أفريقيا برس – ليبيا. عبد السلام جلود رئيس وزراء ليبيا الأسبق (من 16 يوليو/تموز 1972 حتى 2 مارس/آذار 1977). ولد في 15 ديسمبر/كانون الأول 1944. كان ممن الضباط البارزين ممن شاركوا في ثورة الفاتح من سبتمبر 1969. وظل طويلا في مواقع الحكم في بلاده بقيادة معمر القذافي. اعتبر الرجل الثاني في ليبيا، فقد تولى مهام ومناصب حساسة في النظام: وزير الداخلية والحكم المحلي، المالية، الاقتصاد والصناعة، وعضو الأمانة العامة لمؤتمر الشعب العام (مجلس الرئاسة)، فضلا عن أن له أدواره في ملفات عربية، منها في أثناء الحرب الأهلية في لبنان. نشبت في العام 1992 خلافاته مع القذافي، فترك المشهد الرسمي نهائيا. وبعد اندلاع الثورة في 17 فبراير/ شباط 2011، غادر ليبيا إلى الخارج. يستعرض في كتاب مذكّراته “الملحمة”، والذي يصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، فصولا عديدة من سيرته، الشخصية والسياسية، ويضيء على علاقات ليبيا الدولية والعربية في زمن القذافي. ويكشف تفاصيل ومعلومات مثيرة، سيعرف القارئ كثيرا منها لأول مرة. ينشر “العربي الجديد” أجزاء ومقاطع منه في خمس حلقات. وفي الحلقة الثالثة يكشف عن تقديم ليبيا إلى رفعت الأسد لشقيق الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، عند تمرّده على سلطة شقيقه، 200 مليون دولار. وإن جلود نفسه ساهم في ترتيب خروجه من سورية. ويتحدث عن تفاصيل مداولاته في بيروت ودمشق مع القوى اللبنانية والفصائل الفلسطينية والرئيس حافظ الأسد في أثناء الحرب الأهلية اللبنانية، ويروي إنه تعرض للموت أكثر من 14 مرة.
حينما دخلت سورية، في نيسان/ أبريل 1976، في مواجهة عسكرية مع فصائل الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، بعد أن كانت تقف معها خلال اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، رأيت في هذا الأمر مؤامرة كبرى تستهدف تدمير سورية معنويًّا، وتدمير الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية ماديًا، وشعرنا بأن شيئًا ما يُخطط للمنطقة، وأن هناك مؤامرة ضد “قوى الصمود العربي”، تهدف إلى “تدمير سورية” والثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية. لم نكن في ليبيا نعرف هذا الأمر بالضبط، ولكننا شعرنا بأن ما يجري يخدم المؤامرة. بعد ذلك دعونا إلى اجتماع لقوى الصمود في طرابلس لمناقشة هذه التطورات، وقد حضر إلى طرابلس الرئيس الجزائري بومدين وياسر عرفات، وعقدنا اجتماعًا شاركت فيه أنا والأخ معمّر وبومدين وعرفات، وتقرّر في الاجتماع أن أسافر إلى دمشق للقاء الرئيس حافظ الأسد. بالفعل، توجهت إلى دمشق وكان يرافقني وزير التعليم الجزائري. كانت المهمة في البداية أن أطلب من الرئيس حافظ الأسد باسم ليبيا والجزائر عدم الانجراف في المؤامرة التي تخطط لضرب سورية والفلسطينيين والحركة الوطنية اللبنانية.
ولكن بعد اللقاء مع الرئيس الأسد، ثم الإخوة في القيادات الفلسطينية في سورية، اتخذت قرارًا بعدم العودة إلى طرابلس إلا بعد “القضاء على المؤامرة” وإعادة اللحمة بين سورية والثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية. ولذلك أعطيت الأولوية في هذه الجهود لوقف إطلاق النار. وللتاريخ وللحقيقة، وجدت الرئيس الأسد متألمًا، وكأنّ أمرًا ما فُرض عليه وهو يريد مخرجًا. كان الرئيس الأسد واعيًا بالمؤامرة، إذْ طلب مني البقاء في دمشق ومواصلة جهودي للتهدئة. كانت المشكلة التي واجهتني هي أن سورية ترفض أن يُسجل عليها “أنها قاتلت الثورة الفلسطينية” والحركة الوطنية اللبنانية، بينما كان الفلسطينيون يصرّون على الإشارة إلى “أن القتال يدور بين سورية من جهة، والثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية من جهة أخرى”. وأخيرًا، بعد 48 ساعة من الحوارات المتواصلة، وبعد التفكير العميق، نجحت في التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار “بين القوتين المتحاربتين” من دون ذكر اسم هذه القوات، وقد يكون هذا أول وقف لإطلاق النار من دون تحديد اسمي الطرفين المتحاربين، وكان الاتفاق ينصّ على ما يلي:
1 – وقف إطلاق النار فورًا بين القوتين المتحاربتين.
2 – وقف تقدّم القوات المتجهة إلى بيروت وبقاؤها في أماكنها في ضهر البيدر وجزين، حيث توجد فرقتان سوريتان كانتا تتقدمان من الجبل في اتجاه بيروت، وقد وصلتا إلى ضهر البيدر، بينما كانت هناك فرقة أخرى تتقدم على محور جزين – صيدا، والأخيرة تعرضت لكمين فلسطيني خطط له العقيد سعيد مراغة أبو موسى، وتمكن فيه من الاستيلاء على بعض المدرعات.
3 – يفرج الفلسطينيون عن مصباح البديري قائد الجيش الفلسطيني الذي اعتُقل بعد أن انشقّت وحدات الجيش وانضمت إلى ياسر عرفات، وبعض القيادات البعثية التابعة لسورية ممن أخذهم الفلسطينيون رهائن.
أخذ احمد جبريل الهاتف مني وقال للرئيس حافظ الأسد حرفيًّا: “يا سيادة الرئيس، إذا كنت تعتقد أننا سوف نقابلكم بالورود، فأنتم مخطئون، ..”
كانت لسورية كتائب وحدات خاصة في منطقة المطار ورأس بيروت. في اليوم التالي لوقف إطلاق النار، فوجئت بالرئيس الأسد يطلبني على الهاتف، وكان منزعجًا جدًّا، وقال لي حرفيًّا: “هؤلاء الأوباش مش هم اللي يحرروا فلسطين، الجيش السوري هو الذي سوف يحرّر فلسطين، لن أسمح بإهانة الجيش السوري، وأنا مُتحلل من وقف إطلاق النار، وسوف أعطي الأمر للقوات أن تزحف عليهم، وسأطلب من الطيران أن يقصفهم”. ثم قال: “هناك كتيبة سورية خاصة في رأس بيروت ما زالوا يحاصرونها، وهناك ثمانية جنود جرحى يمنعوننا من إخلائهم”، فقلت له: “يا أخ الرئيس أعطني فرصة وأرجوك أن تؤجل هذا القرار وأنا أتعهد بحل الموضوع”، فقال: “من هنا، أي من دمشق، لن تتمكّن من عمل شيء، والذهاب إلى بيروت فيه خطر حقيقي عليك”، فقلت له: “سأذهب إلى بيروت من أجل هذا، ولكنْ لدي شرطان، الأول أن ترسل معي قيادات سياسية وعسكرية، لأنني لا أريد أن أضع نفسي – أو أجدني – مع ضباط لا يستطيعون اتخاذ قرار؛ الثاني لا أريد أن تضعني في بيروت غطاءً، والصواريخ والدبابات السورية تقصف وتقتل”، فقال لي بكل شهامة: “يذهب معك ناجي جميل ومحمد حيدر”. كان ناجي جميل عضو القيادة وقائد القوات الجوية، وكان محمد حيدر عضوًا في القيادة القُطرية ونائبًا لرئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية، ثم قال لي: “خلال وجودك في بيروت، القوات السورية ستكون تحت إمرتك، لكن أرجو أن تعطيهم حق الدفاع عن النفس”، فوافقت، وكان إلى جانبي أحمد جبريل، فأخذ الهاتف مني وقال للرئيس حافظ الأسد حرفيًّا: “يا سيادة الرئيس، إذا كنت تعتقد أننا سوف نقابلكم بالورود، فأنتم مخطئون، لا تقل لي زهير محسن والبديري – العميد مصباح البديري رئيس أركان جيش التحرير الفلسطيني في سورية – ولا عاصم قانصوه ولا بطيخ، بدكم تمرّوا على جثثنا”. أرسلت سورية برقية إلى قواتها في لبنان، تعلمهم فيها بتوجّهي إلى بيروت، وكذلك فعل الفلسطينيون. لكن ولأن الفلسطينيين غير مُنظمين، فإن البرقية لم تصل إلى القيادات. غادرت أنا وأحمد جبريل ومحمد حيدر وناجي جميل والمرافقون على متن أربع طائرات عمودية. ونظرًا إلى أنّ الفلسطينيين ميليشيات غير منضبطة. ولأن البرقية لم تصل، فقد اعتقدوا – ومعهم الحركة الوطنية اللبنانية – أن هذه الطائرات هي طائرات دعم للقوات السورية في بيروت، فأمطرونا بوابل من قذائف مضادّات الطائرات ومن كل الجهات.
كنا في حالة خطر حقيقي، بحيث إنّ القذائف كانت تستهدفنا من كل الاتجاهات، وسيطر الخوف على الجميع، وشعرت بأن ناجي جميل ومحمد حيدر كانَا في أشد حالات الخوف، فقال لي ناجي جميل حرفيًّا: “يا أخ عبد السلام أنت تريد أن تموت فلماذا جئت بنا معك؟”، وقال محمد حيدر: “يا أخ عبد السلام لو كان الواحد على الأرض يمكن أن ينبطح أو يختفي خلف عمود أو حائط، أما في الجو فلا شيء”. ثم نهض أحمد جبريل واتجه نحو غرفة القيادة وكان شجاعًا ومتماسكًا، وأخذ يوجه الطيّار ويطلب منه القيام بمناورة. وبالفعل، اتجهت الطائرات صوب البحر بعيدًا عن المطار، ثم هبطت على شاطئ البحر بعيدًا عن المدرج. نزلنا مسرعين. بدأ القصف بالمدفعية والهاونات والرشاشات، وممّا زاد الطين بلة أن القوات السورية شرعت في الردّ على مصادر النيران لإسكاتها. استفز القصف الفلسطينيين واللبنانيين، فزادوا من قصفهم لنا. وبعد أن نجونا من موت محقق في الجو، بدأنا رحلة الموت الثانية؛ إذْ تعرضنا لقصف شديد، اضطرّنا إلى الزحف والمناورة والتسلل خفية، وذلك حتى لا نتعرض للقنص، ساعات في اتجاه المطار حتى تمكنت القوات السورية القريبة من المطار من نجدتنا. بعد أن استرحنا قليلًا في مقر القوات السورية في المطار، اتصلت بالفلسطينيين. تحدثت مع نايف حواتمة وأبو إياد (صلاح خلف) ، وطلبت منهما إبلاغ بقية القادة بالحضور إلى المطار، لكنهما رفضا هذا الطلب، فغضبت من هذا التصرف وأنهيت المكالمة. بعد منتصف الليل، عاودت الاتصال بالقيادات الفلسطينية وألححت عليهم أن يحضروا إلى المطار، فلم يوافقوا، فقلت لهم: “أريدُ أن أسألكم سؤالًا محدّدًا، ثم أجيبوا عنه بعد تفكير لأنه في ضوء هذا الجواب سوف أتصرف؟”. ثم وجهت إليهم السؤال التالي: “لماذا لا تريدون الحضور. هل أنتم خائفون على حياتكم من السوريين؟ أم تريدون المباحثات في أرض محايدة؟”، فردّوا “أنهم يخشون على حياتهم”، وعندئذ قررت الذهاب إلى بيروت للاجتماع بهم. في الطريق تعرضت مرات عدة للرماية بالرشاشات وقذائف “آر بي جي” (RPG) في الذهاب والعودة. كانت رحلة موت ثالثة حيث كانت النيران تطلق علينا من كل الاتجاهات، واضطررنا مراتٍ عدة إلى أن نختبئ في السيارات، ولولا العناية الإلهية لكان الموت محققًا. ولمّا أنجدتنا القوات السورية، وكانت الاشتباكات متواصلة بقوة، أخذ أحمد جبريل شرشفًا أبيض وبشجاعة نادرة أخذ يهرول بين المقاتلين طالبًا منهم وقف الاشتباكات. وجدت الفلسطينيين متشنجين ومتشككين في نيات السوريين، وكان من الصعب التفاهم معهم. وتجاه خطورة الوضع، قررت أن أهب حياتي لهذه المهمة القومية، وهي إنقاذ سورية من التدمير المعنوي، وإنقاذ الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية من التدمير المادي، وضرورة عودة التحالف من جديد بين سورية والثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية؛ فالتزمت بأن أظلّ في لبنان وسورية حتى القضاء على المؤامرة. في أحد الأيام قررت أن أذهب لمقابلة بيار الجميّل في بكفيا بالمنطقة الشرقية من بيروت، ورافقني رئيس جهاز أمن عرفات أبو علي حسن سلامة إلى منطقة المتحف، وهناك وجدت بشير الجميّل (نجله) في انتظاري. ركبت سيارة خاصة بحراسة مشدّدة وكنت أجلس بين بشير [الجميّل] وأبو علي حسن سلامة.
ما إن وصلت حتى عقدت مع بيار الجميّل اجتماعًا مطوّلًا، وقد لاحظت وأنا أدخل وجود كتابات على الجدران بالخط العريض تقول: “لا لسورية لا للفلسطينيين لا للعرب”. بعد الاجتماع تحدثنا إلى الصحافيين. قال بيار الجميّل: “سورية أعدى أعدائي، يكفي أنها لم تعترف بلبنان ولا تقيم معه سفارة، ولكن أنا غرقان، امتدت لي يد، كت بها”. فاجأتني الكتابات على الجدران كما فاجأتني تصريحات الجميّل. كان بشير الجميّل شابًّا شهمًا وشجاعًا. كانت له عينَا صقر. في البداية أقمت في بيروت في ضيافة أحمد جبريل في شقة بمنطقة الحمراء. والواقع أنني كنت أغيّر السكن باستمرار.
تعرّضت في لبنان للموت مرّات كثيرة تجاوزت 14 مرة، وكانت “القوات المسيحية” حين تعلم أن طائرة عمودية قادمة من دمشق لنقلي، تقوم بقصف مكثف بالقذائف والقنابل لمنعي من المغادرة.
في أحد الأيام، كنت في شرفة الشقة وكانت هناك سيّدة عجوز في شرفة الشقة المجاورة، فجأة سألتني: “هل أنت جلود؟” فقلت: “نعم”، فقالت: “كنا نعتقد أنك كبير في السن وبجسم ضخم. ولكن أنت شاب”. ثم سألتني: “هل زرت لبنان من قبل؟”، قلت مازحًا: “لا، يظهر أن عظمي عظم حرب”، فأخذت تحدثني عن لبنان بمرارة وألم ثم قالت: “غريب لم تزر لبنان في أيام عز لبنان”، ثم قالت: “إن شاء الله يعود لبنان وتزوره لترى لبنان على حقيقته”، ثم قالت: “سمعنا في الأخبار أنك تسافر إلى سورية لمقابلة حافظ الأسد”، وأضافت: “أنا مسيحية من منطقة الأشرفية، أُرغمت على ترك منطقتي، وأنا الآن أعيش مع المسلمين، قُلْ لحافظ الأسد إذا كان يريد أن يقف مع المسيحيين فيجب عليه أن يقف مع المسلمين”.
استمرت رحلة الموت والجهاد نحو 58 يومًا، كنت خلالها أعقد الاجتماعات المطوّلة مع قيادات الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية بقيادة شهيد فلسطين كمال جنبلاط. كان محسن إبراهيم وجورج حاوي في موقف انتهازي، يذهبان في الصباح الباكر إلى المختارة للقاء كمال جنبلاط ليعرفا منه كيف يفكر وماذا يريد أن يطرح في الاجتماع، وحينما نجتمع مع قيادات الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، يقوم محسن إبراهيم وجورج حاوي بطرح أفكار جنبلاط، ليقنعَا الآخرين بأن هذه أفكارهما، وأن أفكارهما هي ذاتها أفكار جنبلاط. كان بعض القادة الفلسطينيين يأتي متأخرًا للاجتماع، وكان جنبلاط يقول مازحًا: “الفلسطينيون مثل الأرتستات يناموا بالنهار ويصحوا بالليل”. كان الشهيد كمال جنبلاط يقول لي: “في سبيل عروبة لبنان والثورة الفلسطينية قبلنا بتدمير لبنان”. وكان يقول لي: “لقد ربحنا شعبًا مقاتلًا، الشاب اللبناني المعروف بطول شعره ونعومة أظافره، أصبح يمتشق الكلاشينكوف و’الآر بي جي’ في هذا الشارع قتال، وفي الشارع الخلفي الرقص والغناء. لم يعد اللبناني يخاف الموت”.
في هذا الوقت، كانت هناك قوات ليبية بقيادة الشهيد عبد السلام سحبان تقاتل مع الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، وكان الفلسطينيون واللبنانيون يسألونني: “هل كل الليبيين شجعان مثل عبد السلام سحبان؟” وكنت أرد عليهم: “عبد السلام أقل واحد شجاعة بيننا”، فكانوا يقولون لي: “يا أخ عبد السلام. هذا هلبة عليك (أي كثير عليك)”.
في أحد الأيام، كنت أتناول الغداء مع عرفات، وبعد دقيقة واحدة فقط من مغادرتنا صالة الطعام، سقط صاروخ في الصالة ودمّرها تمامًا. لقد تعرّضت للموت مرّات كثيرة تجاوزت 14 مرة، وكانت “القوات المسيحية”حين تعلم بأن طائرة عمودية قادمة من دمشق لنقلي، تقوم بقصف مكثف بالقذائف والقنابل لمنعي من المغادرة. فكنت أضطرّ إلى السفر بالسيارة عبر الحواجز، وكان السفر برًّا أمرًا محفوفًا بالمخاطر، لكنني كنت أفضل الموت من أجل أن أتوصل إلى اتفاق نهائي يحفظ الثورة الفلسطينية ويبقي التحالف الثلاثي قائمًا. رفض بعض الفلسطينيين تنفيذ الاتفاق، لأنهم كانوا لا يزالون يشككون في النيات السورية، ورفضوا أيضًا في البداية الإفراج عن الأمين العام لحزب البعث اللبناني عاصم قانصوه وزوجته، وقائد جيش التحرير الفلسطيني في سورية اللواء البديري. وهؤلاء كان يحتجزهم أبو العباس، جبهة التحرير الفلسطينية والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ولكن بعد الضغط وبعد جهد مُضنٍ، تمكّنت من الإفراج عنهم واصطحبتهم معي في الطائرة العمودية إلى دمشق، وكانت هذه خطوة مهمة جدًّا ومفتاحًا للحل. ثم ركزت في المرحلة الثانية على سحب القوات السورية من بيروت والمطار؛ إذْ كان يتمركز فيهما نحو ثلاثة ألوية خاصة. وبعد رحلات مكوكية بين بيروت ودمشق، تمكنت من تحقيق المرحلة الثانية وهي سحب القوات السورية، ولم يكن هذا أمرًا سهلًا. ولكن العزيمة، والإرادة الثورية التي لا تكل ولا تمل، والثقة بالنفس، والعناية الإلهية، كانت هي العوامل التي ساعدتني في تحقيق هذا الهدف. كان السوريون يرفضون الانسحاب قائلين: “لن ننسحب بناءً على طلب الفلسطينيين. هذا شأن سوري – لبناني”. وكثيرًا ما هددت الإخوة في سورية بقطع مهمتي والعودة إلى ليبيا، بل كثيرًا ما كنت أطلب من الطيارين أن يذهبوا إلى المطار لتجهيز الطائرة استعدادًا للعودة إلى ليبيا. وبالطبع لم أكن أنوي العودة، ولكنني كنت أمارس الضغط على الأطراف كلّها لإقناعها بضرورة التجاوب مع مبادرتي للحل، وأقول – للتاريخ – إنني وجدت من الرئيس الأسد كل تشجيع، وكان يطلب مني البقاء ومواصلة المهمة. وفي كل مرة كنت أحزم فيها حقائبي وأجهز السيارات للذهاب إلى المطار، يلحق بي عبد الحليم خدام وحكمت الشهابي ومحمد حيدر وناجي جميل لإقناعي بالعدول عن قرار السفر. كان الرئيس الأسد واعيًا بحجم المؤامرة، وكان يريد الخروج من هذا “المأزق” .
في عام 1979، كان صدام حسين نائبًا للرئيس العراقي أحمد حسن البكر، ولكنه كان يتمتع بالسلطة الحقيقية. حينما كنت في دمشق، اتصل بي هاتفيًّا عدّة مرات وقال لي: “السوريون ينفذون مؤامرة ويريدون استخدامك كغطاء. لا تسمح لهم أن يفعلوا ذلك”، وكنت أضحك وأسخر من هذا الكلام وأقول له: “يا أخ صدام أنا أعرف ماذا أفعل. قرار بقائي في دمشق هو قرار شخصي وليس قرار القيادة في ليبيا. اتخذت هذا القرار على مسؤوليتي رغم معارضة القيادة. أرجوك لا تحاول أن تقنعني بأمر آخر”.
كان الشهيد كمال جنبلاط يقول لي: “في سبيل عروبة لبنان والثورة الفلسطينية قبلنا بتدمير لبنان”
بعد وقت طويل من العمل الصبور والجهد الصادق والغضب والمشاجرات والمشادات، والأخذ والرّد، تغلب العقل أخيرًا على التهور، وانتصرت إرادة الأمة. لقد قمت بجولات مكوكية بين بيروت ودمشق، تارة بطائرة عمودية، ومرات بواسطة السيارات.
كان الشكّ هو المسيطر في أجواء الأطراف الثلاثة (سورية، والفلسطينيين، والحركة الوطنية اللبنانية)، وبصفة أخصّ بين الفلسطينيين والسوريين. حاول الفلسطينيون أن يستغلوا وقف إطلاق النار مع سورية لتحقيق نصر عسكري على “المسيحيين”، فقاموا بعدّة محاولات هجومية باءت كلها بالفشل رغم التسليح والعدد.
كانت الروح المعنوية القتالية عند الفلسطينيين، عكس الطرف الآخر، شبه منعدمة؛ وقد لاحظت وجود فجوة بين القيادات والمقاتلين، وأن المقاتلين لا يثقون بقياداتهم لأنها كانت تعيش “حياة ترف” وكل زعيم من حوله الخدم والحشم، وأستثني من ذلك الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (جورج حبش) ، وجبهة النضال الشعبي، وياسر عرفات شخصيًا. لقد كان عرفات، رغم توجهاته الاستسلامية وإفساده المتعمد للثورة والفدائيين والمناضلين، ورغم شرائه للذمم وإمبراطوريته التي خلقها في لبنان وتآمره على الحركة الوطنية اللبنانية، رجلًا بسيطًا ونظيفًا ويعيش حياة بسيطة جدًّا على المستوى الشخصي. لقد كانت كل القيادات السياسية الفلسطينية في بيروت – عدا خليل الوزير (أبو جهاد) الذي كان في الجبل – قد استباحت لبنان، وخاصة المناطق الإسلامية، وعملت على “منع” قيام حركة وطنية قوية. وبالفعل، فقد أضعفتها وحولتها إلى “تابع”، في حين كان ينبغي لها أن تكون هي الأساس الذي يستند إليه التحالف، كما كان من المفترض أن يكون الفدائي الفلسطيني “ملاكًا” على الأرض في سلوكه وتصرفاته. لقد حدث العكس، فالقيادات والمقاتلون الفلسطينيون، يمارسون “سياسة تخويف” اللبنانيين و”يعيثون” فسادًا في لبنان؛ وهكذا غاصت الثورة في المستنقع اللبناني. والواقع أن الثورة الفلسطينية انتهت أخلاقيًّا منذ ذلك الوقت، فجاءت “النهاية السياسية” نتيجة لـ “النهاية الأخلاقية”.
وهنا أورد مقارنة واضحة بين الثورتين الفلسطينية والجزائرية: كان المجاهد الجزائري، في الثورة الجزائرية، يعيش حالة من الانضباط العالي، بحيث يبدو “ملاكًا”. وأذكر أنني حينما كنت صغيرًا في الخمسينيات، وكان الشعب الليبي يحتضن الثورة الجزائرية بقرار شعبي، وليس بقرار النظام الملكي العميل، كانت العائلات الليبية تسعد باستقبال مجاهد جزائري، بل كانوا يتبركون بوجوده بينهم، لأنهم يرون فيه “ملاكًا على الأرض”؛ وهكذا اكتسب المجاهد الجزائري والثورة الجزائرية سمعة أسطورية.
في الجانب الآخر، كانت سمعة المقاتل الفلسطيني والقيادات سيئة بين الجماهير اللبنانية والعربية. في إحدى المرات حصلت من السوريين على موافقة الانسحاب، وذهبت إلى بيروت. مكثت في العاصمة اللبنانية لأشرف على تنفيذ قرار الانسحاب، ولكنّ السوريين لم يفوا بوعدهم؛ فذهبت للقاء الرئيس الأسد وأنا في حالة غضب عارم. لما وصلت وجدت أن ملك الأردن حسين بن طلال يقوم بزيارة لدمشق، وعلمت أن الرئيس الأسد سيكون في توديع الملك في أحد المطارات العسكرية، فذهبت على الفور إلى المطار، وبقيت بعيدًا عن صالة الضيوف بالقرب من إحدى “الهناجر”. لمّا أقلعت طائرة الملك حسين، توجهت وأنا أهرول إلى الرئيس حافظ الأسد، فوصلت وهو يهمّ بركوب السيارة فناديته: “أخ الرئيس، أخ الرئيس أريد أن أتحدث معك”. ثم قلت: “الموقف خطير، ويبدو أنه لا توجد رغبة في الوصول إلى حل، وإذا لم تتح لي فرصة اللقاء بكم فسوف أضطرّ إلى المغادرة”، فقال لي: “العراقيون قتلوا أحد أعضاء القيادة القومية وظروفي اليوم صعبة”. وتحت إلحاحي، وكان الرئيس الأسد رجلًا شهمًا على الدوام، قال لي: “سأطلبك، ولكن في وقت متأخر من الليل”، فقلت له: “أنا مجاهد. في أي وقت يسمح وقتكم أنا جاهز”. وبالفعل طلبني الرئيس الأسد حوالى الساعة الواحدة والنصف ليلًا، وقال لي: “استمر بمهمتك ولا تيأس وما بيكون إلا الخير”. وبالفعل، صدرت الأوامر في اليوم التالي بتنفيذ الانسحاب. بعد أن أكملت القوات السورية انسحابها، بدأت المرحلة الثالثة، وهي المصالحة وعودة التحالف الطبيعي.
جئت إلى دمشق صحبة القيادات الفلسطينية بواسطة طائرة عمودية، وتوجهنا فورًا للقاء الرئيس الأسد. وحينما استقبلنا ألقيت كلمة قلت فيها حرفيًا: “لقد أمضيت مدة ثمانية وخمسين يومًا بعيدًا عن ليبيا، وأنتم تعرفون حاجة ليبيا إلي فأنا رئيس الوزراء، ونحن نخوض حربًا في تشاد وقد تعرضت للموت المُحقق أكثر من 14 مرة، ولكنني سعيد لأنني تمكنت من تحويل الرصاص إلى قبلات”. وكنت أشير إلى العناق بين القيادات الفلسطينية والرئيس الأسد وتقبيلهم له، ثم انسحبت من اللقاء وتركت القيادات مجتمعة معه. ومن المؤسف أنّ عرفات حاول أن “يبيع” هذا الإنجاز الثوري والتاريخي للمملكة العربية السعودية. لقد تألمت كثيرًا حين علمت بذلك، ولكن القيادات الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية وقفت ضد محاولة عرفات هذه، فاضطرّ إلى التراجع، ثم صرّح في مؤتمر صحافي: “إن الرائد عبد السلام جلود وثورة الفاتح يستحقان أرفع وأرقى وسام قومي”. في هذا السياق، أريد أن أورد شيئًا مهمًا: إن قرار بقائي 58 يومًا كان قرارًا شخصيًا، وكان الأخ معمّر معارضًا لبقائي خارج ليبيا كل هذا الوقت، وخاصة في لبنان، وكان خائفًا عليّ، بل إنه رفض أن يتحدث معي هاتفيًّا. وقال لأبو بكر يونس: “سأتحدث مع عبد السلام فقط لمّا يعود من دمشق، وأن يعدني بأنه لن يذهب مرة أخرى إلى بيروت”. لقد اتخذت قراري هذا من أجل سورية ولبنان ومن أجل فلسطين، قضية الأمة المقدسة. إن النظام العربي الرسمي عجز عن عمل أي شيء. وكذلك جامعة الدول العربية التي بدت عاجزة هي أيضًا. شكلت جامعة الدول العربية لجنة برئاسة أمينها العام محمود رياض وعدد من الوزراء العرب (وزير خارجية السعودية سعود الفيصل، ووزير خارجية الكويت صباح الأحمد الجابر الصباح) ولكنها لم تفعل أي شيء، وحدث أن اجتمعت باللجنة الوزارية في دمشق قبل سفري إلى بيروت، وأبلغتهم بقرار سفري، فقال لي محمود رياض: “أنت مجنون تذهب إلى بيروت؟”، فقلت له: “لأنني مجنون سأذهب إلى بيروت”.
بعد الاحتلال الصهيوني لبيروت عام 1982، كان جورج شولتز، وزير الخارجية الأميركي، يريد شخصيًّا أن يحقق “نصرًا” أو نجاحًا على غرار نجاح كيسنجر في كامب ديفيد. كان يريد أن يحقق تصوّر بن غوريون، حين قال: “أنا لا أعرف الدولة العربية الأولى التي ستعترف ب”إسرائيل”، لكن الدولة الثانية ستكون لبنان”. سافرت إلى سورية وعقدت اجتماعات عدة مع الإخوة السوريين والفصائل الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية بقيادة كمال جنبلاط. اتفقنا نحن الأطراف الأربعة (ليبيا، وسورية، والحركة الوطنية اللبنانية، والفصائل الفلسطينية باستثناء حركة فتح)، على مقاومة الاحتلال الصهيوني في لبنان والقوات الغربية التي تحتله والمعسكر الانعزالي، القوات اللبنانية والكتائب، واتفقنا على ما يلي:
1 – إنشاء غرفة عمليات مشتركة يوجد فيها ضباط سوريون وليبيون وفلسطينيون والحركة الوطنية اللبنانية.
2 – تزويد ليبيا للفصائل الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية بالسلاح والذخيرة.
3 – تدفع ليبيا مرتبات المقاتلين الفلسطينيين ومقاتلي الحركة الوطنية اللبنانية.
4 – ترسل ليبيا دبابات ومدرعات ومدفعية ووسائط دفاع جوي بأطقمها الليبية على أن تتمركز مع قوات جنبلاط وأحمد جبريل وجورج حبش في منطقة الجبل.
لقد قمت بدور كبير في إقناع الأطراف بضرورة البدء بمقاومة الاحتلال الصهيوني، وقامت ليبيا بتنفيذ ما التزمت به. وبدأت هذه الأطراف في المقاومة بعد أن تخلصت الفصائل والحركة الوطنية اللبنانية من “هيمنة” عرفات على القرار. لقد كان لانتفاضة الضاحية وانتفاضة الجبل الدور الأساسي في انتصار المقاومة وهزيمة العدو الصهيوني والغربي والانعزالي. أسقطت المقاومات الأرضية طائرتين أميركيتين حاولتا شنّ غارات على منطقة الجبل، ووقع أحد الطيارين في الأسر، وأعتقد أنّ الطائرتين أسقطتهما قوات الدفاع الجوي الليبي المتمركزة في منطقة الجبل، حيث كانت عربات “م1” الروسية الصنع متمركزة هناك. ثم كان للعمليات الجهادية الانتحارية التي حدثت في صيدا ضد مركز القيادة الصهيونية هناك، والتي نفذها الفلسطينيون، ثم العمليات الجهادية الانتحارية التي نفذها حزب الله على القوات الأميركية والفرنسية، أثرٌ هائلٌ في بث الرعب في القوات الأميركية والفرنسية والبريطانية والصهيونية، فانسحبت من لبنان، كما انسحبت القوات الصهيونية من معظم الأراضي اللبنانية نحو الشريط الحدودي. ولكي يعوّض الغرب هزيمته هذه، حشد ما بين أربعين إلى خمسين قطعة بحرية قبالة السواحل اللبنانية، بما فيها حاملات الطائرات.
وكان السؤال: ضد من؟ كل هذا الحشد البحري ضد مقاومة شعبية؟ لقد انتصر لبنان لأنه لا توجد حكومة يمكن إلحاق الهزيمة بها؟ لا يوجد جيش يمكن أن يهزم. كانت هناك مقاومة شعبية وهذه لا يمكن هزيمتها، كان عمودها الرئيس الشيعة والدروز، وبالطبع لا يمكن تجاهل دور الفصائل الفلسطينية في تحقيق النصر وإلحاق الهزيمة بالقوات الصهيونية والغربية والانعزالية، نعم الشعب لا يُهزم أبدًا، ولكن الجيوش تُهزم. لقد أراد الأميركيون الانتقام لهزيمتهم، وانطلاقًا من المثل الشعبي “عصا الذلال طويلة” (أي عصا الجبان طويلة)، أحضر الأميركيون البارجة “نيوجيرسي” وكان ذلك بطلب من أمين الجميّل. صبّ الأميركيون جام غضبهم على لبنان، ووجهت [البارجة الحربية] “نيوجيرسي” قنابلها الضخمة ضد المسلمين ومناطق الجبل في محاولة يائسة. كانت حكومة أمين الجميّل قد وقّعت اتفاقًا مع الصهاينة في 17 أيار/مايو 1983، وكانت قوات الحركة الوطنية اللبنانية وأمل وحزب الله والفصائل الفلسطينية على بعد كيلومتر واحد أو كيلومترين من قصر بعبدا. وكان يمكن إلحاق الهزيمة بأمين الجميّل ومعسكره الانعزالي، ولكن نظرًا إلى الضغوط الأميركية على سورية، ونظرًا إلى تخوّفها من أن تكون الحرب إسلامية – مسيحية، ولأن سورية تولي أهمية خاصة لأوضاع المسيحيين في المشرق العربي – وحتى لمسيحيي سورية نفسها – فقد امتنعت عن إلحاق الهزيمة العسكرية بالقوات الانعزالية واحتلال قصر بعبدا. وبدلًا من ذلك اشترطنا نحن وسورية لإيقاف القتال أن يلغي الجميّل اتفاق 17 أيار. زار أمين الجميّل العواصم الغربية طالبًا النجدة، زار باريس وواشنطن، ولكن الرعب الذي أصاب هذه العواصم من العمليات الانتحارية جعلها تتخذ موقفًا سلبيًّا من مناشداته، وطلب الرئيس الأميركي ريغن ووزير خارجيته شولتز من أمين الجميّل، العمل على إقناع سورية وليبيا بـ “تجميد اتفاق 17 أيار” بدلًا من إلغائه. بعد باريس، زار الجميّل المغرب وطلب من الملك الحسن الثاني القيام بوساطة مع ليبيا، وإقناعها باستقبال الجميّل، فاتصل الملك الحسن الثاني بالأخ معمّر عارضًا عليه طلب الجميّل. اتصل الأخ معمّر بي وأجرينا مناقشة عبر الهاتف وتداولنا حول موضوع الزيارة. في الواقع، كنت ضد زيارة الجميّل، ولكن الأخ معمّر قال لي: “زيارته لليبيا تعني اعترافه واعتراف الغرب بأن الحل في طرابلس ودمشق وليس في باريس وواشنطن”، فغيّرت موقفي. وبالفعل، قام الجميّل بزيارة طرابلس، وكنت في استقباله بالمطار، ثم توجهنا مباشرة للقاء الأخ معمّر. حينما وصلنا إلى الخيمة وجدنا الأخ معمّر قد أحضر جهاز فيديو وعرض على الجميّل شريطًا تلفزيونيًا للبارجة “نيوجيرسي” وهي تقصف منطقة الجبل. بعد الترحيب به، ضغط الأخ معمّر على زر الفيديو وقال مخاطبًا الجميّل: “انظر إلى نيوجيرسي وهي تمطر لبنان بالقذائف؟ كيف تستعين بقوة أجنبية ضد شعبك؟ أو ضد جزء من شعبك؟ أنت بهذا العمل أثبتّ أنك لست رئيس كل لبنان. أنت رئيس لجزء من الشعب اللبناني”. شعر أمين الجميّل بالحرج الشديد، ثم حاول إقناع الأخ معمّر بأن “نوافق على تجميد الاتفاق” بدلًا من “إلغائه”.
وكاد الأخ معمّر يوافق لولا أنني تمسكت بالإلغاء، وقلت له: “هذه خطة أميركية لأن عام 1983 سنة ميتة في السياسة الأميركية لأنها سنة انتخابات، وبعد الانتخابات ونجاح ريغن، سيعود لمحاربتنا بقوة؛ ومن ثمّ يجب أن نغتنم الفرصة”. وبالفعل، رفضنا مقترح التجميد وأصررنا على الإلغاء. في الطريق إلى المطار، قال لي أمين الجميّل: “كنت أعتقد أنني سأجد صعوبة في إقناع القذافي، وإذا بي أجد صعوبة في إقناعك أنت”.
نحن لم يهزمنا العدو، ولكن هزمتنا الدكتاتورية. نحن شعوب مهزومة من الداخل، وأنظمتنا أنظمة عائلية/عشائرية/قبلية
إن العمليات الفدائية الجهادية ضد القوات الأميركية والفرنسية، وكذلك ضد قيادة القوات الصهيونية في صور، إحقاقًا للحق، كانت بسبب الروح الجهادية التي أطلقتها وبشرت بها وحرضت عليها الثورة الإسلامية في إيران، بقيادة الإمام الخميني. وأذكر أنني قمت بزيارة لإثيوبيا بعد هذه العمليات الجهادية، فقال لي الرئيس منغيستو هيلا مريام: “أنتم العرب قد لا تعرفون قيمة العمل الذي قمتم به. كان العالم قبل هذه العمليات الانتحارية يتغنّى بالعمليات الفدائية التي قام بها الطيّارون اليابانيون ضد الأسطول الأميركي في ميناء بيرل هاربر في 7 كانون الأول/ ديسمبر 1941. أنتم بهذه الأعمال تقدمون أرقى أنواع العمل الفدائي”. كان العمل الفدائي يعني تفجير قنبلة عن بُعد، أو الهجوم الخاطف على هدف محدد، ولكن أن “يُلغم” الإنسان نفسه أو يقود سيارة “مُلغّمة”، وهو أول من يكون الضحية؛ فهذا أمر لم يعرفه النضال من قبل. لقد قمنا بم%