عبد الرحمن البكوش
أفريقيا برس – ليبيا. تُعَدّ عائدات النفط والغاز في ليبيا المصدر الأساسي لتمويل الميزانية العامة، بل تمثل أكثر من 90% من الدخل القومي. غير أن هذه الوفرة المالية، التي كان من المفترض أن تشكل رافعة للتنمية، تحولت إلى موضوع جدل واسع بسبب غياب الشفافية والانقسامات السياسية والإدارية التي تشطر البلاد منذ سنوات. فبينما تُضخ المليارات إلى الخزينة العامة، يبقى المواطن الليبي عاجزاً عن لمس أي أثر فعلي لهذه الإيرادات في حياته اليومية، في ظل انهيار البنية التحتية وتردي التعليم والصحة والخدمات العامة. هذا التناقض يطرح تساؤلات حول آليات توزيع الموارد، وقدرة المؤسسات المنقسمة شرقاً وغرباً على إدارة المال العام بكفاءة، وسط صراع نفوذ يهدد الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي على حد سواء.
الاقتصاد الريعي في ظل الانقسام السياسي
يعكس الواقع الليبي نموذجاً كلاسيكياً للاقتصاد الريعي الذي يقوم على سلعة وحيدة: النفط. وبحسب المحلل الاقتصادي والمصرفي فوزي ددش خلال حديثه لأفريقيا برس، فإن اعتماد ليبيا بنسبة تقارب 95% على النفط “يمثل خطراً بالغاً على استقلالية القرار المالي”، إذ يجعل الموازنة رهينة لتقلبات أسعار الخام في الأسواق العالمية. ويضيف أن “هبوط أسعار النفط ينعكس مباشرة على قدرة الدولة في الإيفاء بالتزاماتها تجاه المواطنين، ويُربك قراراتها الاقتصادية والسياسية على حد سواء”.
هذا التبعية تعمّقت أكثر مع الانقسام السياسي، حيث أصبحت موارد النفط أداة تفاوضية بين الحكومات المتنافسة شرقاً وغرباً. ويؤكد ددش أن غياب قيادة سياسية موحدة ورؤية اقتصادية واضحة “جعل ليبيا عاجزة عن الاستفادة من ثروتها وتحويلها إلى تنمية حقيقية، بل كرّس الريعية باعتبارها أداة للهيمنة السياسية بدل أن تكون محركاً للإصلاح الاقتصادي”.
المحلل الاقتصادي سامح الكانوني ومن خلال حديثه الخاص لأفريقيا برس يضيف أن الانخفاضات المتكررة في أسعار النفط أثرت سلباً على مشاريع التنمية الداخلية، كما أدت إلى تأخر الرواتب وتباطؤ التزامات الدولة تجاه المقاولين والقطاع الخاص، وهو ما يعكس هشاشة القرار المالي وانعدام آليات الوقاية من تقلبات السوق العالمية.
غياب الشفافية وتسييس الإنفاق العام
أحد أبرز التحديات يكمن في غياب الشفافية في إدارة المال العام. المحلل السياسي محمود إسماعيل خلال حديثه لأفريقيا يرى أن “انعدام الشفافية في إدارة المال العام هو ديدن المشكل وأساس الإشكال في ليبيا”، موضحاً أن المال العام في الدولة الريعية “تحوّل إلى أداة سياسية تُستخدم لتوجيه السلوك والسيطرة على القرار”، بما يعكس تسييس الإنفاق.
إلى جانب ذلك، هشام الحاراتي عبّر عن آرائه عبر صفحته على فيسبوك، مشيراً إلى أن “غياب القواعد الرادعة والمؤسسات الرقابية هو السبب الرئيس وراء تفشي الفساد في ليبيا، وأن الإصلاح الاقتصادي وحده لن يحقق النتائج المرجوة ما لم يسبقه إصلاح قانوني مؤسسي يعزز استقلال القضاء ويضمن فعالية أجهزة الرقابة”.
تظهر بيانات مصرف ليبيا المركزي لشهر أغسطس 2025 تفاقم هذا التحدي، إذ بلغ إجمالي الإيرادات نحو 84.349 مليار دينار، مقابل مصروفات بقيمة 71.503 مليار دينار، محققة فائضاً ظاهرياً قدره 12.846 مليار دينار. ومع ذلك، فإن هذا الفائض لم يترجم إلى تحسن ملموس في الخدمات العامة أو مشاريع التنمية، وهو ما يوحي بأن عملية الصرف تتم وفق أولويات سياسية ومناطقية أكثر من كونها مبنية على حسابات كفاءة أو مردود اقتصادي.
المفارقة بين الإيرادات الضخمة والخدمات المتدهورة
المفارقة الأكبر في ليبيا هي أن بلدًا يحصد مليارات الدولارات سنوياً، يعيش مواطنوه أوضاعاً خدمية متردية. التعليم يعاني من تكدس الفصول ونقص التجهيزات، الصحة منهارة في ظل هجرة الكوادر الطبية، والبنية التحتية متهالكة.
تحليل تفاصيل النفقات يكشف عن نمط واضح للهدر: من 71.503 مليار دينار، ذهب 42.9 مليار للمرتبات، و24.3 مليار للدعم، بينما لا يتجاوز الإنفاق التنموي 403 مليون دينار فقط. هذه البيانات توحي بأن توزيع الموارد يعكس أولويات سياسية أكثر من أنه يهدف إلى تطوير الخدمات الأساسية.
المحلل سامح الكانوني يشير إلى أن “الدولة تنفق مبالغ ضخمة على تجهيزات وأصول ثابتة مثل السيارات واللوازم الإدارية، في حين تتجاهل إصلاح البنية التحتية التعليمية والصحية”، فيما يرى محمود إسماعيل أن دعم الوقود وبرامج الدعم الأخرى غالباً ما يتحول إلى منفذ للتهريب أو لشراء الولاءات، ما يزيد الفجوة بين الموارد الضخمة والخدمات المتدهورة.
شهادات المواطنين
تُبرز شهادات عدد من المواطنين معاناة الواقع الخدمي على الأرض. علي محمد من طرابلس يقول: “نحن نتلقى رواتبنا بانتظام غالباً، لكن المدارس متهالكة، والفصول مزدحمة، ولا توجد مختبرات أو أجهزة حديثة في المستشفيات. الأموال موجودة، لكن أين تذهب؟”
أما الممرضة فاطمة فتؤكد أن “المستشفيات تعاني نقص الأدوية، والعديد من المواد الخدمية بالمستشفى. نحن نحاول تقديم خدمات أفضل، لكن غياب التمويل الحقيقي يجعل عملنا شبه مستحيل”.
ويؤكد مواطن من طرابلس، عبد الله إبراهيم، أن “الانقسام السياسي يجعل كل شيء في ليبيا مؤقتاً وغير مستقر. لا نستطيع التخطيط للمستقبل، وكل شيء مرتبط بالجهة التي تدير الدولة اليوم. المواطن هو الخاسر الأكبر”.
المؤسسات المنقسمة وإدارة المال العام
تضاعفت أزمة إدارة المال العام بفعل الانقسام السياسي، حيث توجد في ليبيا حكومتان تتنافسان على الشرعية، ما أدى إلى ازدواجية في صرف الإيرادات. المحلل سامح يرى أن “غياب توحيد المؤسسات جعل كل حكومة تنفق بطريقتها الخاصة، وهو ما أنهك الدولة وعمّق أزمتها”.
المصرفي فوزي ددش يشير إلى أن الانقسام السياسي “رسّخ مفهوم الفساد وزاد من اتساع رقعته”، مؤكداً أن أي إصلاح اقتصادي حقيقي “لن يتحقق إلا بوجود حكومة موحدة تمتلك رؤية اقتصادية واضحة وتسيطر على كامل التراب الليبي”.
بيانات مصرف ليبيا المركزي تظهر أيضاً أن استخدامات النقد الأجنبي بلغت 21.7 مليار دولار خلال الأشهر الثمانية الأولى من 2025، مع عجز قدره 5.9 مليار دولار، تم تغطيته جزئياً من أرباح استثمارات المصرف، في حين بلغت الأصول الأجنبية 97.3 مليار دولار، ما يعكس زيادة الاحتياطيات، لكنها تظل غير مستغلة لتحسين واقع المواطن على الأرض.
الاستقرار الاقتصادي رهينة الصراع السياسي
هل يمكن فصل الاقتصاد عن السياسة في الحالة الليبية؟ السؤال يبدو ملحاً لكنه شبه مستحيل في ظل الواقع الحالي. فالأوضاع الاقتصادية مرتبطة مباشرة بالتجاذبات السياسية والعسكرية، حيث يُقرأ أي تدهور في سعر الصرف أو ارتفاع البطالة ضمن سياق صراع النفوذ.
فوزي ددش يرى أن “ترسيخ الانقسام السياسي هو العامل الأكبر في تعطيل الإصلاح الاقتصادي”، مؤكداً أن غياب الاستقرار السياسي “يمنع جذب الاستثمارات الأجنبية، ويقوض الثقة في المؤسسات المالية، ويُبقي الاقتصاد رهينة للمساعدات أو الحلول الترقيعية”.
المستشار هشام الحاراتي يشدد عبر صفحته على فيسبوك على أن “القانون هو الضامن الوحيد لحماية المال العام”، مشيراً إلى أن بناء مؤسسات قانونية قوية هو الشرط الأول لتحقيق الاستقرار الاقتصادي والتنمية المستدامة.
في الختام، تقدم التجربة الليبية نموذجاً صارخاً لتأثير الاقتصاد الريعي والانقسام السياسي على مصير الثروة الوطنية. فبالرغم من تدفق المليارات من عائدات النفط والغاز، يظل المواطن محروماً من خدمات أساسية، فيما تتحول الموارد إلى أداة صراع بين حكومات متنافسة.
تؤكد البيانات الرسمية لمصرف ليبيا المركزي أن المشكلة ليست في نقص الموارد، بل في طريقة إدارة الأموال وإنفاقها، وغياب الرقابة والحوكمة الفاعلة. يبقى السؤال مفتوحاً: هل يمكن إصلاح إدارة المال العام في ليبيا دون إصلاح سياسي شامل يوحّد المؤسسات ويعيد بناء الثقة بين المواطن والدولة؟ الإجابة تبدو صعبة، لكنها وحدها السبيل لتفادي انهيار اقتصادي قد يجرّ خلفه ما تبقى من استقرار اجتماعي.
كما يظهر الواقع اليوم، أن دمج وجهات النظر الاقتصادية مع شهادات المواطنين والملاحظات الميدانية يشكل خطوة أولى لفهم حجم المشكلة، ووضع حلول قد تبدأ بتوحيد المؤسسات المالية والسياسية، وضمان فعالية الأجهزة الرقابية، لتصبح ليبيا قادرة أخيراً على تحويل ثروتها النفطية إلى تنمية حقيقية تخدم جميع أبنائها.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن ليبيا عبر موقع أفريقيا برس