أفريقيا برس – مصر. بينما تحقق أغلب دول العالم خطوات ثابتة للابتعاد عن المعاملات النقدية (الكاش) لتعزيز الشمول المالي والتحول إلى مجتمعات “لا نقدية”، تفقد الأسواق المصرية زخمها الذي حققته على مدار ثلاث سنوات متصلة، لتتراجع بسرعة منذ بداية عام 2025 في اعتماد نظم الدفع الإلكتروني والمعاملات المصرفية.
بعد سنوات من المبادرات الرسمية التي شجعت 53.8 مليون شخص على استخدام بطاقات الدفع الإلكتروني والتحويلات الفورية حتى يونيو/ حزيران 2025، بدأت الثقة الشعبية تتلاشى، وأخذ المواطنون يعودون إلى المعاملات النقدية التقليدية، مدفوعين بارتفاع “الإتاوات” والرسوم على التحويلات البنكية الفورية، مع بطء الخدمات الرقمية وصعوبات التعامل في كثير من المناطق والمحال التجارية. يشعر مواطنون بأن التحول الرقمي أصبح مكلفًا ومعقدًا وغير مضمون، فيعودون إلى النقود الورقية كخيار “آمن وسريع ومنقذ”.
تأتي التطورات المخيبة للآمال محليًا، في وقت يشير فيه المؤشر العالمي الأخير للشمول المالي لعام 2025، الصادر عن مجموعة برينسيبال فايننشال ومركز أبحاث الاقتصاد والأعمال (CEBR)، إلى تباطؤ عالمي طفيف في وتيرة الشمول المالي، إذ تراجع المؤشر من 49.6 نقطة إلى 49.4 نقطة هذا العام، بعد عامين من التحسّن المتواصل، فيما حافظت سنغافورة على صدارتها كأكثر الأسواق شمولًا ماليًا في العالم، وتقدّمت دول الخليج بفضل توسعها في التكنولوجيا المالية. في المقابل، رصد محللون أن مصر تشهد مسارًا عكسيًا، إذ بدأت بوادر التراجع تظهر في مؤشرات الاعتماد على نظم الدفع الإلكتروني والتحويلات البنكية بعد أن بلغت ذروتها بين عامي 2022 و2024.
واقع الشمول المالي
وفقًا لبيانات البنك المركزي المصري، فإن نسبة الأفراد الذين يمتلكون حسابات مصرفية أو محافظ إلكترونية من عمر 15 عامًا فأكثر ارتفعت من 56% في عام 2020 إلى نحو 76% نهاية يونيو 2025، مدفوعة ببرامج التحول الرقمي، وإطلاق مبادرات مثل “ميزة” و”إنستا باي”، وإتاحة التحويل الفوري بين البنوك على مدار الساعة، غير أن العام الجاري شهد تراجعًا في وتيرة النمو، إذ تبين من تقارير غير رسمية صادرة عن عدد من البنوك وشركات التكنولوجيا المالية أن نحو 28% من المستخدمين النشطين لتطبيقات التحويل البنكي خفّضوا استخدامهم الشهري خلال النصف الأول من 2025، فيما ارتفع الاعتماد على الدفع النقدي المباشر بنسبة تقارب 12% مقارنة بالعام الماضي.
وذكر متعاملون أن هذا التحول يرجع إلى فرض رسوم تتراوح بين 1.5% و2% على عمليات الدفع الفوري وبطاقات الائتمان في كثير من المنشآت التجارية، ويرجعها أصحاب الحسابات إلى تأخر عمليات التحصيل من البنوك وشركات الدفع الفوري، وتباطؤ التحصيل من قبل بعض التجار مع وجود صعوبات بشبكات الصرافات والدفع الفوري وممارسات احتكارية من بعض الشركات التي تحمّل العميل التكلفة بدلًا من التجار والموزعين. في جولة ميدانية داخل مدينتي القاهرة والجيزة، الأكثر بتعداد مستخدمي الخدمات الرقمية بالبلاد، رصدت “العربي الجديد” مئات الحالات التي رفض فيها التجار والمطاعم والمستشفيات ومحطات الوقود على الطرق الدائرية وداخل المدن قبول بطاقات الدفع الإلكتروني، مفضلين التعامل نقدًا، وفي أفضل الظروف عبر التحويل على “إنستا باي” كبديل “نقدي رقمي”.
تشجيع الكاش
في نادي 6 أكتوبر التابع لوزارة الشباب والرياضة بمدينة 6 أكتوبر غرب العاصمة، يؤكد محمد حسام رفض النادي قبول دفع الاشتراك السنوي إلا نقدًا، أو تحميل العضو 2% في حالة إصراره على الدفع بالبطاقة البنكية. يعلل الموظف المختص بأن الإجراء ينفذ بتعليمات من قبل إدارة النادي المعينة من وزارة الشباب، بما دفع كثيرًا من الأعضاء إلى سحب “الكاش” من الصرافات الآلية الموجودة على مسافة أمتار من مكتب دفع الاشتراكات بالنادي لتسليمها للموظف المختص.
في سوق الذهب، الذي شهد رواجًا في الشراء مع تراجع أسعار الذهب عالميًا على مدار الأيام الماضية، كشفت السيدة ناهد عبد العال اشتراط محل ذهب شهير بالعاصمة الدفع نقدًا، وفي حالة سداد قيمة المشتريات بالكارت يطلب 2% على قيمة المدفوعات.
في تصريحات صحافية، أكد الخبير المصرفي الدكتور أحمد شوقي أن كثيرًا من المحال التجارية والمستشفيات تطلب من العملاء دفع عمولة 2% مقابل استخدام البطاقة البنكية، رغم أن البنك هو الذي يتحمل هذه النسبة قانونيًا. وأوضح شوقي أن البنك المركزي يتيح سحب ماكينة الدفع من أي تاجر مخالف حال الإبلاغ عنه، غير أن ضعف الرقابة وتردد المواطنين في تقديم الشكاوى يجعلان هذه الظاهرة تتفاقم. امتدت الظاهرة إلى محال بيع الدخان وسداد فواتير الهواتف والإنترنت والخدمات العامة وبيع السلع الاستهلاكية والمعمرة، بما يلزم العملاء سداد ما بين 1% و3% من قيمة الفاتورة المصدرة.
تلزم وزارة الكهرباء نحو 40 مليون مشترك سداد قيمة إصدار فواتير الكهرباء الرقمية بحد أدنى 3 جنيهات عن كل فاتورة تُسدد عبر نظام “فوري” للدفع المطبق حاليًا في تحصيل قيمة الاستهلاك الشهري، بعد أن كانت تحصل على 50 قرشًا عن الإصدار الورقي للفاتورة.
تطلب إدارات المرور من الجمهور سداد قيمة الضرائب السنوية والتأمين الإجباري ببطاقات الائتمان، بينما باقي المدفوعات تُسدد نقدًا، لتوجيه قيمة الأموال إلى صناديق خاصة لا تدخل في حسابات الموازنة العامة للدولة. ووفقًا لما رصدته “العربي الجديد”، فإن الدولة تتبنى خطابًا رسميًا واضحًا يدعو إلى التحول نحو مجتمع لا نقدي، فإن بعض الجهات الحكومية نفسها لا تزال تطلب الدفع النقدي، منها مكاتب المرور والنيابات والشهر العقاري ومراكز الخدمات الإدارية، حيث يضطر المواطنون أحيانًا إلى الدفع بالسيولة الورقية نتيجة تعطل المنظومة الإلكترونية أو ضعف الربط الشبكي.
أزمات تقنية
يقول أحد الموظفين في إدارة الشهر العقاري بالقاهرة، فضّل عدم ذكر اسمه، إن المنظومة الرقمية أحيانًا تتوقف تمامًا، ونضطر أن نطلب من الناس الدفع بـ”الكاش” حتى لا تتعطل مصالحهم. ووفقًا لمواطنين، فإن هذا التناقض بين الخطاب والسياسة الفعلية يضعف الثقة العامة في التحول الرقمي، ويؤكد أن التحول لا يمكن أن يُفرض إداريًا دون جاهزية تقنية حقيقية. تدفع الظاهرة إلى تكدس ملايين الأفراد أمام الصرافات المنتشرة بمداخل البنوك والمراكز التجارية والشوارع الرئيسية عقب نزول المرتبات الشهرية من الشركات الحكومية والعامة والخاصة، لسحب “الكاش”، بما يثير متاعب جمة للجمهور، ويستنفر البنوك المطالبة بزيادة النقد بماكينات الصرف، مع لجوئها إلى تخفيض الحد الأقصى للصرف في المرة الواحدة يوميًا، لمواجهة زيادة الطلب الهائل على النقد، خاصة عند نهاية الشهر والإجازات الرسمية.
تُعد مشكلة تباطؤ الإنترنت أحد أبرز معوقات انتشار الخدمات المالية الرقمية في مصر. فمنذ حادث احتراق سنترال رمسيس في صيف 2025، الذي أثر على كفاءة الخدمة في وسط العاصمة القاهرة، ظلت مناطق تجارية حيوية، مثل رمسيس والتحرير ووسط البلد، تعاني من انقطاعات متكررة في الشبكة، ما يعيق تشغيل نقاط البيع (POS) والتطبيقات البنكية.
شكا أصحاب محال بالعاصمة والمدن الرئيسية من بطء التحويلات عبر ماكينات البنوك ورفض العمليات بسبب ضعف الإشارة أو انقطاع الاتصال، ما دفع بعضهم إلى تعليق لافتات “الكاش فقط” تجنبًا لغضب الزبائن. في المحافظات، تبدو الأزمة أكثر حدة، ففي مدن الصعيد والدلتا لا تزال خدمات الإنترنت تعاني من تغطية ضعيفة وانقطاع مستمر للكهرباء، وهو ما يعطل المعاملات المالية الرقمية ويدفع المواطنين لاستخدام النقد كخيار مضمون.
تأثير على الاقتصاد الكلي
يرى خبراء الاقتصاد أن عودة المواطنين لاستخدام النقد تمثل ضربة غير مباشرة لجهود الشمول المالي ومكافحة دمج الاقتصاد الموازي في الاقتصاد الرسمي بالدولة، وتكلفة إضافية على الاقتصاد الكلي. فوفق تقديرات صادرة عن البنك الدولي، فإن كل مليار جنيه يُعاد تداوله نقدًا بدلًا من قنوات رقمية يرفع تكلفة إدارة العملة والطباعة والنقل والتأمين بنسبة تصل إلى 0.3% من الناتج المحلي الإجمالي.
ويرى الخبير الاقتصادي أحمد خطاب عضو مجلس الأعمال المصري – الكندي أن عودة المواطنين لاستخدام النقد تمثل ضربة غير مباشرة لجهود الشمول المالي، ومكافحة دمج الاقتصاد الموازي في الاقتصاد الرسمي بالدولة، وتكلفة إضافية على الاقتصاد الكلي. ويشير إلى انتشار فرض الرسوم أو العمولة الإضافية عند بعض صغار تجار التجزئة الذين يسعون إلى زيادة هامش الربح من عوائد مشاركتهم في أنظمة الدفع الفوري والشمول المالي. كما يؤكد خطاب أن هذه الممارسات مجرمة بالقانون، ولكنهم يلجؤون إليها بحكم الأعراف التجارية التي تمنحهم حق جني ثمار المشاركة في هذه الأعمال المكلفة لهم، مطالباً البنك المركزي بأن يخصص محفزات لهذه الفئة، تشمل منحهم نسبةً من الفائدة تصل إلى 0.5% من النسب التي تحصل عليها شركات الدفع الفوري وتحويل الأموال، أو محفزات مالية وضريبية تمكنهم من الاستمرار في تلك الممارسات التي تساعد الدولة على توسيع قاعدة الشمول المالي وتدخل صغار التجار المنتشرين في السوق الموازية إلي الاقتصاد الرسمي، الذين يدخلونه رغبة في ممارسة مهام الشمول المالي والتعامل بالنقد الرقمي، بدلًا من التكالب على ” الكاش” والعمل بعيدًا عن عيون الدولة.
على صعيد آخر، يوضح خطاب أن ما تقوم به الإدارات الحكومية مثل المرور بتحصيل مبالغ مالية من الجمهور بعيدًا عن أنظمة الدفع الرقمي، لعدم تقييد هذه الرسوم” الكاش” في الدفاتر الرسمية التي تحددها وزارة المالية، حيث يجرى تخصيص بعضها لصرف حوافز للعاملين أو شراء مستلزمات تشغيل، يصعب تدبيرها عبر الموارد المالية التي تأتي من وزارة المالية، التي تضع قيودًا مشددة على الصرف، لا تمكن المسؤولين من تقديم حوافز للعاملين الذين يقومون بأعمال إضافية، لا يستطع رؤساؤهم إثابتهم عليها إلا بالصرف من ” الصناديق الخاصة” التي تجمع بها الأموال نقدًا. وفق تقديرات صادرة عن البنك الدولي، فإن كل مليار جنيه يُعاد تداوله نقدًا بدلًا من قنوات رقمية، يرفع تكلفة إدارة العملة والطباعة والنقل والتأمين بنسبة تصل إلى 0.3% من الناتج المحلي الإجمالي.
ورغم تصريحات المسؤولين في البنك المركزي وجهاز حماية المستهلك بأن رفض بطاقات الدفع أو تحميل العميل رسومًا إضافية “مخالف للقانون”، فإن غياب الردع الفوري يجعل هذه المخالفات تتكرر على نطاق واسع، ويرجعها اقتصاديون إلى بطء البنك المركزي في الرد على شكاوى المتعاملين وضعف قدرته على مراقبة آلاف التجار يوميًا، مع خشية أغلب المستهلكين أنفسهم من الإبلاغ عن الجهات المخالفة خوفًا من تعقيد الإجراءات الحكومية.
وتشير بيانات البنك المركزي إلى أن تكلفة طباعة الورقة النقدية فئة 10 جنيهات تتراوح بين 40 و50 قرشًا، فيما تبلغ تكلفة النقل والتأمين نحو 0.1% من قيمتها سنويًا، ما يعني أن دورة النقد القصيرة وإعادة استبدال الأوراق التالفة تمثل عبئًا ماليًا كبيرًا على الموازنة العامة. وبينما تستثمر دول مثل الهند والبرازيل وماليزيا في أنظمة دفع لحظية منخفضة التكلفة تمكّن المستخدم من إجراء التحويلات دون رسوم تُذكر، فإن الرسوم المتزايدة في مصر جعلت المواطنين ينظرون إلى الخدمات الرقمية كعبء مالي إضافي، لا كوسيلة تسهيل مالي أو خدمات حكومية وخاصة.
المصدر: العربي الجديد
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن مصر عبر موقع أفريقيا برس





