مثلث العوينات: مركز لتهريب الذهب والبشر في ليبيا

مثلث العوينات: مركز لتهريب الذهب والبشر في ليبيا
مثلث العوينات: مركز لتهريب الذهب والبشر في ليبيا


أحمد الخميسي

أهم ما يجب معرفته

مثلث العوينات في ليبيا أصبح نقطة حيوية لتهريب الذهب والبشر، حيث تستغل المليشيات الفوضى السياسية والأمنية. تقارير تشير إلى أن هذه الأنشطة تمول تنظيمات متطرفة، مما يزيد من تعقيد الوضع الأمني في المنطقة. تتداخل طرق التهريب مع النزاعات في السودان وتشاد، مما يعكس تحديات كبيرة أمام السلطات الليبية والدول المجاورة.

أفريقيا برس – ليبيا. أصبح مثلث العوينات نقطة اتصال حيوية تنشط فيها عمليات تهريب المخدرات والذهب والبشر انطلاقاً من غرب أفريقيا مروراً بالسودان وصولاً إلى السواحل الليبية، لتمويل أنشطة مليشيات حفتر وشريكتها الدعم السريع وتنظيم القاعدة.

في عمق الصحراء الليبية، حيث تمتد الرمال على مد البصر وتغيب أي مظاهر للدولة، يجلس يونس الزوي حارساً لممر ثمين، من مخبئه عند مثلث العوينات النائي، على بعد 400 كيلومتر في الفضاء الممتد بين الكفرة والحدود المصرية، يراقب المهرب الليبي قوافل الذهب الخام وهي تشق طريقها، يرافقها رجال مسلحون يعرفون أسرار الصحراء ومسالكها الليلية مثل ظهر أيديهم.

هنا، حيث تحكم الفوضى ويغيب القانون، تتحول الصحراء إلى شريان حياة لاقتصاد موازٍ. سيارات الدفع الرباعي القوية تنطلق عبر الحصى والكثبان، بينما تتولى الدراجات النارية مهمة اختراق المناطق الجبلية الوعرة. لكن الأخطر في هذا المشهد ليس التضاريس القاسية، بل الظروف السياسية المواتية، وقد لخّصها الزوي قائلاً بصراحة: “نستغل الفوضى التي خلقتها الحرب في السودان والانقسام السياسي في ليبيا وغياب الرقابة في البلدين”. إنها وصفة مثالية لازدهار تجارة تجعل من الصحراء سوقاً مفتوحاً، ومن الانقسام ذهباً.

وهو ما يتسق مع ما أورده تقرير فريق الخبراء المعني بليبيا والمقدم إلى مجلس الأمن في ديسمبر/كانون الأول 2024، مشيراً إلى أن الفراغ الأمني مكّن “شبكة عابرة للحدود يديرها طوارق ماليون ويدعمها نيجريون وليبيون، من تهريب الذهب، وتستخدم عائداتها في تمويل خلايا نائمة تابعة لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي”.

وتعتبر الكفرة محطة رئيسية على طريق مناطق النزاع في دارفور وتشاد، إذ يجمع الوسطاء المهاجرين والسلع، بما في ذلك الذهب غير المشروع، قبل انتقالهم إلى ما يُعرف بمثلث العوينات، الذي يشكل مركزاً لوجستياً يربط الجنوب الليبي بالمراكز الساحلية شمال البلاد، سواء للرحلات غير النظامية نحو أوروبا، أو لتصدير الذهب والاتجار في السلع المجلوبة عبر الأسواق الإقليمية، وفق إجماع مصادر التحقيق، ومنهم العميد محمد العبيدي، الذي عمل سابقاً على ملفات الهجرة غير الشرعية بين عامي 2023 و2024، قبل تقاعده في أغسطس/آب 2025 بعدما خدم في صفوف مليشيا اللواء المتقاعد خليفة حفتر.

كوكايين وذهب

يقول العميد العبيدي لـ”العربي الجديد” إن مصالح شبكات تهريب محلية تتشابك مع قوى خارجية، تستغل الوضع الحالي، ما خلق بيئة مثالية للتهريب عبر المسارات الجديدة، خاصة أن “مليشيا حفتر سيطرت على مناجم الذهب في منطقة كوري بوكدي أقصى شمالي تشاد ضمن إقليم تيبستي الحدودي مع ليبيا، وفرضت الضرائب على العاملين”، بحسب تقرير فريق الخبراء المعني بليبيا، الذي لفت إلى أن “معظم الذهب المُهرب، كان يخضع لرسوم فرضتها قوات حفتر، ويصل في نهاية المطاف إلى شمال ليبيا، وخاصة مصراتة، قبل شحنه إلى الخارج، ولم تكن تلك الرسوم فحسب التي حصلتها قوات حفتر، بل امتدت مصادر تمويلها إلى جباية إتاوات على تجارة المخدرات خاصة أنشطة نقل “الكوكايين من غرب أفريقيا إلى ليبيا عبر النيجر”.

وتمتد مسارات التهريب الجديدة على مساحة صحراوية هائلة، تتقاطع فيها طرق تاريخية تربط الكفرة بجبل العوينات، وتتداخل عبرها مسارات قادمة من إقليم دارفور في السودان، وأخرى من تشاد، بحسب مصادر التحقيق، ومنهم الزوي، وعضو المجلس البلدي السابق للكفرة خالد عبد الله، الذي أكد لـ”العربي الجديد” أن هذه المسارات توضح الترابط الوثيق بين تهريب البشر والمعادن، مفسراً ذلك بقوله إن “عائدات تهريب الذهب تموّل شبكات نقل المهاجرين غير الشرعيين الذين بدورهم يعيدون تدوير الأموال في تهريب المعادن مرة أخرى”، ما يعكس تعقيدات عالم الجريمة في قلب الصحراء الليبية.

ما سبق يؤكده العميد المتقاعد العبيدي، مشيراً إلى اعتماد المهربين على خطوط متفرعة بين مدينة الكفرة نقطة عبور مهمة، وبلدة الجغبوب ومدينة طبرق في الشرق، وصولاً إلى أجدابيا شرقاً والخمس وزوارة في الغرب، إذ تُجهز رحلات هجرة غير شرعية بحرية نحو أوروبا، ويقول إن الذهب يوضع مؤقتاً في مخازن تحت حماية مليشيات مسلحة قبل نقله إلى مسارات العبور، مضيفاً: “تعتمد شبكات التهريب على نمط عمل متقن يدمج بين تجارة البشر والذهب، مستفيدة من ضعف الرقابة على الحدود والطرق الصحراوية، والفوضى الأمنية والسياسية، ما يجعل الجنوب الشرقي الليبي محوراً رئيسياً لشبكات التهريب الإقليمية”.

سيطرة المليشيات التابعة لحفتر تمنحها القدرة على إدارة تدفقات الذهب والمهاجرين، خاصة بعد تشديد الرقابة المصرية على حدودها، الأمر الذي أجبر المهربين على استخدام مسارات أطول وأكثر خطورة عبر الصحراء، رغم تضاعف تكاليف نقل الذهب بواسطة قوافل تحميها مجموعات مسلحة، كما ارتفعت تكاليف نقل المهاجرين من 2000 دولار للفرد إلى أكثر من 4500 دولار، وفق وسطاء يعملون في شبكات تهريب، طلبوا عدم الإفصاح عن أسمائهم لمخاوف أمنية.

شبكات عابرة للحدود

“كل خطوة في عمليات نقل الذهب والمهاجرين محسوبة بدقة، بدءاً من تنظيم القوافل الصحراوية، مروراً بمخازن التجميع في الكفرة، وصولاً لنقاط الانطلاق البحرية أو الأسواق المحلية للذهب”، يقول ضابط من الكتيبة 452 مشاة التابعة لقوات حفتر في الكفرة، موضحاً لـ”العربي الجديد” أن أعضاء شبكات التهريب يحملون جنسيات سودانية وتشادية وليبية.

وكان إنتاج الذهب قبل اندلاع الحرب بالسودان في إبريل/نيسان 2023 يتوزع على مسارَين رئيسيَين؛ الدولة السودانية التي تمنح للشركات العاملة في المناجم ترخيصاً على أن تضع جزءاً من العائدات في البنك المركزي، بينما عملت قوات الدعم السريع على تحويل جزء كبير من العائدات إلى نقد أجنبي خارج سيطرة الدولة، معظمه يذهب للإمارات وبعضه يمرّ إلى روسيا وتشاد. ويقول الباحث المتخصّص في الشؤون الليبية، جلال حرشاوي، الذي عمل سابقاً في المعهد الهولندي للعلاقات الدولية كلينغينديل (مؤسّسة فكرية وأكاديمية) إنّ قوات الدعم السريع لم تكن بحاجة لتمرير الذهب عبر ليبيا قبل الحرب، لكن اندلاع المعارك الأهلية في السودان أربك العديد من الأنشطة غير المشروعة القائمة بالفعل، مثل تهريب البشر والذهب، وتجارة المخدرات والسيارات المسروقة، وتهريب الأجهزة الإلكترونية والوقود.

و”ارتفعت واردات الإمارات من الذهب السوداني من 17 طناً في 2023 لتصل إلى 29 طناً في 2024 إضافة إلى كميات دخلت من دول مجاورة بينها ليبيا وتشاد”، بحسب تقرير “تدفقات الذهب على الإمارات” الصادر عن منظمة Swiss Aid سويس إيد السويسرية (غير حكومية) في الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني 2025، موضحاً أن “ليبيا وتشاد أصبحتا ممرّين رئيسيَين لتصدير الذهب السوداني للخارج، وأن شبكات التهريب استفادت من ضعف الرقابة الحدودية والفوضى الإقليمية، لنقل الذهب لدول الجوار ومنها إلى أسواق التصدير”.

يؤكد التقرير أن جزءاً من تدفقات عائدات الذهب المهرّب المرتبط بالنزاعات ولا سيّما من السودان يؤجّج الحرب، إذ تسيطر قوات الدعم السريع على المناجم، وخلص إلى حقيقة أن “التدفق غير المشروع يعكس ضعف الرقابة الدولية والإقليمية على تجارة المعادن الثمينة في مناطق النزاع، ويضع تساؤلات حول دور بعض الدول بوصفها مستورداً رئيسياً للذهب المهرّب دون مساءلة فعّالة”.

انتهاكات على طريق الهجرة

وصل إلى ليبيا 100 ألف سوداني في عام 2024 هرباً من الحرب، كما يقول حرشاوي، مشدداً على اعتبار السودانيين العابرين لجنوب ليبيا (عبر تشاد أو سالكين طريقا مباشرا) خلال الحرب لاجئين وليسوا مهاجرين، وهو ما يختلف جذرياً عن وضعهم قبل الحرب، ويضيف: “هؤلاء اللاجئون يستقرون مؤقتاً في ليبيا ولا يسعون بالضرورة للوصول للسواحل الأوروبية، وفي حال استمرت الحرب، قد يحاول كثيرون منهم خوض رحلة العبور نحو أوروبا”.

وفي هذه المنطقة الوعرة يواجه المهاجرون مآسي يومية، حيث “تاه البعض في الصحراء، وتُركوا في العراء بلا مأوى”، يقول إبراهيم بالحسن، الذي يعمل في جهاز الإسعاف والطوارئ في الكفرة، محاولاً رسم صورة حقيقية لمعاناة المهاجرين عابري هذه الصحراء، مضيفاً أنهم يتحدرون من جنسيات متعددة، منهم سودانيون وصوماليون، “في ظل هذا الحجم الكبير، تبدو الحدود الليبية مفتوحة، وفي ظل انعدام الأمن، فإن السيطرة على تدفق المهاجرين شبه مستحيلة”، ويشير إلى أن “بعض المهاجرين يأتون من تلقاء أنفسهم، بينما تنقل آخرين عصابات منظمة، لديها أماكن سرية في الكفرة يصعب العثور عليها، وذلك قبل نقلهم إلى مدن الساحل، تمهيداً لإرسالهم عبر البحر لإيطاليا واليونان”، ويضيف أن الحالات الإنسانية تُرصد يومياً في الصحراء، لكن التعامل معها صعب بسبب نقص الموارد والظروف القاسية.

ما يتعرض له المهاجرون من انتهاكات في المثلث الحدودي بين ليبيا والسودان ومصر، أكده تقرير فريق الخبراء المعني بليبيا المقدم لمجلس الأمن في ديسمبر 2024، والذي توصل إلى “مسؤولية مباشرة يتحملها علي المشاي، قائد كتيبة 20/20 (تابعة للواء طارق بن زياد بقوات حفتر)، عن خمس حالات احتجاز غير قانوني وتعذيب ومعاملة قاسية ومهينة ارتُكبت بحق مهاجرين في مركز احتجاز غير رسمي خاضع لسلطة عناصر القوات المسلحة العربية الليبية في ميناء بنغازي. وأقر أربع ضحايا بأن المشاي كان يتمتع بسلطة على وحدات TBZ البحرية (قوة المهام الخاصة التابعة للواء طارق بن زياد)، وأنه كان مسؤولاً عن إصدار أوامر لهذه الوحدات باعتقال المهاجرين ونقلهم لمركز الاحتجاز المحدد الخاضع لسيطرته المباشرة، وهو من أصدر هذه الأوامر باحتجاز المعتقلين الخمسة بشكل غير قانوني وإساءة معاملتهم انتقاماً لعملية اتجار وتهريب فاشلة أدارها ونسقها مع شبكات إجرامية دولية على طول طرق التهريب الدولية المارة عبر المناطق الساحلية والبحرية في شرق ليبيا”.

تذرع بجغرافيا المثلث

تتذرع الأجهزة الأمنية بالافتقار إلى الموارد اللازمة لضبط المهرّبين، كما يقول رئيس جهاز مكافحة الهجرة غير الشرعية في المنطقة الشرقية، التابع للحكومة المكلفة من مجلس النواب، اللواء صلاح محمود الخفيفي، مضيفاً لـ”العربي الجديد”: “صعوبة الطبيعة الجغرافية للمثلث الحدودي بين السودان ومصر وليبيا، تجعل العمل مستحيلاً، إذ تمتد صحراء شاسعة دون وجود وسائل مراقبة كافية”.

وليس انعدام الدوريات والمراقبة في تلك المسارات الصحراوية، وحده ما يفاقم عمليات التهريب إذ يؤكد خالد عبد الله مساهمة الصراع المحلي بين قبائل الزوي (تنتمي إلى بني سليم، وتتوزع في مناطق متعدّدة في شرق وجنوب ليبيا) والتبو (مجموعة عرقية تسكن مناطق واسعة في جنوب ليبيا، ويتقاسمون الحدود مع تشاد والنيجر والسودان) بالكُفرة في تعزيز أنشطة التهريب غير القانونية.

فشل أمني تجسده حرية حركة يتمتع بها المهربون بطول ليبيا وصولاً لساحل مدينة طبرق على البحر المتوسط، إذ يستخدمون مخازن قريبة منه لتجميع المهاجرين غير النظاميين قبل الزج بهم في قوارب الهجرة، ومن بينهم السوداني محمد إدريس 19 عاماً، الذي وصل إلى الكفرة في مارس/آذار 2025 حاملاً حقيبة صغيرة تحتوي على بعض الملابس وصور عائلته، مضيفاً لـ”العربي الجديد” أنّ المخازن المستخدمة للبشر والبضائع وهي مبانٍ قديمة أو مستودعات معدنية وإسمنتية، تدار غالباً من وسطاء أو مجموعات مسلّحة، وتوجد في مناطق صحراوية قريبة من المعسكرات التابعة للمليشيات المسيطرة على المنطقة، واحتُجز إدريس في غرفة ضيقة مكتظة بأجساد بشرية منهكة، لدى وصوله بعد رحلة مضنية، كما يقول، مضيفاً أنه دفع 2500 دينار ليبي (528 دولاراً أميركياً) قبل انتقاله إلى طبرق مع مجموعة من السودانيين قاصدين سواحل أوروبا، بينما كلفته رحلته التي بدأت من دارفور 1500 دولار، وأثناءها خدعوا جميعاً وأجبروا على العمل القسري إذ كلف بمهام النظافة في كتيبة سبل السلام بالكفرة مقابل الطعام قائلاً: “أنتظر اللحظة المناسبة للهروب واستكمال رحلتي بأيّ طريقة إلى أوروبا”.

مثلث العوينات هو منطقة استراتيجية تقع في عمق الصحراء الليبية، حيث تتداخل الحدود بين ليبيا والسودان وتشاد. تاريخيًا، كانت هذه المنطقة معروفة بكونها نقطة عبور للمهاجرين والسلع، ولكنها أصبحت مؤخرًا مركزًا رئيسيًا لعمليات التهريب. الفوضى السياسية والأمنية في ليبيا، بالإضافة إلى النزاعات في الدول المجاورة، ساهمت في ازدهار تجارة التهريب، مما جعل المنطقة ملاذًا للجماعات المسلحة والشبكات الإجرامية.

في السنوات الأخيرة، زادت الأنشطة غير القانونية في مثلث العوينات، حيث تستغل المليشيات المحلية الفراغ الأمني لتمويل عملياتها. تقارير الأمم المتحدة تشير إلى أن هذه الأنشطة تشمل تهريب الذهب والمخدرات، مما يعكس التحديات الكبيرة التي تواجهها السلطات في السيطرة على الحدود وتأمين المنطقة. تزايدت المخاطر المرتبطة

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here