عبد الرحمن البكوش
أفريقيا برس – ليبيا. في حوار خاص أجرته “أفريقيا برس” مع طارق لملوم، رئيس مركز بنغازي لدراسات الهجرة واللجوء، شدّد الباحث على أن العوامل التي تدفع الشباب الليبي إلى الهجرة ليست اقتصادية فقط، بل أمنية ونفسية واجتماعية، وأوضح أن غياب الدولة وتعدد التشكيلات المسلحة عزز مناخًا طاردًا للأجيال الجديدة، في حين أصبح “الهوس بالعيش في أوروبا” أحد أبرز المحركات المغذية لموجات الهجرة. وأكد لملوم أن تفاقم البطالة وتراجع التعليم وتقييد دور منظمات المجتمع المدني كلها عوامل ساهمت في تفريغ الشباب من بدائل واقعية داخل ليبيا.
وأضاف أن المشاركة السياسية للشباب تراجعت بعد حماسة ما بعد 2011، نتيجة الإحباط وسيطرة المجموعات المسلحة على المشهد، لكنه لفت إلى أن التجارب المحلية الصغيرة مثل أندية المناظرة والملتقيات الشبابية أثبتت قدرة الليبيين على إنتاج أفكار بديلة متى أُتيح لهم هامش حرية.
كما نوّه إلى أن التعليم، بكل مراحله، هو المدخل الحقيقي لتمكين الشباب، محذرًا من أن الانقطاع عنه يفتح الباب أمام الجريمة والمخدرات والالتحاق بالمجموعات المسلحة.
ولفت رئيس مركز بنغازي لدراسات الهجرة واللجوء إلى أن مستقبل ليبيا يبدو غامضًا في نظر معظم الشباب الذين فقدوا الثقة بوجود مسار سياسي مستقر، بينما اعتبر أن إعادة توحيد الحكومة وتأسيس مؤسسة عسكرية وطنية واحدة يمثلان الخطوة الأولى لبناء أمل جديد

الهجرة والشباب
ما أبرز العوامل التي تدفع الشباب الليبي إلى التفكير في الهجرة، داخليًا وخارجيًا؟
منذ عام 2011 برز فقدان الأمن الشخصي والشعور المستمر بالمخاطر كأحد أهم أسباب موجات الهجرة الأولى. ثم جاءت البطالة وغياب الفرص في سوق العمل المدني، مقابل الضغوط للانخراط في المجموعات المسلحة. يضاف إلى ذلك عامل نفسي واجتماعي يتمثل في الهوس بالعيش في أوروبا، والذي عززته شبكات تهريب البشر من خلال تصوير الرحلة وكأنها ساعات قليلة على متن قارب لتصل بأصحابها إلى أول بلد أوروبي.
كيف تؤثر البطالة ونقص الفرص التعليمية على قرارات الشباب المتعلقة بالهجرة؟
هذان العاملان هما من أبرز المحركات نحو الهجرة. فالفوضى في سوق العمل وانعدام الاستقرار الحكومي أضعفا قدرة الشباب، خصوصًا الخريجين، على إيجاد وظائف تتناسب مع تخصصاتهم. ومع تراكم هذا الإحباط يصبح خيار الهجرة في نظر الكثيرين أقل خطورة من البقاء في حالة انتظار دون أفق.
هل ترى أن الهجرة هي خيار مؤقت أم حل دائم بالنسبة للشباب الليبي؟ ولماذا؟
يصعب اعتبارها خيارًا مؤقتًا، خاصة في ظل غياب مؤشرات حقيقية على استقرار الوضع السياسي والأمني في ليبيا. وكلما زاد عدد الليبيين الذين ينجحون في الوصول إلى أوروبا، زاد عامل الجذب لبقية الشباب، ما يعزز ديمومة الفكرة بدل أن تكون مجرد حل عابر.
ما دور المؤسسات المدنية في تقديم بدائل للشباب الراغب في الهجرة؟
المؤسسات غير الحكومية نفسها تعاني من الضعف والتضييق، ولم تتح لها فرصة أداء دورها الحقيقي. لو وُجدت جمعيات قوية وفاعلة لكان بمقدورها تنظيم برامج توعية وتقديم بدائل عملية، مثل تشجيع الشباب على العمل الحرفي، وتنفيذ مشروعات صغيرة بتمويل محلي من البلديات أو بالشراكة مع القطاع الخاص.
المشاركة السياسية
ما مستوى اهتمام الشباب الليبي بالمشاركة في الانتخابات والمبادرات السياسية؟
بعد 2011 شهدنا اندفاعًا كبيرًا للشباب نحو المشاركة السياسية، لكن هذه الحماسة تراجعت بفعل الإحباط وطول فترة الانتظار لإجراء انتخابات حقيقية. ومع ذلك، يظل الأمل قائمًا، ويمكن أن يعود الزخم متى ما توفرت مبادرات سياسية جادة وتجارب انتخابية ناجحة.
ما أبرز العوائق التي تمنع الشباب من الانخراط في العملية السياسية؟
العامل الأمني هو العائق الأكبر. فالعمل السياسي بات مرتبطًا بشكل مباشر بسطوة المجموعات المسلحة. في كثير من الحالات نجد الميليشيات وقادة الحرب هم من يشكّلون ويمولون أحزابًا، مما يجعل التنافس غير شريف، ويدفع الشباب إلى العزوف أو المشاركة بحذر شديد خوفًا على حياتهم.
كيف يمكن تمكين الشباب ليصبحوا فاعلين في صناعة القرار دون الانزلاق نحو الانتماء للمجموعات المسلحة؟
الحل يبدأ بتقوية المؤسسات التعليمية منذ المراحل الثانوية وحتى الجامعات، وفتح المجال للعمل الطلابي الحر بعيدًا عن التدخلات العسكرية. تحسين جودة المناهج وإطلاق برامج تحفيزية سيعزز ثقة الشباب بأنفسهم. وحتى غير القادرين على مواصلة التعليم الأكاديمي يجب ألا يُستبعدوا؛ بل يمكن دمجهم عبر التعليم المهني والمشروعات الصغيرة.
هل هناك تجارب محلية ناجحة يمكن الاستفادة منها لتعزيز مشاركة الشباب في السياسة؟
نعم، هناك مبادرات محلية واعدة مثل أندية المناظرة والملتقيات الشبابية التي قادتها بعض الجمعيات غير الحكومية. هذه المبادرات، رغم محدوديتها، أثبتت أن للشباب القدرة على النقاش وصياغة أفكار بديلة، متى ما أُتيحت لهم المساحة.
التطلعات والطموحات
كيف يرى الشباب الليبي مستقبل ليبيا السياسي والاقتصادي خلال السنوات المقبلة؟
معظم الشباب يرون المستقبل قاتمًا، ويفتقدون لأي أفق واضح، باستثناء قلة من المتفائلين المشاركين في بعض المبادرات. لكن غالبية الشباب يعتقدون أن مستقبل ليبيا يدار بالقوة العسكرية والانتماء إلى أجنحة أمراء الحرب. وقد أدى هذا إلى تسرب مئات الطلبة من المدارس والجامعات للانخراط في تشكيلات مسلحة، طلبًا للحماية أو للمكاسب المادية.
ما أبرز الأفكار والإصلاحات التي يقترحها الشباب لتحقيق استقرار الدولة؟
توحيد الحكومة والمؤسسات ودعم مؤسسات الدولة وتوفير فرص عمل للشباب داخلها وإنشاء مؤسسة عسكرية واحدة وطنية وموحدة.
كيف يمكن توجيه طموحات الشباب نحو مشاريع تنموية بدلاً من الانخراط في الصراعات المسلحة؟
يتطلب الأمر إرادة سياسية حقيقية، تبدأ بمحاربة الفساد ووضع حد للإفلات من العقاب. فلا يمكن الحديث عن تنمية أو مشاريع اقتصادية ما لم يشعر الشباب أن القانون يطبق على الجميع، وأن جهودهم لن تضيع بسبب الفوضى والفساد.
ما المجالات التي يطمح الشباب للعمل فيها للبقاء والمساهمة في بناء الدولة؟
الكثير من الشباب يطمح إلى فرص عملية مباشرة، سواء عبر مواصلة التعليم أو الدخول المباشر إلى سوق العمل. المطلوب فتح شراكات حقيقية مع جهات محلية ودولية لدمج الشباب في مشاريع تنموية، وتسهيل حصولهم على قروض صغيرة من المصارف بعد تدريبهم وصقل مهاراتهم.
الانضمام للمجموعات المسلحة
ما أبرز الدوافع التي تجعل بعض الشباب ينضمون إلى التشكيلات المسلحة تحت غطاء الدولة؟
تشبه هذه الدوافع تلك التي تدفعهم إلى ركوب البحر للهجرة. يعرف الشباب أن الانضمام إلى المجموعات المسلحة محفوف بالمخاطر، لكنه في نظرهم يوفر حماية شخصية ولعوائلهم، ويمنح دخلًا ماديًا، وأحيانًا وسيلة للانتقام. كما أن ثقافة “الغنيمة” التي بنيت عليها بعض التشكيلات تجعل من الانخراط فيها خيارًا مغريًا للبعض.
هل ترى أن هذه الظاهرة مرتبطة أساسًا بالعوامل الاقتصادية أم الاجتماعية والسياسية؟
هي نتيجة تضافر جميع العوامل. فالتأسيس السياسي لهذه المجموعات جاء من رحم الانقسامات، ثم تداخل العامل الاجتماعي حين تشكلت مجموعات على أساس قبلي. والجانب الاقتصادي بدوره لعب دورًا أساسيًا من خلال الإغراءات المادية والمكاسب السريعة.
ما الإجراءات الممكنة لتقليل الانجراف نحو المجموعات المسلحة وتعزيز خيارات سلمية للشباب؟
الخطوة الأولى هي الإرادة السياسية وتوحيد الحكومة. ثم يأتي تجفيف مصادر تمويل هذه المجموعات، ومحاسبة قادتها، ما سيفتح المجال أمام الشباب لاختيار مسارات سلمية أكثر انسجامًا مع أعمارهم وطموحاتهم.
التعليم والعزوف عن الدراسة
ما أبرز الأسباب التي تدفع الشباب إلى ترك الدراسة أو عدم مواصلة التعليم؟
الأسباب متعددة، أبرزها الوضع الاقتصادي الذي يدفع الطلبة إلى البحث عن عمل لإعالة أسرهم، خاصة في غياب المعيل. أيضًا، النزاعات المسلحة والانقسامات السياسية أضعفت المؤسسات التعليمية، بينما أدخلت ثقافة العنف و”البلطجة” إلى الجامعات، ما أفقد العملية التعليمية جاذبيتها.
كيف يؤثر التعليم أو انقطاعه على قدرة الشباب على المشاركة الفاعلة في المجتمع والسياسة؟
وجود الشباب على مقاعد الدراسة والجامعة يساهم في صقل شخصياتهم وحمايتهم من الانجراف وراء أفكار متطرفة أو مسارات مدمرة. أما الانقطاع عن التعليم، فيدفعهم غالبًا إلى دوامة الجريمة والمخدرات والاتجار بالبشر، خصوصًا في بلد يفتقر لبدائل ثقافية أو ترفيهية.
ما الخطط أو المبادرات التي يمكن تقديمها لتشجيع الشباب على مواصلة تعليمهم؟
ينبغي تحفيز الشباب عبر برامج واضحة تضمن لهم مستقبلًا أفضل بعد التخرج، وتقديم ضمانات بأن سنوات التعليم ستثمر فرصًا حقيقية في سوق العمل.
التأثير الاجتماعي والنفسي للصراع
كيف يؤثر الصراع العسكري المستمر على الصحة النفسية والاجتماعية للشباب؟
أثر الصراع واضح في تزايد حالات الإدمان والمشاكل النفسية بين الشباب، ومع الأسف لا توجد مؤسسات متخصصة توفر الدعم الكافي أو تشخص هذه الحالات بشكل علمي. الاعتقال التعسفي والنزوح والعنف المسلح تركت بصمات عميقة على الأجيال الشابة.
ما دور المجتمع المدني في تقديم الدعم النفسي والاجتماعي للشباب المتضررين من الصراع؟
كان للمجتمع المدني دور ملموس قبل عام 2018، حيث أطلقت منظمات برامج لدعم ضحايا النزاع والإدمان والنزوح، وقدمت أنشطة وعيادات نفسية. لكن مع تزايد القيود والانقسامات، تراجعت هذه المبادرات، وتحولت مفوضية المجتمع المدني نفسها إلى ساحة صراع سياسي.
هل هناك برامج ناجحة لتأهيل الشباب نفسيًا واجتماعيًا بعد تعرضهم للعنف أو النزوح؟
الأمر يتطلب جهدًا مزدوجًا؛ بداية من مؤسسات الدولة عبر مراكز متخصصة وإرادة حكومية، ثم استكمالًا بدور المنظمات غير الحكومية لضمان الاستمرارية عبر برامج متابعة ودعم مجتمعي ونفسي.
دور الحكومة والمجتمع الدولي
ما البرامج الحكومية أو الدولية الحالية لدعم الشباب وتمكينهم اقتصاديًا وسياسيًا؟
لا يمكن التعويل على البرامج المحلية وحدها، فليبيا بلد غير مستقر. المطلوب هو وجود شراكات دولية حقيقية تركز على مشاريع تنمية شبابية، مع الاستفادة من تجارب دول عاشت ظروفًا مشابهة وتجاوزتها.
كيف يمكن دمج الشباب في عملية بناء الدولة وتعزيز الاستقرار دون الزج بهم ضمن تشكيلات مسلحة؟
لا يمكن الحديث عن دمج الشباب ما لم تتوحد الحكومة أولًا وتُبنى مؤسسات دولة حقيقية. إلى جانب ذلك يجب توفير تعليم جاد وفرص عمل مدروسة، بالتوازي مع القضاء على شرعية وجود أي تشكيل مسلح.
ما التوصيات التي تقدمها للسلطات والمؤسسات الدولية لضمان استفادة الشباب من برامج التنمية المستدامة؟
دعم وتقوية المؤسسات التعليمية من الابتدائي حتى الجامعات، والتوقف عن دعم المجموعات المسلحة.
تعزيز برامج التدريب المهني بمساعدة خبرات دولية، وخلق فرص عمل مرتبطة بها داخل ليبيا وخارجها.
تشجيع الأفكار والمشاريع الصغرى عبر البلديات، وتأسيس صناديق تمويل محلية خاضعة للرقابة لضمان وصول الدعم إلى الشباب المستهدفين.
في الختام، قدّم طارق لملوم، رئيس مركز بنغازي لدراسات الهجرة واللجوء، صورة قاسية عن واقع الشباب الليبي بين مطرقة الصراع وسندان غياب الدولة. الحوار كشف أن الهجرة والانخراط في المجموعات المسلحة وجهان لعملة واحدة اسمها “غياب الأفق”، وأن الحل يكمن في بناء مؤسسات قوية، وتوحيد الحكومة، وتجفيف منابع الفساد والعنف. كما شدد لملوم على أن التعليم هو العمود الفقري لأي إصلاح، وأن غياب برامج جدية سيبقي الشباب بين خيارين مرّين: قوارب الهجرة أو البندقية. وبين هذا وذاك، يظل الأمل قائمًا إذا ما توفرت إرادة سياسية صادقة ودعم دولي موجه نحو التنمية المستدامة، بما يعيد للشباب الليبي الثقة بأن وطنهم يستحق البقاء والعمل من أجله.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن ليبيا عبر موقع أفريقيا برس