أفريقيا برس – ليبيا. شهدت مدينة بنغازي شرقي ليبيا٬ التي تعد مقر خليفة حفتر، خلال الأيام الماضية، حراكاً سياسياً وأمنياً لافتاً تمثل في لقاءات رفيعة المستوى بين مسؤولين أتراك وقيادة قوات اللواء المتقاعد خطوة غير مسبوقة تعكس تحولاً تدريجياً في السياسة التركية تجاه شرق ليبيا، بعدما ظلت أنقرة لعقود أقرب إلى حكومة طرابلس وحلفائها.
اللقاء الأبرز أعلن عنه أمس الإثنين بين رئيس جهاز المخابرات التركي إبراهيم قالن واللواء حفتر، في اجتماع وُصف بأنه الأول من نوعه، ونُشرت صوره عبر وسائل إعلام تركية مقربة من الحكومة. ورغم غياب أي بيان رسمي من الجانب التركي، أكدت القيادة العامة التابعة لحفتر أنّ الاجتماع تناول ملفات التعاون المشترك وسبل مكافحة الهجرة غير النظامية، بحضور نجلي حفتر، صدام وخالد.
* حضور عسكري في بنغازي
لم يقتصر الحراك التركي على لقاء حفتر. فقد استقبل٬ صدام حفتر، الذي يشغل منصب نائب القائد العام لما يُعرف بـ”الجيش الوطني الليبي”، السفينة الحربية التركية “جزيرة الحنّة” في ميناء بنغازي. ورافق الوفد التركي في الزيارة السفير التركي لدى ليبيا غوفين بيغيتش، وعدد من كبار مسؤولي وزارة الدفاع، بينهم الفريق إلقاي ألتينداغ، إلى جانب القنصل التركي في بنغازي سركان كيرامانلي أوغلو.
وبحسب المكتب الإعلامي لقيادة حفتر، فقد ناقش الجانبان على متن البارجة ملفات التعاون العسكري والبحري وتبادل الخبرات الفنية والتقنية. كما أجرت السفينة التركية تدريبات بحرية قبالة سواحل بنغازي بمشاركة زوارق تابعة لقوات حفتر، في مشهد يعكس مستوى غير مسبوق من التنسيق الميداني بين الطرفين.
وفي وقت لاحق، زارت الفرقاطة التركية “تي جي غي قنالي أدا” المدينة نهاية الأسبوع الماضي، بعد توقفها في طرابلس ضمن جولة ليبية. وكان في استقبال الوفد التركي صدام حفتر مجدداً، برفقة ضباط كبار من شرق ليبيا. وتزامناً مع هذه الزيارات، أصدرت وزارة الدفاع التركية بياناً أكدت فيه أنّ اجتماعات وفدها العسكري مع صدام حفتر ناقشت “جهود التعاون في إطار ليبيا واحدة وجيش واحد”.
* أنقرة بين طرابلس وبنغازي
ولم يكن الحراك التركي الأخير في شرق ليبيا معزولاً عن تطورات مشابهة في الغرب. ففي 18 آب/أغسطس الجاري، رافقت السفينة التركية نفسها وفداً عسكرياً رفيعاً إلى طرابلس، حيث التقى وكيل وزارة الدفاع في حكومة الوحدة الوطنية عبدالسلام الزوبي. وبحث اللقاء حينها توسيع التعاون العسكري في مجالات التدريب وتطوير القدرات البحرية والجوية والدفاع الجوي.
ويرى مراقبون أن هذه التحركات تعكس سياسة تركية جديدة تقوم على الموازنة بين الطرفين الليبيين المتنافسين٫ حكومة طرابلس من جهة، وقيادة حفتر في الشرق من جهة أخرى، في محاولة لتثبيت نفوذ أنقرة عبر استراتيجية “الجمع بين الأضداد”.
* تحول استراتيجي بالمواقف
وبحسب صحيفة “فكر تورو” التركية فإن هذه التطورات تعد “تحول لافت – وإن كان هادئاً – في العلاقات التركية الليبية خلال النصف الأول من عام 2025″، معتبرة أنها تؤشر إلى إعادة تموضع أنقرة في خريطة النفوذ داخل ليبيا.
وبحسب الصحيفة، يقوم هذا التقارب على ركيزتين أساسيتين٬ دخول تركيا في مسار تعاون أمني مباشر مع قوات حفتر، التي طالما اعتبرتها أنقرة خصماً لدوداً في السابق.
وتشكيل مجلس النواب في طبرق لجنةً لمراجعة اتفاقيات ترسيم الحدود البحرية والتعاون الأمني التي وقعتها حكومة طرابلس مع تركيا عام 2019.
وترى الصحيفة أن أنقرة تبنت في السنوات الأخيرة نهجاً براغماتياً قائماً على المصالح الاقتصادية والدبلوماسية المتعددة الأطراف، ما قادها إلى الانفتاح على شرق ليبيا بعد أن كان يمثل الجبهة المناوئة لها خلال الحرب الأهلية.
وخلصت الصحيفة إلى أن هذا التحول “يفتح الباب أمام مرحلة جديدة قد تعيد رسم ملامح النفوذ التركي في ليبيا ضمن معادلة أكثر توازناً وواقعية”.
* العلاقة التركية الليبية
العلاقة بين أنقرة وليبيا ليست وليدة اللحظة. ففي أعقاب ثورة 17 شباط/فبراير 2011، سارعت تركيا للاعتراف بالمجلس الوطني الانتقالي “ممثلاً وحيداً للشعب الليبي”، وكانت أول دولة تعيّن سفيراً لها في طرابلس.
لكن تدهور الوضع الأمني دفع أنقرة إلى تعليق نشاط سفارتها في طرابلس عام 2014، قبل أن تعود إليها مطلع 2017، في حين واصلت قنصليتها في مصراتة عملها دون انقطاع.
كما دعمت تركيا مسار الحوار الذي أفضى إلى الاتفاق السياسي الليبي في الصخيرات عام 2015، وحافظت على اعترافها بالمجلس الرئاسي باعتباره السلطة التنفيذية الشرعية الوحيدة.
وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2019، وقعت حكومة الوفاق الوطني برئاسة فايز السراج مع أنقرة مذكرتي تفاهم حول ترسيم الحدود البحرية والتعاون الأمني والعسكري، في خطوة أثارت جدلاً إقليمياً واسعاً، خصوصاً مع اليونان ومصر وفرنسا.
كما شاركت أنقرة في مؤتمر برلين مطلع 2020، مؤكدة التزامها بالحل السياسي تحت رعاية الأمم المتحدة. وفي الوقت نفسه، دعمت حكومة طرابلس عسكرياً عبر إرسال مستشارين وأسلحة، ما ساعدها على صد هجوم حفتر على العاصمة عام 2019.
* توازنات جديد
غير أن المشهد تغير منذ العام 2023، مع سلسلة لقاءات رفيعة المستوى جمعت مسؤولين أتراكاً مع شخصيات من الشرق الليبي، بينها رئيس مجلس النواب عقيلة صالح وصدام حفتر. وكان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد استقبل صالح في أنقرة نهاية 2023، في مؤشر على رغبة بلاده بفتح قنوات جديدة للحوار مع خصوم الأمس.
وبدأ هذا الانفتاح في نيسان/أبريل الماضي، عندما استقبلت أنقرة رسمياً صدام حفتر بصفته آمراً للقوات البرية، وهو ما اعتُبر “إعلاناً غير مباشر” عن مرحلة جديدة من التوازن التركي بين شرق وغرب ليبيا.
ويربط البعض هذا التحول أيضاً بسياق أوسع يتعلق بصراع النفوذ في شرق المتوسط. فمع انقسام المنطقة بين داعمي طرابلس وداعمي بنغازي، بدا أن أنقرة تتحرك لترتيب أوراقها بما يضمن مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية، خصوصاً في ملفات الطاقة والهجرة والأمن البحري.
وتسعى تركيا من خلال هذا التوازن الجديد إلى تجنب خسارة أي طرف ليبي، والحفاظ على موقعها كوسيط محتمل، خاصة مع تعثر المسار السياسي الأممي واستمرار الانقسام المؤسساتي.
وتعكس الزيارة المفاجئة لرئيس الاستخبارات التركية إلى بنغازي، وتزامنها مع المناورات البحرية المشتركة، مرحلة إعادة تموضع تركية في ليبيا، تقوم على الانفتاح على جميع الأطراف دون استثناء.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن ليبيا عبر موقع أفريقيا برس