عبدالرحمن البكوش
أفريقيا برس – ليبيا. شهدت ليبيا مؤخرًا تطورًا جديدًا على الساحة الاقتصادية والسياسية تتمثل في قرار المجلس الرئاسي بإقالة محافظ مصرف ليبيا المركزي الصديق الكبير، وتكليف عبدالفتاح غفار خلفًا له مما أثار حفيظة مجلس النواب والدولة ورفض هذا القرار من قبل المجلسين بحجة ذلك ليس من إختصاصات المجلس الرئاسي حسب الاتفاق السياسي الموقع عليه من قبل الفرقاء السياسيين الليبيين.
هذه الخطوة التي كان يُفترض أن تساهم في تعزيز الاستقرار المالي في البلاد، أضافت مزيدًا من التعقيد إلى الأزمة السياسية المستمرة. تتجاوز هذه القضية حدود الاقتصاد، لتؤثر بشكل كبير على الوضع السياسي والاجتماعي في ليبيا.
لم يكن قرار المجلس الرئاسي بإقالة المحافظ الصديق الكبير مفاجئًا للبعض، حيث كانت هناك إشارات إلى عدم الرضا عن أدائه من عدة أطراف سياسية خلال السنوات الماضية. إلا أن هذا القرار جاء في توقيت حساس للغاية، حيث أن ليبيا تعيش فترة من الانقسامات السياسية العميقة بين حكومتين متنازعتين، إحداهما في طرابلس (الغرب) والأخرى في بنغازي (الشرق).
وهذه التوترات السياسية التي تهيمن على المشهد الليبي منذ سنوات طويلة تسببت في شلل معظم مؤسسات الدولة، بما في ذلك مصرف ليبيا المركزي الذي أصبح محورًا رئيسيًا للصراع بين القوى السياسية.
ويشير المحلل السياسي والقانوني الدكتور محمود إسماعيل، في تصريح لـ “أفريقيا برس”، بإن “تعيين محافظ جديد دون مجلس إدارة متفق عليه قد يؤدي إلى تعميق الفجوة بين الأطراف المختلفة”. والاتفاق الذي رعته بعثة الأمم المتحدة ينص على ضرورة وجود مجلس إدارة لمصرف ليبيا المركزي لتجنب اتخاذ قرارات أحادية، ولكن هذا المجلس لم يتم تشكيله بعد وتجاوز المدة المحددة حسب الاتفاق، مما يثير الشكوك حول إستقرار النظام المالي في البلاد.
تداعيات إقتصادية وسياسية وضغوط داخلية وخارجية
القرار بإقالة الكبير وتعيين ناجي عيسى خلفًا له لم يكن مجرد خطوة إدارية. فقد أثار هذا التغيير مخاوف اقتصادية كبرى، حيث أن المصرف المركزي يعد من المؤسسات الأكثر أهمية في إدارة السياسات المالية والنقدية في ليبيا.
المصرفي والخبير الاقتصادي الأستاذ فوزي ددش، في حوار وإجابة عن هذه التساؤلات مع “أفريقيا برس” يوضح أن الأزمة الحالية لا تقتصر على تغيير المحافظ فحسب بل تشمل “تفعيل متطلبات السياسة النقدية بشكل كامل وسليم”، بما في ذلك ضبط التضخم وتقليص البطالة وإعادة هيبة الدينار الليبي. لكن كل هذه التحديات تأتي في ظل حالة من الانقسام السياسي والاقتصادي، مما يزيد من صعوبة تحقيق أي تقدم ملموس.
وفي إستخدام الحقول النفطية كورقة ضغط بسبب النزاعات السياسية، له تأثير مباشر على الاقتصاد الليبي، إذ تعتبر ليبيا دولة غنية بالنفط، وتعتمد بشكل كبير على إيراداتها من هذا القطاع لتمويل الميزانية العامة. يقول الدكتور إسماعيل إن “إغلاق النفط المتكرر كل ما نشبت أزمة سياسية سيؤدي إلى آثار اقتصادية شائكة وطويلة المدى”. ويضيف أن التأخير في اتخاذ القرارات الاقتصادية الحاسمة، بما في ذلك تحديد كيفية إدارة الموارد المالية بين الحكومتين المتنازعتين، قد يؤدي إلى تفاقم الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، بما في ذلك إرتفاع معدلات البطالة وإنخفاض مستوى المعيشة.
السياسات المالية والنقدية وتحديات الإصلاح
التحديات التي تواجه محافظ مصرف ليبيا المركزي الجديد ليست سهلة. ويشير فوزي ددش، إلى أن أولويات الإصلاح الاقتصادي تشمل “تحرير سعر الصرف لجعله أكثر مرونة، دعم الصادرات، جذب الاستثمارات الأجنبية، وإعادة بناء احتياطيات النقد الأجنبي”. هذه الخطوات ضرورية لتعزيز مرونة الاقتصاد الليبي وتنوعه. لكنه في هذا الصدد يرى إسماعيل بأن هذه الإصلاحات قد تواجه مقاومة سياسية، إذ أن الأطراف المتنازعة قد تسعى إلى استخدام المصرف المركزي لأغراض سياسية، مما يجعل من الصعب إدارة المؤسسة بشكل مستقل وفعال.
وفي جانب السياسات النقدية، هناك حاجة ماسة إلى إصلاحات هيكلية في القطاع المالي. ددش يؤكد على أن المصارف تحتاج إلى “خارطة طريق اقتصادية واضحة المعالم تغطي إصلاح القوانين وتحديد أولويات الإنفاق”. هذا يتطلب من الحكومة والمصرف المركزي التعاون الوثيق لضمان تنفيذ السياسات بشكل متكامل، وإلا فإن الاقتصاد الليبي سيظل عالقًا في دوامة من الأزمات المالية.
التدخل الدولي والمصالح الخارجية والمواقف المتباينة
إن إحدى السمات الرئيسية للأزمة الليبية هي التدخل الدولي المتزايد. منذ بداية الأزمة السياسية، كانت القوى الدولية تلعب دورًا بارزًا في تحديد مسار الأحداث في ليبيا.
يقول إسماعيل إن المجتمع الدولي “ليس صادقًا أو راغبًا في التوجه إلى الحل الجذري للأزمة”، موضحًا أن الدول الكبرى مثل فرنسا، بريطانيا، والولايات المتحدة، لديها مواقف متباينة بشأن كيفية حل الأزمة السياسية الليبية. هذه الدول لديها مصالح اقتصادية كبيرة في ليبيا، وهذه الدول تسارع في الحل عندما تتعلق الأزمة بالنفط والغاز والمصالح المالية وتماطل في حل الأزمة السياسية بشكل كامل وإنهاء الانقسام.
وفي الأزمة المصرفية أيضا، يرى إسماعيل، ليست مجرد انعكاس للصراع السياسي الداخلي، بل هي جزء من صراع أوسع بين القوى الدولية التي تتنافس على النفوذ في ليبيا.، مما زاد من الضغط على المجتمع الدولي للتوصل إلى حل سريع لأزمة المركزي. لكنه يشير إلى أن التدخل الدولي غالبًا ما يركز على تحقيق المصالح الاقتصادية بدلاً من تقديم حلول سياسية شاملة.
وفي هذا الصدد، يعتقد ددش أن الدعم الدولي للاقتصاد الليبي قد يأتي إذا تحققت “نتائج إيجابية على أرض الواقع” في الإصلاحات الاقتصادية. ويرى أن ليبيا تمتلك “موارد وأرضية واعدة بالاستثمار”، ولكن نجاح هذه الاستثمارات يعتمد على الاستقرار السياسي والاقتصادي. ويؤكد أن المجتمع الدولي سيدعم ليبيا إذا رآها تتجه نحو بناء اقتصاد مستدام يعتمد على التنوع والاستثمار في قطاعات أخرى غير النفط والغاز.
المستقبل الغامض هل من حلول في الأفق؟
بعد تعيين ناجي عيسى محافظًا جديدًا لمصرف ليبيا المركزي، يبقى السؤال الأهم: هل يستطيع هذا التعيين أن يسهم في حل الأزمة السياسية في البلاد؟ إسماعيل يعتقد أن الحلول ممكنة إذا توفرت الإرادة السياسية، لكنه يشير إلى “عدم وجود رغبة أو إرادة دولية” حقيقية لحل الأزمة بشكل جذري. الانقسامات الدولية حول الملف الليبي تعرقل أي تقدم نحو تسوية سياسية شاملة.
على الصعيد المحلي، هناك مخاوف من أن المصرف المركزي قد يصبح أداة في أيدي القوى السياسية المتصارعة. إسماعيل يحذر من أن “إدارة المصرف بطريقة سياسية بدلاً من فنية” قد يؤدي إلى مزيد من الأزمات في المستقبل وهو أمر خطير وخطير جدا. ويضيف أن المجلس الرئاسي قد طلب من بعثة الأمم المتحدة تقديم دعم لجولة رابعة من المفاوضات الخاصة بأزمة المركزي وحول تعيين مجلس إدارة للمركزي والذي يشترط في الاتفاق الاخير أن المحافظ لاينفرد بقرارته وتأخد القرارات الاستراتيجية في السياسة المالية والاقتصادية عبر أعضاء مجلس الادارة مجتمعة، ولكنه يعترف بأن الحل السياسي مازال بعيد المنال وهو المهيمن على الازمة الليبية في كل الجوانب ومؤثر بشكل أساسي و ساهم في هذه الازمات من هم على المقاعد من الساسة وأصحاب المصالح الضيقة. وأطال عمرها المجتمع الدولي وأنقسامه وإنشغلاته بقضايا عالمية تجعل الملف الليبي آخر إهتمامه.
أزمة معقدة بين الاقتصاد والسياسة
أزمة مصرف ليبيا المركزي ليست مجرد أزمة اقتصادية، بل هي انعكاس لأزمة سياسية أعمق تعيشها البلاد منذ سنوات. تعيين محافظ جديد للمصرف قد لا يكون كافيًا لحل الأزمة، خاصة في ظل الانقسامات الداخلية والتدخلات الخارجية. ما لم تتفق الأطراف الليبية على رؤية مشتركة لإدارة الاقتصاد والمؤسسات الوطنية، فإن الأزمة ستستمر في تعميق الانقسامات وتعطيل عجلة الإصلاح الاقتصادي.
في نهاية المطاف، يظل مستقبل ليبيا معلقًا بين إرادة داخلية ضعيفة وإرادة دولية منقسمة. فالمؤسسات المالية مثل مصرف ليبيا المركزي قد تكون قادرة على لعب دور مهم في استعادة الاستقرار، ولكن فقط إذا تم إدارتها بطريقة فنية ومستقلة بعيدًا عن التجاذبات السياسية.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن ليبيا عبر موقع أفريقيا برس