المهدي هندي
أفريقيا برس – ليبيا. عندما كتب الوزير اللبناني والسفير السابق للأمم المتحدة في ليبيا طارق متري، كتابه بعنوان “مسالك وعرة: سنتان في ليبيا ومن أجلها”، بدا وكأنه يضع أمام الليبيين مرآة قاسية لما ينتظرهم. فالمبعوث الأممي السابق لم يكتفِ بكتابة مذكراته عن تجربة ومرحلة بل مارس نوعًا من التشريح العميق للمعضلة الليبية: من نقد الذات داخل البعثة الأممية وكشف إخفاقاتها، وصولًا إلى خيبة الأمل من التدخل الخارجي الذي شرعه مجلس الأمن وإدارته للدول النافذة بسياسات مرتبكة إلى صعوبة مسالك بناء الدولة ووعرة التحول الديمقراطي.
ما شدّد عليه متري آنذاك ولفت انتباهي حينها، ولا يزال حاضرًا اليوم وبقوة، هو التحول السريع الذي عرفه الليبيون: من مرحلة الترحيب الحار بالبعثة الأممية والاحتفاء بها إلى مرحلة الشك والخذلان وربما الدعوة إلى رحيلها. لقد أدرك مبكرًا أن “المسالك” لن تكون فقط في دهاليز السياسة، بل أيضًا في نفوس الناس الذين أثقلهم الاستبداد أولًا، ثم الانتقال الى فوضى الحرية وحرية الفوضى ثانيًا.
الغنيمة بدل الدولة
رسم متري صورة دقيقة لمعضلة الشرعية في ليبيا، معتبرًا أن الخلاف حولها لم يكن إلا مرآة لصراع مكشوف على السلطة والغنيمة. النخب الليبية التي كان يُفترض أن تقود مشروع الدولة، غرقت في حسابات النفوذ والمال، ولم تتمكن من الترفع عن منطق الغنيمة، ما جعل الدولة المنشودة أكثر هشاشة من أي وقت مضى.
الخراب المزدوج: حكم القذافي وما بعده
لم يخفِ متري أثر العقود الطويلة من حكم القذافي، التي تركت فراغًا مؤسسيًا وخرابًا في النفوس لا يقل خطورة عن انهيار المباني. فالمؤسسات كانت شكلية أكثر منها فعلية والناس لم تدرك معنى المواطنة بل تعودوا على فكرة الخوف والولاءات الشخصية وحين سقط النظام ظهر الخراب في أوضح صوره: غياب مؤسسات حقيقية قادرة على احتواء الطموحات وغياب للثقة بين الليبيين أنفسهم.
تدخل الخارج: وعود كبرى وخيبة أكبر
أحد أبرز محطات الكتاب كانت التوقف عند الدور الخارجي والتدخل العسكري الذي أقره مجلس الأمن عام 2011 بدا للبعض بوابة للتحرر والتغيير المنشود ولكنه فتح في الوقت ذاته أبوابًا على نفوذ متشابك لدول عديدة عربية واقليمية واجنبية كل منها تسعى لتحقيق أجندتها الخاصة. كانت نبرة متري واضحة عن خيبة أمله من سياسات هذه الدول، التي لم تقدّم دعمًا حقيقيًا لبناء الدولة، بل زادت المشهد ارتباكًا، وأغرت بعض السياسيين الليبيين بأوهام الدعم الخارجي للوصول إلى التفرد بالسلطة وتحييد الخصوم وكم كانوا سُذّج؟
إحاطة هانا تيته: خارطة طريق وسط الركام
اليوم وبعد 14 عاما من توالي المبعوثين الأمميين جاءت إحاطة المبعوثة الأممية هانا تيته أمام مجلس الأمن لتقدّم خارطة طريق جديدة، تقوم على انتخابات متسلسلة ومشاورات واسعة، في محاولة لإنهاء المرحلة الانتقالية خلال عام ونصف تقريبًا. لكن وفي نفس التوقيت حصلت الحادثة الأمنية المتمثلة في سقوط صاروخ قرب مقر البعثة في جنزور أثناء كلمتها وبدت وكأنها رسالة واضحة: أن أي خارطة طريق أممية ستبقى معلّقة على جدار الفوضى والنزاعات.
إخفاقات تتكرر
ورغم كل الجهود الأممية، تتكرر الأخطاء نفسها:
– انتخابات بلدية معطلة في مناطق واسعة.
– انقسام مؤسسي عميق بين الشرق والغرب.
– استمرار العنف السياسي والمسلح كأداة لتقويض أي مبادرة.
– غياب الرؤية الموحدة للدول المتدخلة في ليبيا، بل وتضارب مصالحها.
– عدم الاستماع الحقيقي لصوت الاحزاب السياسية وتجاهلها في اوقات متكررة.
الختام: بين التشخيص والمصير
في النهاية وبعد أكثر من عشر سنوات من “المسالك الوعرة” التي وصفها طارق متري، يبدو أن المشهد لم يتبدّل كثيرًا والتوصيف كان دقيقا ” بشكل كبير. فليبيا ما زالت عالقة بين تدخل خارجي تتضارب فيه المصالح، وداخل غارق في صراعات لا تنتهي. هل كانت البعثة الأممية “في ليبيا ومن أجلها” حقًا؟ أم أنها، وبكل أسف، أصبحت جزءًا من مسالك الوعر ذاتها؟ سؤال يبقى مفتوحًا، مع كل إحاطة جديدة وكل بصيص أمل يليه خيبة أمل، وبينما تستنزف الدولة وقتها وثرواتها يبقى مصيرها محددا في إرادة ابناءها وشبابها.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن ليبيا عبر موقع أفريقيا برس