ليبيا بين الظلال والضوء معركة الثقة واستعادة السيادة

4
ليبيا بين الظلال والضوء معركة الثقة واستعادة السيادة
ليبيا بين الظلال والضوء معركة الثقة واستعادة السيادة

فرج أبوخروبة

أفريقيا برس – ليبيا. ليبيا اليوم ليست مجرد ساحة نزاع على سلطة أو سباق على كرسي الحكم، بل هي جغرافيا جريحة تداخلت فيها ملامح التاريخ مع صخب الحاضر، حتى باتت الخيوط بين الماضي والمستقبل معقودة على عقدة معقدة يصعب فكها.

فمنذ انهيار السلطة المركزية في عام 2011، لم تعرف البلاد استقراراً راسخاً، بل عاشت حالة من التبدد المؤسسي والانقسام النفسي، وكأن البناء الوطني الذي تشكل لعقود طويلة قد تفتت إلى جزر معزولة لا يجمعها سوى اسم الدولة على الخرائط.

إن ما يحدث ليس مجرد تجاذب بين تيارات سياسية؛ بل هو حالة فقدان عميقة للثقة، وتراكم لمشاعر الغبن، وتغلغل لتأثيرات خارجية حولت ليبيا من وطن سيد إلى ساحة تتقاطع فوقها مصالح وأجندات شتى.

انعدام الثقة هذا ليس نتاج اللحظة الراهنة وحدها؛ بل هو امتداد لسنوات طويلة من إدارة الشأن العام على نحو عزز الانقسام بدل أن يذوبه. في قلب المشهد، يقف المواطن الليبي متوجساً من أي سلطة مركزية، ليس لأنه يرفض الدولة، بل لأنه جرب وعوداً كثيرة لم تترجم إلا إلى مزيد من الانكشاف الأمني والاقتصادي.

لقد جرى التعاطي مع بناء المؤسسات وكأنه عملية تجميل لوجه متصدع، بينما الأساس ما زال هشاً، والأرضية لم تسو بعد، فكيف لمبنى أن يصمد إذا كان على رمال متحركة؟

وفي التفاصيل اليومية، تتجلى الأزمة في صور دقيقة: مجالس محلية تنشط في حدود إمكانات ضئيلة، وأجهزة أمنية يختلط فيها الرسمي بالمسلح غير الخاضع لأي سلطة قضائية، وقوانين تسري في أماكن وتتوقف في أخرى، كأن العدالة صارت طائراً يختار أين يحط.

أمام هذا المشهد، يصبح من الطبيعي أن ينظر الناس إلى السلطة بعين الحذر، وأن يتعاملوا مع قراراتها كما يتعامل الغريق مع حبل قد يكون منقذاً وقد يكون مجرد طعم لسحبه إلى عمق أكبر.

وإذا كان فقدان الثقة هو العصب المكشوف في الجسد الليبي، فإن مشاعر الغبن تمثل النزيف المستمر فيه. فهناك مناطق من الوطن تعيش على هامش الذاكرة الرسمية، لا تذكرها الحكومات إلا في مواسم الخطب، بينما تحضر في حياتها اليومية معاناة انقطاع الخدمات وغياب التنمية.

لكن هذه الظلال لا يذكر اسمها صراحة، فهي ليست نقاطاً على الخريطة بقدر ما هي مساحات في الوجدان لم يصلها الضوء بعد. ومن عاش في منطقة يزورها العدل والرخاء على استحياء، يعرف جيداً كيف يترجم ذلك إلى شعور بأن الوطن متحيز، وأن الكيل ليس بميزان واحد.

هذه الفجوات لا تقاس فقط بالطرقات والمشاريع؛ بل بمقدار ما يشعر به الفرد من أنه شريك حقيقي في صناعة القرار، وأن صوته مسموع في دوائر صنع السياسات. وحين يشعر مواطن بأن مقعده على طاولة النقاش محجوز لغيره، أو أن الحضور مشروط بانتماء محدد، يصبح الانحياز إلى قوة محلية مسلحة أو الاستقواء بعامل خارجي خياراً قابلاً للتفكير، لا لأنه الأفضل؛ بل لأنه الوحيد المتاح.

وهنا يتجسد الإقصاء غير المعلن في صورة صراع جديد، لا ينتهي عند حدود السياسة؛ بل يمتد إلى النسيج الاجتماعي ذاته. أما العامل الخارجي، فقد كان منذ اللحظة الأولى لانهيار السلطة المركزية بمثابة الريح التي تؤجج النار بدل أن تطفئها.

ليبيا لم تترك لتعيد ترتيب بيتها الداخلي؛ بل وجدت نفسها في قلب تنافس إقليمي ودولي محموم، حيث تتقاطع مصالح النفط مع حسابات الأمن البحري، وتتداخل رهانات النفوذ مع خرائط التحالفات العسكرية.

لم يكن الدعم الخارجي على اختلاف ألوانه دعماً بريئاً أو خالص النية، بل جاء محمولاً على شروط ومصالح تجعل الطرف المحلي الذي يتلقاه أسيراً لأجندة غيره. لقد تدافعت قوى عدة إلى الداخل الليبي.

دول إقليمية ترى في ليبيا عمقاً استراتيجياً لأمنها، وقوى دولية تعتبرها بوابة للمتوسط أو رصيداً للطاقة، وفاعلون من خلف البحار يقرأون المشهد بمنطق الاستثمار طويل المدى في الفوضى.

فمن الطائرات المسيَّرة التي حلقت في سماء المدن، إلى المرتزقة الذين عبروا الحدود تحت لافتات شتى، وصولاً إلى القواعد العسكرية والموانئ التي تحولت إلى نقاط نفوذ، كل ذلك جعل القرار الليبي يصنع في أكثر من عاصمة، قبل أن يعلن من طرابلس أو بنغازي.

الأدهى أن أي تقدم في مسار التسوية الداخلية كان يقابَل بتحريك خيوط خارجية تعيد خلط الأوراق. فحين اقترب الفرقاء من التوافق على انتخابات، ظهرت شروط جديدة أو أحداث ميدانية مفاجئة تعيد الجميع إلى نقطة الصفر.

وحتى المسارات التي تبدو تقنية، كإعادة توحيد المؤسسة العسكرية أو إصلاح النظام المالي، كانت تعطل حين تتعارض مع مصلحة طرف خارجي له نفوذ على أحد اللاعبين المحليين.

وهكذا، أصبح المشهد السياسي في ليبيا أسير لعبة توازنات إقليمية ودولية، لا يسمح لأي طرف بأن يربح ربحاً كاملاً، لكنه يضمن في الوقت ذاته ألا تخسر القوى الخارجية موقعها على الرقعة الليبية.

ورغم كل هذا، يبقى المخرج ممكناً إذا توافرت الإرادة الوطنية الخالصة. فبناء الثقة من جديد ليس مهمة مستحيلة، لكنه يحتاج إلى فعل جريء يتجاوز منطق المحاصصة الضيقة، نحو حكومة تقوم على معيار الكفاءة والمساءلة، لا على قاعدة من يملك السلاح أو الحلف الأقوى.

إعادة صياغة العقد الاجتماعي على نحو يطمئن المواطن إلى أن الدولة لا تفرق بين مناطقها ولا تعترف بألوان الظلال؛ بل تسعى إلى أن يصل النور إلى كل مكان، هي الخطوة الأولى نحو استعادة الانتماء الحقيقي.

إلى جانب ذلك، لا بد من إطلاق مشروع تنموي شامل يردم الفجوات ويعيد توزيع الموارد بصورة تجعل كل ليبي يشعر بأن له نصيباً من ثروة بلاده، لا صدقة موسمية من ميزانيتها.

هذه التنمية ليست مجرد بنية تحتية أو خدمات، بل إشراك حقيقي للمجتمعات المحلية في صنع القرار، ومنحها أدوات إدارة شؤونها بما يتفق مع مصالحها وخصوصياتها.

أما على الصعيد الخارجي، فإن أي تسوية لا يمكن أن تنجح ما لم يفرض انسحاب تدريجي لكل القوات الأجنبية والتشكيلات المرتزقة، ضمن إطار دولي ملزم يربط أي دعم أو تعاون مع ليبيا بالتزام واضح بسيادتها.

البيانات الإنشائية لم تعد تكفي، والضغط الفعلي من الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي هو ما سيجعل وقف التدخلات أمراً ممكناً، لا مجرد مطلب يتكرر في المؤتمرات.

وعندما تحين لحظة الانتخابات، يجب أن تكون البلاد قد تهيأت لذلك: مؤسسة عسكرية موحدة، سلاح خارج المدن، فضاء سياسي حر، وقضاء مستقل قادر على الفصل في النزاعات الانتخابية.

فالانتخابات تحت ظل البنادق ليست سوى شرعية مشروخة، تعيد إنتاج الأزمة بدل حلها. إن ليبيا، بما تملكه من تاريخ طويل وموارد هائلة وموقع جغرافي بالغ الأهمية، ليس قدرها أن تبقى رهينة هذا المأزق.

لقد حرمت فرصاً كثيرة لبناء دولة راسخة، لكنها لم تفقد بعد القدرة على النهوض. اللحظة الحاسمة ستأتي حين يدرك الليبيون أن الوطن أوسع من الولاءات الضيقة، وأن «دوائر الضوء» يمكن أن تمتد لتشمل الجميع إذا توافرت الإرادة. وعندها، لن يكون الخارج قادراً على اللعب في المساحات الرمادية، لأن هذه المساحات لن تبقى موجودة أصلاً.

من يجرؤ على سد الشقوق، وبناء الجسور، وتوحيد المسار، سيكون هو من يكتب أول سطور ليبيا الجديدة؛ ليبيا التي لا تقاس بقوة من يحكمها، بل بعدالة من تحكم به، ولا تختزل في صراع على السلطة، بل تتجسد في عقد اجتماعي جامع يحفظ الكرامة ويضمن الشراكة لكل أبنائها، بلا استثناء وبلا تمييز.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن ليبيا عبر موقع أفريقيا برس

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن ليبيا عبر موقع أفريقيا برس

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here