د. علي المبروك أبوقرين
أفريقيا برس – ليبيا. في زمن تتقاذفه الأزمات وتتناوشه الحروب والصراعات، تبقى بعض القصص شاهدة على أن الوطن لا يُقاس بمساحته، بل بمن حملوه في قلوبهم رغم الجراح. من بين تلك القصص التي تدمع لها العين وتنبض لها القلوب، قصة الدكتورة فاطمة سالم الحاجي، الأستاذة الجامعية والناقدة الأدبية الكبيرة، التي كانت وما زالت منارة للثقافة الليبية، وصوتا نسائيا عميقا في النقد والرواية والإبداع.
سنوات طويلة من العطاء الأكاديمي والفكري، كرستها في خدمة الأدب الليبي والعربي، أستاذة وباحثة ومؤلفة وناقدة مرموقة، مثلت ليبيا في المحافل الثقافية والعلمية بأناقة فكرها وعمق رؤيتها وإبداعها، لكن الأقدار شاءت أن تختبرها بأشد ما يمكن أن يُبتلى به الإنسان الاغتراب والمرض والفقد، هاجرت مضطرة لا طائعة، لا طمعا في مال أو منصب، بل بحثا عن علاج لزوجها الفنان والإذاعي الكبير الراحل الذي أضاء بجهده صوت ليبيا لعقود من الزمن، زوجها الذي رافقته في رحلة المرض والغربة، متفرغة لرعايته بإيمان وصبر نادرين، حتى اضطرها الحال إلى بيع بيتها الوحيد الذي بنته بعرقها وتعبها، لتغطي نفقات العلاج في بلاد الغربة.
في خضم هذه المعاناة، وكانت الفاجعة الكبرى حين فقدت ابنها الوحيد، ثم رحل زوجها بعد معاناة طويلة، لتبقى وحيدة إلا من إرث كبير من الإبداع والوجع معا، وعادت إلى الوطن الذي أحبته، تحمل وجع الغياب في قلبها الموجوع مرضا، والأمل في أن تجد في أحضانه دفء الاعتراف والتقدير، لتفاجأ بأن الجامعة التي أفنت عمرها فيها لا تحمل لها سوى الصمت والنسيان.
أية قسوة أن تُنسى العالمة بعد عطائها، وأن تعيش الأديبة التي عرفت العالم بأدب ليبيا دون بيت يأويها؟ وأية رسالة نوجهها للأجيال حين نترك رموزنا بين الألم والحاجة بعد أن وهبونا عمرهم علما وإبداعا وسمعة للوطن؟
إن الدكتورة فاطمة الحاجي ليست مجرد اسم أكاديمي، بل ذاكرة وطن، وصوت أدب، وضمير ثقافة ناطق، ومن واجب الوطن ومؤسساته وقياداته ونخبه أن يقف معها وقفة وفاءٍ وتقدير تحفظ كرامتها، وتعيد لها حقها في العيش الكريم الذي يليق بمقامها العلمي والإنساني.
لقد علمتنا الدكتورة فاطمة الحاجي كيف يكون الأدب رسالة، وكيف يكون الإخلاص للوطن موقفا لا شعارا، واليوم آن الأوان أن نقف جميعا لنقول بصوت واحد لا تُترك القامات وحدها حين يشتد عليها الزمن، فمن لا يكرم رموزه في حياتهم وهذا حقهم، يكرس موت الروح في أمته، فلتمدّ الدولة يدها لهذه السيدة النبيلة، التي حملت اسم ليبيا إلى المنابر العربية والعالمية، وعادت لتجد الصمت والصد بدل التكريم وتسوية أوضاعها، إنها قضية كرامة وطنية قبل أن تكون حالة إنسانية، ودعمها ليس منة، بل واجبا يعيد الاعتبار لقيمة العلم والأدب والوفاء في زمن يندر فيه الوفاء.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن ليبيا عبر موقع أفريقيا برس
            




