تعيش غالبية السكان في ليبيا معاناة يومية، وسط تراجع كبير في الاستهلاك، بالتزامن مع ضعف القدرة الشرائية وارتفاع الأسعار. ويقول علي العزابي، البالغ من العمر 50 عاماً، ويعمل في مؤسسة حكومية معنية بالرياضة، إن الحرب أوقفت منظومة العيش في العاصمة الليبية طرابلس.
ويضيف: “المواطن يتنقل، على مدار الأسبوع، بين طوابير البنزين وغاز الطهو وفروع المصارف التجارية، فضلاً عن انقطاع الماء المتكرر، في حين أن الكهرباء لا تأتي إلا في آخر الليل. ويلفت إلى أن المواطنين يلتزمون التقشف في الاستهلاك، مع ارتفاع التضخم وانقطاع الكثير من السلع الحيوية من الأسواق.
وتعقّد الوضع المعيشي لليبيين، لا سيما في طرابلس، منذ بدء هجمات مليشيات اللواء المتقاعد خليفة حفتر، والتي تصدّها قوات حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دولياً، بينما تسود المخاوف من إطالة أمد المعارك واتساع نطاق الأضرار المعيشية وارتفاع عدد النازحين في البلاد.
ويشير بائع جملة في سوق الكريمية، أكبر الأسواق التجارية في ليبيا، أبو لقاسم المسلاتي، في حديث مع “العربي الجديد”، إلى وجود كساد تجاري ملحوظ في السوق، في حين أن عمليات الشراء في غالبيتها تقوم على الاستدانة بسبب شح السيولة، شاكياً من تراجع كبير في الحركة التجارية خلال الفترة الماضية.
ويتحدث عمر الأحمر، وهو أستاذ جامعي، عن المعاناة أمام المصارف التجارية، ويشرح أنه انتظر أسبوعاً كاملاً من أجل الحصول على صك مصدق لتسديد ديون متراكمة على محل للمواد الغذائية. ويقول إنه سينتظر من جديد أمام عتبات المصرف للحصول على صك مصدق يتعلق بمصاريف أخرى لدى محل تجاري.
وذكرت بيانات النشرة الاقتصادية لمصرف ليبيا المركزي التي تغطي الربع الأول من العام الحالي، تراجع إجمالي الودائع لدى المصارف التجارية بنسبة 5.11 في المائة، وبقيمة 4.93 مليارات دينار خلال عام، إذ سجل إجمالي الودائع 91.52 مليار دينار بنهاية الربع الأول من 2019، في مقابل 96.45 مليار دينار في الربع نفسه من العام الماضي.
ويقول المحلل الاقتصادي محسن دريجة، إن الكهرباء والمياه خدمات أساسية جداً بالنسبة إلى المواطنين وكذا القطاعات الاقتصادية. في حين أن السيولة هي وسيلة شراء السلع الحيوية وتحريك الاقتصاد. ويعتبر أن الحروب ليست عسكرية فقط، ولكن عدم حصول الناس على حاجاتهم هو حرب أيضاً.
وفي حين يتزايد نقص المياه في طرابلس والمنطقة الوسطى والغربية، أعلن جهاز تنفيذ وإدارة مشروع النهر الصناعي، انفراج أزمة الكهرباء بحقول آبار المياه، في منظومة الحساونة سهل الجفارة، وبدء تشغيل مضخة في الحقل الشرقي؛ لمباشرة تعبئة المسار الجنوبي.
ويؤكد رئيس الشركة العامة للكهرباء، عبد المجيد حمزة، في حديث مع “العربي الجديد”، أن ما هو متاح حاليًا من إنتاج الطاقة الكهربائية، يصل إلى 5000 ميغاوات، بينما المطلوب إنتاجه 7000 ميغاوات، في حين أن أغلب المحطات الاستثمارية متوقفة حاليًا بسبب الظروف الأمنية التي تمر بها بلادنا. ويقول إن هناك جهودًا تبذل لإمكانية عودة الشركات الأجنبية التي كانت تقوم بتنفيذ المشاريع التي تفوق 5000 ميغاوات لاستكمالها.
هل يخسر حفتر حلفاءه؟
انكسرت حملة اللواء الليبي خليفة حفتر العسكرية على أسوار غريان، وفَقَد المبادرة، على الرغم من الحديث عن الحشود العسكرية التي يجمعها، وأغلبها مؤلف من عناصر المرتزقة، لكن هل خسر حلفاءه؟
ودخلت القضية الليبية حيّز التدويل منذ العام 2011، بصدور قرار مجلس الأمن رقم 1973. وبمرور الأيام، تطور ارتهان الأطراف الليبية للخارج وتزايد الصراع واحتدم كلما زاد نفوذ الأطراف الخارجية بسبب تصادم واختلاف مصالحها في البلاد، حتى إطلاق حفتر حملته العسكرية في بنغازي وتبنّي مجلس النواب في طبرق له، تزامناً مع ظهور مشاريع الثورات المضادة للربيع العربي.
لا شك في أن حفتر أمّن لحلفائه مصالحهم في السيطرة على أجزاء واسعة من البلاد، لا سيما في المواقع الحيوية والاستراتيجية، كمواقع النفط والمواقع العسكرية، وصولاً إلى غرب البلاد وحول طرابلس، وضمن لهم تحالفات قبلية لا يمكن لأصحابها، لا سيما في ترهونة وورشفانة، التراجع عنها.
مقابل حفتر، الذي رهن مصيره بشكل كامل للخارج، لا يزال حلفاؤه يمتلكون بدائل، ليس في المسار العسكري فقط، بل أيضاً في المسار السياسي الذي عاد للظهور مجدداً، من خلال مجلس النواب المرتهن منذ البداية في قراراته للقاهرة، والعارف النايض الذي يُدفع به في اتجاه رئاسة حكومة بديلة عن حكومة الوفاق، التي أظهرت ضعفاً واضطرت في اللحظات الأخيرة قبل سقوط طرابلس في يد حفتر إلى الاستعانة بكل الفصائل المسلحة في غرب البلاد التي كانت تناصبها العداء.
النايض الذي لم يتوقف عن تمرير بعض الاعتراضات على مشروع حفتر ومعارضته لعسكرة الدولة، لم يعرض طيلة الفترات الماضية، منذ إعلانه في مارس/آذار 2018 عن نيّته الترشح لرئاسة ليبيا، أي رؤية سياسية، لكن معطيات الواقع تشير إلى امتلاكه قاعدة شعبية ممثلة في التيار الصوفي، الخصم التقليدي للمداخلة السلفيين، الذين لم يعد مرغوباً فيهم في البلاد، إزاء الصوفيين المعروفين بعمق الوجود والانتشار في ليبيا منذ فترة طويلة، وتُعتبر طرابلس وبنغازي ومصراتة من أكبر معاقل الزوايا الصوفية في ليبيا.
أما النايض فيمتلك صلات قوية مع فصائل “قوة حماية طرابلس” المسلحة التي أعلنت في يناير/كانون الثاني الماضي عن تأييدها له ولسعيه لتصدّر المشهد السياسي. ومن خلفيات المشهد، التي لا يبدو أن المتابع من خارج البلاد على دراية بها، أن فصائل مسلحة قوية تقاتل حفتر الآن، يترأسها منتمون للتيار الصوفي يدفعهم العداء التقليدي للمداخلة الذين يشكلون ثقلاً في قوات حفتر لمعاداته.
مما لا شك فيه أن حلفاء حفتر لم يخسروا حتى الآن، وما يتوجهون إليه هو إعادة تدوير القضية لصالحهم وقيادتها من جانب آخر.