فقراء وطبقة وسطى، ولا تقترب مطلقاً من الأثرياء والطبقات المكفولة بالرعاية.

يُجيد صندوق النقد أيضا استخدام الأسلوب الناعم مع الدول المرضيّ عنها، وفي المقابل يستخدم الأسلوب الخشن والعصا الغليظة ضد الدول “المارقة” التي ترفض دخول بيت طاعة مؤسّسات بريتون وودز التي تأسست عام 1944 تحت زعم إعادة بناء الاقتصاد العالمي بعد الحرب العالمية الثانية، أو تنفيذ برامج تلك المؤسسات المالية، بل ويعاقب تلك الدول ويشوّه صورتها، ويتسبب في إثارة القلاقل بأسواقها المالية وأسواق عملاتها، ويهيل التراب عليها بتقارير سلبية يحرص على نشرها على نطاق واسع، بل وربما يوعز لمؤسّسات التصنيف العالمية بخفض تصنيف تلك الدول، ولنا في تجربة تركيا مثال، وهي الدولة التي ترفض الاقتراض من صندوق النقد الدولي رغم الضغوط الشديدة التي تتعرض لها عملتها الليرة. ولذا تتعرض لحروب مالية شرسة واستهداف لليرة من وقت لأخر.

لا تهم صندوق النقد الشعوب وأحوال المواطن السيئة، ولا يهتز له جفن من تسبب سياساته وبرامجه في نشر الجوع والفقر والغلاء، فالشعوب تُسحق تحت برامج تلك المؤسّسة المالية البغيضة وغيره من الدائنين الدوليين. لا تهم الصندوق والحكومات التي تتعامل معه ملفات جماهيرية وحيوية مثل مكافحة الفقر والبطالة والعشوائيات والاهتمام بقطاعات حيوية مثل الصناعة والإنتاج والزراعة والاستثمار، المهم هو أن يعطي شهادة صلاحية وبراءة ذمة ائتمانية لحكومات وأنظمة تحرص بشدة على سحق الفقراء والمحتاجين.

لا تهم صندوق النقد مشروعات تنمية واستصلاح أراضي، أو فتح مصانع وتأسيس مشروعات إنتاجية وزيادة صادرات وتقوية اقتصادات وطنية، ولا تهمه مكافحة الفساد في الجهاز الإداري للدولة، ولا نسمع له صوتاً في ملف بالغ الأهمية وهو تهريب الأموال إلى الخارج من كبار المسؤولين والمستثمرين، ولا يهمّه تجريف الاقتصاد من قبل المحتكرين وغاسلي الأموال القذرة والتفريط في أصول الدولة، بل يهمه بقاء ومجاملة الأنظمة المرضيّ عنها سياسياً من قبل كبار المساهمين في الصندوق وفي المقدمة الولايات المتحدة وأوروبا.

صندوق النقد هو العصا الغليظة التي يَضرب بها الجالسون في البيت الأبيض وباريس وبروكسل وغيرها من العواصم الثرية الأنظمةَ المغضوب عليها من الولايات المتحدة والدول ذات الاقتصادات الكبرى وربما إسرائيل، والصندوق بات أداة مالية يعاقب بها الغرب الأنظمة التي لا يرضى عنها، ويكافئ بها الأنظمة المستبدّة حتى لو كانت تسحق المواطن وتضع الدساتير والقوانين والحريات العامة وحقوق الإنسان تحت أقدامها.

مثلاً؛ عندما يكون صندوق النقد غاضباً على مصر يُخرج كل الكُروت الخشنة مرةً واحدة؛ مطالبة سريعة بتعويم الجنيه، وزيادة أسعار السلع الرئيسية بما فيها رغيف الخبز وأنبوبة الغاز، وخروج الأجهزة السيادية من المشهد الاقتصادي، وإلغاء دعم الوقود من بنزين وسولار وغيره، وبيع أصول الدولة من شركات وأراضٍ، وفتح الباب على مصراعيه أمام أموال المستثمرين الساخنة التي تهدّد الاقتصاد وسوق الصرف وتنهب الأموال المحلية وتهرب عند أول أزمة، وزيادة الرسوم والضرائب، وسداد مستحقات شركات النفط والغاز العالمية.

أمّا إذا كان راضياً كما جرى في المراجعة الأخيرة التي جرت لبرنامج الإصلاح الاقتصادي المصري قبل أيام، فإنّ كل تلك الملفات والمطالب تتوارى وتختفي، وتدخل أدراج المؤسسة المالية في واشنطن.

يتكرر المشهد مع باكستان والأرجنتين وغيرها من الدول التي لجأت إلى الصندوق لإنقاذها من أزماتها الاقتصادية، فإذ هي تغرق أكثر وأكثر مع التمسك بالتعامل مع تلك المؤسّسة التي تقود أغلب المقترضين إلى طريق واحد هو الإفلاس والتعثّر المالي، وقبلها إثارة القلاقل الاقتصادية والمجتمعية، وخروج المواطن إلى الشارع، لا للمطالبة بحقوقه في ثروات بلاده، بل بوقف نزوح أموال الضرائب إلى الخارج لسداد أعباء الديون الخارجية.

ليقل لنا صندوق النقد الدولي: لماذا كان راضياً هذه المرة عن أداء حكومة مصر في الملف الاقتصادي، ولذا استخدم لغةً هادئة ونبرة رقيقة ومهذبة بعد سنوات من التلويح بالعقاب وتأجيل الافراج عن شرائح القروض، ولماذا وافق على ملف الحكومة هذه المرة بلا تحفظات تُذكر، ووافق أيضا على الإفراج عن شريحتَي قرض مرةً واحدة بقيمة 2.5 مليار دولار، بل وأشاد بأداء الاقتصاد المصري رغم الأزمات التي يمر بها.

الملاحظ أنه لا توجد في تقييم الصندوق الصادر أول من أمس للمراجعتَين الخامسة والسادسة عبارات من نوعية “نتحفظ ونتحوّط ونطالب”، أو “لكن ورغم ذلك”، حتّى الانتقادات جاءت أخفّ وألطف ولا ترقى للتحفّظات واللغة العنترية والخشنة السابقة، بل تشبه مقولة “ضرب الحبيب مثل أكل الزبيب”.

ما الذي تغيّر في ديسمبر/كانون الأول 2025 عن آخر مراجعة لبرنامج مصر جرت من قبل صندوق النقد في شهر مارس/آذار الماضي وجرى في نهايتها رفضُ منح مصر شريحة جديدة من قرض الثمانية مليارات دولار، وترحيل كل الملفات إلى نهاية العام، وتوجيه انتقادات حادة للاقتصاد المصري وأداء الحكومة وبطء تنفيذ البرنامج المتفق عليه بشأن القرض. ليُجب القابعون في واشنطن عن تلك الأسئلة وغيرها حتّى نصدقهم في بياناتهم ومراجعاتهم اللاحقة.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن مصر عبر موقع أفريقيا برس

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here