المهدي هندي
أفريقيا برس – ليبيا. في قصر الخلد بطرابلس، عاد الحديث مجددًا عن “طريق السلام”.
خلال اليومين الماضيين وُقّع عقد تنفيذ القطاع (4.3) من مشروع الطريق الساحلي إمساعد–رأس جدير، وسط حضور لافت من رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبدالحميد الدبيبة ووكيل وزارة الخارجية الإيطالية جورجيو سيلي.
الحدث بدا أكبر من مجرد توقيع مشروع فهو في جوهره إحياءٌ لوعدٍ قديم عمره أكثر من عقد ونصف، وُلد مع معاهدة الصداقة الليبية–الإيطالية الموقعة في بنغازي عام 2008.
حين وقّع سيلفيو برلسكوني تلك المعاهدة لم تكن ورقة سياسية عادية، كانت بمثابة اعتذار رسمي عن حقبة الاستعمار الإيطالي (1911–1943) واعتراف بالمعاناة التي عاشها الليبيون.
إيطاليا التزمت حينها بدفع 5 مليارات دولار أمريكي كتعويضات تُنفّذ على مدى عشرين عامًا ليس نقدًا مباشرًا بطبيعة الحال بل عبر مشاريع تنموية داخل ليبيا.
وكان “الطريق الساحلي” هو رمز المصالحة بين البلدين — طريق يربط الشرق بالغرب، و”الماضي بالمستقبل”.
لكن بعد 2008، دخل المشروع في سبات طويل، تعطّلت الأعمال بسبب الحروب والانقسام السياسي، وتحوّل “طريق السلام” إلى مجرّد لافتة معلّقة على أمل مؤجّل.
جاء هذا العام ليعيد هذا المشروع إلى الواجهة من جديد، بعقد جديد وشركة إيطالية قديمة–جديدة هي توديني للإنشاءات العامة، لتنفيذ الجزء الممتد من العزيزية إلى رأس جدير بطول 160 كيلومترًا، وبقيمة تقديرية تقارب 700 مليون يورو.
البيانات الرسمية تقول إن المشروع ممول بالكامل من الجانب الإيطالي، ضمن التزامات معاهدة 2008.
لكن هنا تبدأ علامات الاستفهام.
هل التمويل تعويضي خالص؟ أم أن الصيغة الجديدة أقرب إلى شراكة استثماريةBOT أو PPPتتيح للشركة المنفذة استرداد كلفتها عبر رسوم عبور مستقبلية؟
الفرق جوهري.
ففي الحالة الأولى الطريق هدية تعويضية مستحقة عن زمن الاحتلال،
وفي الثانية يتحوّل المشروع إلى استثمار مدرّ للربح يُدفع ثمنه من جيب المواطن الليبي نفسه.
حتى الآن لا أحد يملك إجابة واضحة.
نصوص العقود لم تُنشر، والبيانات المعلنة لا تشرح آلية التمويل، ولا تحدد ما إذا كان المشروع سيبقى مجانيًا كما نصّت عليه روحه الأولى.
ربما الأمر مجرّد لبس إداري، وربما لا — لكن غياب الشفافية كفيل بإعادة الشكوك القديمة إلى الواجهة.
بالنسبة لروما، لا يخلو المشروع من حسابات إستراتيجية، فهو عودة إلى الساحة الليبية واستعادة لدورٍ كانت إيطاليا تعتبره “طبيعيًا” في شمال أفريقيا.
كما أنه ورقة في ملفين حساسَين: الطاقة والهجرة.
أما بالنسبة لحكومة طرابلس فهو إنجاز سياسي يمكن تقديمه كدليل على عودة الاستقرار وبدء عجلة التنمية.
لكن بين هذه الحسابات المتقاطعة، يظل السؤال الشعبي هو الأهم:
هل سيبقى “طريق السلام” رمزًا للكرامة، أم يتحوّل إلى بوابات دفع؟
من حق الليبيين أن يعرفوا تفاصيل ما يُنفّذ باسمهم وبأموالهم أو بحقوقهم التاريخية.
فمشروع وُلد من رحم الاعتذار لا يجوز أن يتحوّل إلى صفقة تجارية غامضة.
نشر تفاصيل العقود وجدول التنفيذ ليس مطلبًا إعلاميًا، بل استحقاق وطني يضمن ألا يُمسّ جوهر الفكرة التي بُني عليها هذا الطريق.
الطريق الساحلي لم يكن مجرد بنية تحتية تربط المدن، بل جسرًا يربط ذاكرة الألم بأمل الغد.
وحتى يبقى كذلك، يجب أن يُصان من التحوّل إلى مشروع جباية أو أداة نفوذ سياسي.
“طريق السلام” ليس مجرد اسم جميل على لافتة إسفلتية.
إنه وعدٌ تاريخي وذاكرة حيّة في وجدان الليبيين.
ومن واجب الدولة أن تضمن بقاء هذا الطريق ملكًا عامًا وحقًا تعويضيًا خالصًا، لا منّة فيه لأحد ولا ثمن له عند البوابات.
فالكرامة لا تُقاس بعدد الكيلومترات بل بصدق النوايا.
ولعل الطريق هذه المرة يقود فعلًا إلى سلامٍ حقيقي… لا إلى صفقةٍ جديدة.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن ليبيا عبر موقع أفريقيا برس





