طرابلس بين السياسة والأحتكام للسلاح لفرض واقع جديد

21
طرابلس بين السياسة والأحتكام للسلاح لفرض واقع جديد
طرابلس بين السياسة والأحتكام للسلاح لفرض واقع جديد

عبد الرحمن البكوش

أفريقيا برس – ليبيا. لا تزال العاصمة الليبية طرابلس تعيش حالة من الترقب والقلق مع تصاعد التحشيدات العسكرية وانتشار الآليات الثقيلة في محيطها وأحيائها الحساسة. مشهد يذكّر سكان المدينة بأحداث السنوات الماضية، حيث لم يكن الطريق بين الهدنة والحرب سوى خطوة واحدة. الجديد هذه المرة أن الأزمة تتمحور حول التوتر المتزايد بين حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبدالحميد الدبيبة وقوة الردع الخاصة، وهي القوة التي لطالما لعبت دوراً محورياً في ضبط الأمن بالعاصمة، ولها القاعدة والحاضنة الشعبية بين سكان شرق المدينة، لكنها اليوم تجد نفسها في مواجهة مباشرة مع محاولات السلطة التنفيذية لفرض هيمنتها الكاملة على المشهد.

العاصمة فوق برميل بارود

منذ مطلع الشهر الجاري، رُصدت تحركات عسكرية غير عادية حول طرابلس، مع استقدام قوات إضافية وإعادة تموضع مجموعات مسلحة في محاور عدة. هذه التطورات دفعت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا إلى إصدار بيان تحذيري اعتبرت فيه أن “التحشيدات الأخيرة تشكل تطوراً خطيراً يهدد حياة المدنيين”، داعية جميع الأطراف إلى التهدئة. لكن خلف هذه البيانات الدبلوماسية يكمن قلق حقيقي من انفجار مواجهة قد تكون الأعنف منذ سنوات.

السياسي جمعة القماطي أوضح في تصريح لصحيفة الشرق الأوسط أن الأزمة الحالية ليست مجرد تحركات عسكرية عابرة، بل تعكس صراعاً على النفوذ داخل العاصمة. وأضاف أن “الدبيبة يرى أن استمرار قوة الردع خارج سلطته المباشرة يشكل تهديداً لبقائه في الحكم، بينما تعتبر الردع نفسها الضامن الأساسي للأمن، وهو ما يضع الطرفين في مواجهة صفرية”.

الدبيبة بين التمكين والمخاطرة

بالنسبة لرئيس حكومة الوحدة الوطنية عبدالحميد الدبيبة، فإن السيطرة على الأجهزة الأمنية والعسكرية في طرابلس ليست خياراً بل ضرورة سياسية. فالمشهد الليبي يتجه نحو انتخابات مؤجلة، وأي حكومة تسعى للبقاء لا يمكنها المجازفة بترك العاصمة تحت سيطرة قوة مسلحة مستقلة.

وهنا يوضح المحلل والباحث السياسي محمد امطيريد في حديث خاص لموقع أفريقيا برس أن “التحشيدات المسلحة التي شهدتها طرابلس مؤخرًا لا يمكن قراءتها إلا كمؤشر على هشاشة الوضع الأمني وغياب الثقة بين القوى المسيطرة على الأرض”. ويرى أن مجرد إعادة انتشار الآليات واستعراض القوة يبعث برسالة واضحة أن احتمالية الانفجار لا تزال قائمة، معتبراً أن “الهدوء الحالي أقرب إلى هدنة هشة منه إلى استقرار حقيقي”. وأكد أن الجميع يعلم أن أي مواجهة ستكون مكلفة سياسياً وعسكرياً.

ومن جهة أخرى، كتب المحلل السياسي محمد فؤاد على صفحته في فيسبوك أن “الدبيبة يعمل على إضعاف قوة الردع بشكل تدريجي عبر تقليص صلاحياتها ومحاصرتها سياسياً، حتى يضمن ولاء طرابلس لمشروعه”. ويرى أن هذه السياسة قد تحقق أهدافها على المدى البعيد، لكنها في الوقت ذاته تفتح الباب أمام مواجهة قد تكون كارثية على المدنيين.

أما امطيريد فيوضح أن الأطراف المسؤولة عن زعزعة الاستقرار في العاصمة متعددة، لكن يمكن القول إن المجموعات المسلحة الكبرى التي تسيطر على المداخل الحيوية والمؤسسات السيادية هي اللاعب الأبرز، وكل منها يتحرك وفق حسابات مرتبطة بالمال والسلطة ونفوذ الأجهزة. هدفها المباشر هو ضمان بقاء حصتها داخل العاصمة وعدم السماح لأي طرف آخر بالتمدد على حسابها. ولهذا تُستخدم التحشيدات كسلاح تفاوضي أكثر من كونها تمهيدًا لقتال حتمي.

قوة الردع: من “حامي العاصمة” إلى “خصم الحكومة”

تأسست قوة الردع الخاصة في أعقاب ثورة 2011، وبمرور السنوات تحولت إلى أبرز قوة منظمة داخل طرابلس، واشتهرت بدورها في مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة. هذه الخلفية منحتها شرعية خاصة بين السكان، لكنها أيضاً جعلتها طرفاً يصعب إخضاعه لسلطة الحكومة.

ومن جانب آخر، يرى مراقبون أن “قوة الردع لم تعد مجرد فصيل أمني، بل أصبحت مؤسسة متكاملة تملك نفوذاً سياسياً واقتصادياً، وهذا ما يجعل الصدام بينها وبين الدبيبة أمراً حتمياً إن لم يتم التوصل إلى صيغة توافقية جديدة”.

البعد الإقليمي: الدور التركي والمرتزقة السوريون

إلى جانب البعد المحلي للأزمة، يطفو على السطح مجدداً الحديث عن الدور التركي في دعم حكومة الدبيبة. فقد نقلت تقارير إعلامية عن وجود مقاتلين سوريين جرى جلبهم إلى ليبيا عبر عقود عمل مدنية، قبل أن يتم توجيههم إلى معسكرات تدريب قرب العاصمة.

وفي حديثه الخاص لـأفريقيا برس، أوضح السياسي ورئيس حزب ليبيا الكرامة يوسف الفارسي أن هذا الأمر “غير مستبعد وقد استخدمه المجلس الرئاسي في 2019 في حربه على الجيش، وذلك بتوقيع اتفاقيات وجلب مرتزقة سوريين لهم جنسيات تركية لمحاربة الجيش والقوات المسلحة على تخوم طرابلس”. وأضاف أن “النهج ذاته غير مستبعد أن تستمر عليه حكومة الدبيبة للحفاظ على بقائها، من خلال تحويل الأموال بحجة البناء والإعمار لصالح أطراف متورطة في الصراع”.

أما المحلل التركي سنان أولغن فأوضح في مقابلة مع DW عربية أن أنقرة تنظر إلى طرابلس باعتبارها نقطة ارتكاز استراتيجية في المتوسط، مؤكداً أن “تركيا لن تسمح بسقوط العاصمة بيد أي طرف مناوئ للدبيبة، حتى لو استدعى الأمر تعزيز الوجود العسكري أو إعادة تنشيط ملف المقاتلين الأجانب”.

في حين حذّر الباحث الليبي طارق المجريسي، في تقرير نشره المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، من أن “استمرار الاعتماد على مقاتلين غير ليبيين يضعف فرص أي تسوية داخلية، ويزيد من اعتماد الدبيبة على دعم خارجي، وهو ما يفاقم الانقسام بين القوى الوطنية”.

السياسة في قلب الأزمة

المسألة لا تتعلق فقط بالصراع بين حكومة الدبيبة وقوة الردع، بل تمتد إلى العملية السياسية التي تشهد انسداداً منذ سنوات. فطرابلس تمثل مركز الثقل في أي تسوية، وأي حرب جديدة ستنسف أي فرصة لتنظيم انتخابات أو التوصل إلى دستور توافقي.

الفارسي يرى في هذا الجانب أن المجتمع الدولي سيفرض عقوبات على أي معرقل للعملية السياسية أو يتسبب في حرب داخل الأحياء السكنية مهما كانت مبرراته وأسبابه. وأضاف أن “تحرك حكومة الدبيبة ومن يواليها وإثارة الأزمات داخل العاصمة وفي هذا التوقيت بالذات، وبعد الإحاطة الأممية واعتبار حكومة الدبيبة منتهية الولاية، هو تحرك الهدف منه خلط الأوراق وفرض واقع سياسي جديد في العاصمة، وهو ما لن يقبل به المجتمع الدولي ولا البعثة الأممية، وستكون عواقبه وخيمة على هذه الحكومة”.

كما يصف العديد من المراقبين للمشهد في طرابلس أن “ما يحدث اليوم ليس مجرد تحشيد عسكري، بل هو صراع على من يملك ورقة طرابلس في أي تسوية مقبلة. إذا تمكن الدبيبة من فرض سيطرته، سيذهب إلى الانتخابات من موقع قوة، وإذا صمدت الردع فسيبقى الانقسام سيد الموقف”.

ويقول امطيريد في هذا الجانب إن تحركات حكومة الوحدة الوطنية بقيادة الدبيبة تُظهر أنها تحاول إعادة رسم خريطة النفوذ داخل طرابلس عبر تقليص قوة بعض المعاقل العسكرية التي تشكل مصدر تهديد مباشر لها. هذا النهج يعكس محاولة لفرض سيطرة مركزية على العاصمة، لكنه في المقابل قد يزيد من حساسية العلاقة مع الفصائل المسلحة، خصوصًا إذا رأت أن الحكومة تستهدفها بشكل مباشر. لذلك يظل الدبيبة عالقًا بين الحاجة لإثبات هيبة الدولة، وبين ضرورة مراعاة توازنات القوى حتى لا ينقلب المشهد إلى صدام مفتوح.

وأضاف امطيريد أن انعكاس هذه التطورات على مستقبل العاصمة خطير. فالتحشيدات المتكررة تجعل من طرابلس مدينة غير مهيأة لاحتضان انتخابات آمنة أو تسوية سياسية شاملة، لأن أي عملية انتخابية تحتاج بيئة مستقرة وأجهزة أمنية محايدة، وهو ما يفتقده الوضع الحالي. استمرار هذا النمط من التوتر يعني أن أي خطة لإجراء انتخابات ستواجه تحديًا كبيرًا في ضمان أمن المراكز الانتخابية وسلامة العملية برمتها، مما يهدد بتقويض مصداقية أي استحقاق سياسي قادم.

الشارع بين الخوف والإحباط ومؤسسات حقوقية تحذر

وسط هذه التجاذبات، يعيش سكان طرابلس حالة من الخوف والإرهاق النفسي. فكلما استقرت الأوضاع نسبياً، يعود شبح الحرب ليطرق أبوابهم. على مواقع التواصل الاجتماعي، كتبت الناشطة الحقوقية أمل البركي أن “أي معركة جديدة في طرابلس ستؤدي إلى موجة نزوح جديدة وتفاقم الأزمة الإنسانية، بينما يواصل السياسيون صراعهم على الكراسي بلا أي اعتبار للشعب”.

كما حذرت المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان عبر بيان لها من خطورة الموقف وأي استهداف للأحياء المدنية داخل العاصمة، مؤكدة أن “إرهاب المواطنين بهذه التحركات يضع على كل الأطراف مسؤولية كبيرة يجب أن يتحملوها”.

سيناريوهات مفتوحة

المشهد الليبي اليوم مفتوح على كل الاحتمالات: مواجهة مسلحة قد تندلع في أي لحظة، أو تسوية هشة تؤجل الانفجار لفترة محدودة، أو تدخل خارجي أعمق يفرض معادلات جديدة على الأرض. ما هو مؤكد أن العاصمة طرابلس ستبقى مركز الصراع ومفتاح الحل، وأن أي جولة جديدة من الحرب ستدفع ليبيا إلى مزيد من الانقسام وربما انهيار كامل للمسار السياسي.

ليبيا اليوم تقف عند مفترق طرق، في ظل استمرار الصراع على النفوذ، وعلى الأطراف أن تدرك أن أي حرب جديدة في طرابلس وفرض واقع جديد ستكون القشة التي تقصم ظهر العملية السياسية بأكملها.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن ليبيا عبر موقع أفريقيا برس

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here