تسريبات جمال عبد الناصر… رسائل سياسية تتجاوز الماضي

5
تسريبات جمال عبد الناصر… رسائل سياسية تتجاوز الماضي
تسريبات جمال عبد الناصر… رسائل سياسية تتجاوز الماضي

أفريقيا برس – مصر. أُعيد إلى السطح في مصر، قبل أيام في توقيت بالغ الحساسية، تسجيل صوتي نادر يعود إلى عام 1970، يجمع الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر بالزعيم الليبي الراحل معمر القذافي. ويظهر عبد الناصر في التسجيل، الذي نشر أخيراً عبر قناة “ناصر تي في” على منصة يوتيوب، معبراً عن إحباطه من مواقف دول عربية كانت تطالب مصر بخوض حرب ضد إسرائيل من دون أن تقدم لها دعماً فعلياً. كما دافع عن قبوله بمبادرة وزير الخارجية الأميركية الأسبق، وليام روجرز، التي كانت تهدف إلى وقف إطلاق النار وفتح الطريق أمام مفاوضات سياسية، إلا أن ما منح هذا التسجيل بعداً خاصاً ليس محتواه التاريخي فقط، بل توقيت نشره الذي أطلق جولة جديدة من الجدل السياسي تتجاوز حدود الماضي إلى حسابات الحاضر. ويكشف مضمون التسجيل عن وجه براغماتي لعبد الناصر، الذي بدا مدركاً لمحدودية قدرات مصر العسكرية عقب نكسة 1967، خصوصاً في ظل غارات إسرائيلية مستمرّة كانت تستهدف العمق المدني المصري، ما كان يهدّد بتفكك الجبهة الداخلية. لذلك، اختار الرئيس المصري بواقعية سياسية الدخول في مسار تهدئة مؤقت عبر مبادرة روجرز، مستهدفاً استكمال بناء حائط الصواريخ الدفاعي على الجبهة. والأكثر دلالة في التسجيل انتقاد عبد الناصر “االمزايدات العربية”، التي كانت تطالب بتحرير فلسطين من البحر إلى النهر من دون امتلاك خطط أو إمكانات حقيقية لتحقيق ذلك.

تسريبات جمال عبد الناصر

ورغم أن ما ورد في التسجيل معروف لدى المؤرخين، إلا أن نشره اليوم يبدو بعيداً عن كونه مصادفة أو إفراجاً أرشيفياً عفوياً، فالتوقيت يتزامن مع ظرف إقليمي بالغ الحساسية، إذ تتعرّض الأنظمة العربية، وفي مقدمها النظام المصري، لانتقادات شديدة بسبب مواقفها المتحفظة أو المتهمة بالتقاعس تجاه الحرب الدائرة في غزة. من هنا، بدا أن نشر التسجيل يحمل رسائل سياسية واضحة، أهمها الإيحاء بأن البراغماتية والبحث عن تسويات ليست أموراً طارئة على السلوك العربي الرسمي، بل كانت جزءاً من حسابات الزعماء التاريخيين الكبار مثل جمال عبد الناصر وغيره. ولا يخلو هذا التوظيف السياسي للتاريخ من آثار ملموسة على الواقع العربي الراهن. من جهة، يعزّز نشر التسجيل موقف الأصوات التي تدعو إلى الواقعية السياسية، وترى أن الأولوية يجب أن تكون لحماية الأوطان وتجنيبها مغامرات غير محسوبة. من جهة أخرى، يؤدي إلى إحباط قطاعات واسعة من الرأي العام العربي، خصوصاً بين الشباب الذين طالما استلهموا من التجربة الناصرية رمزاً للمواجهة والكرامة الوطنية. وقد يعزّز الشعور بالخذلان من القيادات التاريخية، نزعة اليأس من النخب السياسية، ويؤدّي إلى مزيد من التشكيك في جدوى الخطاب الرسمي تجاه فلسطين.

في موازاة ذلك، فجّر التسجيل اشتباكاً قديماً جديداً بين أنصار جمال عبد الناصر وأنصار الرئيس أنور السادات. عقوداً، ظل الناصريون يهاجمون السادات باعتباره مسؤولاً عن الانحراف بالتاريخ العربي نحو مسار التسوية مع إسرائيل عبر معاهدة كامب ديفيد. غير أن أنصار السادات اليوم يستخدمون مضمون هذا التسجيل لدعم أطروحتهم بأن عبد الناصر نفسه كان يسير على الطريق ذاته نحو تسوية مع إسرائيل، لولا أن وفاته المبكرة حالت دون إكماله هذا المسار، ما يضفي شرعية تاريخية على ما أقدم عليه السادات لاحقاً. ولم يقتصر تأثير التسجيل على السجال المصري الداخلي، بل انسحب أيضاً على الموقف العربي العام.

في وقتٍ تتواصل فيه الحرب على غزة، وتتصاعد المطالب الشعبية بتحركات أكثر حدة لدعم الفلسطينيين، جاء التسجيل ليزرع مزيداً من الشكوك في جدوى التعويل على المواقف الرسمية. وأعاد التسجيل إلى الواجهة خطاب الواقعية السياسية الذي يبرر المراهنة على التفاوض وتجنب المواجهات المباشرة. كذلك، عمّق الإحساس بأن التردد الرسمي تجاه مواجهة إسرائيل ليس جديداً، بل له جذور ضاربة في التاريخ العربي الحديث، مما قد يغذي مشاعر الإحباط الشعبي العابر للحدود. وهكذا، لم يعد نشر التسجيل مجرد كشف عن وثيقة تاريخية بقدر ما أصبح جزءاً من معركة سرديات جارية اليوم. معركة تسعى من خلالها أطراف متعددة إلى تفسير الماضي بطريقة تخدم مواقفها السياسية الراهنة، إذ منح التسجيل غطاءً لبعض الأصوات العربية الداعية إلى انتهاج مقاربات تفاوضية، معتبرة أن حتى الزعماء الذين حملوا شعارات الصمود والمقاومة اضطروا في لحظات معينة إلى القبول بتسويات مرحلية لحماية بلدانهم.

وبينما رأت أطراف أخرى أن توقيت نشر التسجيل يهدف إلى إبرار سياسات التهدئة و”عدم التصعيد” الجارية حالياً تجاه إسرائيل، اعتبره بعضهم بمثابة رسالة محبطة تؤكد أن التردّد العربي تجاه دعم القضية الفلسطينية عسكرياً ليس وليد اللحظة، بل امتداد تاريخي عميق. ولا يخفى أيضاً أن توقيت نشر هذا التسجيل، بعد أكثر من خمسة عقود على الواقعة، أثار تساؤلات إضافية، فقد جاء في وقت حساس تواجه فيه الإدارة المصرية الحالية انتقادات داخلية وعربية بسبب موقفها من الحرب الجارية على قطاع غزة، واتهامات بالتراخي في دعم القضية الفلسطينية. وقد لمح مراقبون إلى أن نشر التسجيل في هذا التوقيت قد لا يكون محض مصادفة، بل قد يكون مدفوعاً برغبة جهة ما في التأكيد على أن البراغماتية السياسية المصرية في التعامل مع الصراع العربي الإسرائيلي ليست جديدة، بل تضرب بجذورها في عهد جمال عبد الناصر نفسه، ما يضفي نوعاً من الشرعية التاريخية على النهج الحالي. وهذا الطرح، وإن كان مرفوضاً لدى بعضهم ممن يعتبرون أن السياق التاريخي والظروف بين المرحلتين مختلفان تماماً، إلا أنه يعكس كيف أن الوثائق والأرشيفات التاريخية يمكن أن تستخدم اليوم في معارك الرأي العام وإعادة تفسير المواقف السياسية بحسب اللحظة الراهنة.

لا جديد يُذكر في التسجيل

في السياق، قال أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بكلية الآداب بجامعة القاهرة، محمد عفيفي، إن “التسريب الخاص بالرئيس جمال عبد الناصر مع الزعيم الليبي معمر القذافي، من الناحية التاريخية، لا يتضمن جديداً يُذكر، فعبد الناصر كان بالفعل يسعى، قبل مبادرة روجرز، إلى الدخول في مفاوضات مع إسرائيل، وهذا صحيح ومؤكد تاريخياً”. وأضاف: “عبد الناصر كان يواجه بالفعل مشكلة تتعلق بنقص الطيارين، ولذلك استعان بالخبراء والطيارين الروس، بهدف حماية الجبهة الداخلية. فقد كانت الغارات الجوية الإسرائيلية المتكرّرة على المنشآت المدنية تهدد بزعزعة الاستقرار الداخلي، وكان من الممكن أن تؤدّي إلى انقلاب الرأي العام المصري ضده”. وأوضح أن “الفترة التي شهدت ظهور أنظمة ثورية جديدة في المنطقة، مثل نظام القذافي في ليبيا، والنظام الجديد في العراق، واليمن الجنوبي، تزامنت مع هذا السياق، إذ كانت هذه الأنظمة لا تزال في بداياتها، مدفوعة بحماس الثورات والانقلابات التي جاءت بها إلى الحكم”.

وتابع عفيفي: “في تلك المرحلة، لم يكن عبد الناصر قادراً على شن حرب شاملة، إذ كان لتوّه قد أنهى حرب الاستنزاف، وكان مشغولاً بإعادة بناء الجيش المصري، كما كان يحتاج بشكل ملحّ إلى إنشاء حائط الصواريخ لتعزيز الدفاعات الجوية بشكل كبير”. وأكد أن “عبد الناصر كان بالفعل على خلاف مع بعض هذه الأنظمة الثورية الجديدة، وكان قد أصبح أكثر واقعية بكثير في تفكيره السياسي والعسكري بعد هزيمة 1967. وبالتالي، ما ورد في هذا التسجيل لا يحمل جديداً بالنسبة إلى من يدرسون التاريخ السياسي والعسكري لتلك الفترة”. واختتم عفيفي تصريحه متسائلاً: “يبقى السؤال المهم: لماذا جرى إخراج هذا التسريب إلى العلن في هذا التوقيت بالذات؟”. يُذكر أن التسجيل نُشر عبر قناة “ناصر تي في”، التي كانت تُعرف سابقاً بأنها تابعة لمكتبة الإسكندرية، قبل أن تنفي المكتبة علاقتها بالقناة. وأوضح عبد الحكيم عبد الناصر، نجل الرئيس الراحل، أن القناة تتبع له، مشيراً إلى نيته مواصلة نشر تسجيلات صوتية نادرة لوالده.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن مصر عبر موقع أفريقيا برس

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here