أفريقيا برس – ليبيا. عبد السلام جلود رئيس وزراء ليبيا الأسبق (16 يوليو/ تموز 1972 – 2 مارس/ آذار 1977). ولد في 15 ديسمبر/ كانون الأول 1944. كان ممن الضباط البارزين ممن شاركوا في ثورة الفاتح من سبتمبر 1969. وظل طويلا في مواقع الحكم في بلاده بقيادة معمر القذافي. اعتبر الرجل الثاني في ليبيا، فقد تولى مهام ومناصب حساسة في النظام: وزير الداخلية والحكم المحلي، المالية، الاقتصاد والصناعة، وعضو الأمانة العامة لمؤتمر الشعب العام (مجلس الرئاسة)، فضلا عن أن له أدواره في ملفات عربية، منها في أثناء الحرب الأهلية في لبنان. نشبت في العام 1992 خلافاته مع القذافي، فترك المشهد الرسمي نهائيا. وبعد اندلاع الثورة في 17 فبراير/ شباط 2011، غادر ليبيا إلى الخارج. يستعرض في كتاب مذكّراته “الملحمة”، والذي يصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، فصولا عديدة من سيرته، الشخصية والسياسية، ويضيء على علاقات ليبيا الدولية والعربية في زمن القذافي. ويكشف تفاصيل ومعلومات مثيرة، سيعرف القارئ كثيرا منها لأول مرة. ينشر “العربي الجديد” أجزاء ومقاطع منه في خمس حلقات. وفي الحلقة الرابعة، يتحدث جلود عن خلافاته مع القذافي، وينعته باتباع سياسة قمعية مع الشعب الليبي، وبأنه كان يتقن استخدام قبيلة ضد أخرى، وجماعة ضد أخرى، ويمارس هذا أيضا مع أبنائه. ويروي جلود عن نية القذافي الاعتراف ب”إسرائيل”، وبأنه كان يرى أزمة “لوكيربي” أكبر تهديد لحكمه.
قدّمت استقالتي من منصبي عام 1981، وذلك رفضًا للممارسات القمعية التي كانت تقوم بها اللجان الثورية. عارضت بشدة الممارسات السلطوية والقمعية، كما عارضت بقوة مطاردة الليبيين في الخارج، وطالبت بوقفها فورًا، وقلت: “هذا إنهاء للثورة. وعندما تنتهي الثورة أخلاقيًا فسوف تنتهي سياسيًا؛ إذْ لا يمكن لثورة أن تطارد أبناءها وتصفيهم في شوارع أوروبا”. كان موقفي هذا صارمًا، حتى إنني قررت الاستقالة من قيادة الثورة، والبقاء في منزلي، ما لم يوقف هذا العمل المشين. ثم قلت للأخ معمّر: “هذا ليس عملًا ثوريًا، بل هو إجرام يقوم به جنود مكلفون منك ومن جماعتك، ليبرهنوا لك أنهم قادرون على تنفيذ ما تطلبه منهم، حتى تكون لهم حظوة عندك”.
بعد ستة أشهر، اتصل بي الأخ معمّر في منزلي، وطلب مني إجراء حوار، فوافقت. وحدث، حين كنت في طريقي لمقابلته في مقر اللجان الثورية، أن استوقفني شخص أسمر البشرة اسمه إمحمد الحضيري، وكان رئيسًا لتحرير صحيفة الزحف الأخضر. بدا لي متورّم الوجه والعينين وأثر اللكمات والضرب واضحة على وجهه. قال لي وهو يبكي: “منذ يومين اتصل بي أحمد رمضان وقال لي إن القائد يطلب منك أن تكتب مقالًا ضد الضابط عبد السلام الزادمة وإخوته، وأعطاني عناصر المقال التي وضعها الأخ معمّر، وفيه وصف لهم بأنهم “فاسدون ومرتشون”. وحينما صدر عدد الجريدة وهو يحمل المقال، هاجمني عبد السلام الزادمة وإخوته في مقر الصحيفة، وانهالوا عليّ بالضرب المبرح، وكانوا ملثمين، ولم أكن أعرفهم أو قد التقيت بهم من قبل”. وعلى الفور طلبت إحضار الضابط عبد السلام الزادمة. كان موسى كوسا (الأمين المساعد لأمانة الخارجية في ما بعد) قربي، وهو يقول لي: “أخ جلود، القائد ينتظرك”، فقلت له: “لا يمكنني مواصلة طريقي للقاء به حتى يتمّ إحضار هذا الضابط”. حينما حضر سألته: “هل أنت وإخوتك قمتم بضرب إمحمد الحضيري؟”، فقال لي: “نعم سيدي”، وعلى الفور صفعته على وجهه عدة مرات وأرسلته إلى السجن. ثم ذهبت للقاء الأخ معمّر، وما إن دخلت عليه حتى قال لي متهكمًا: “إذا بقيت في بيتك واستقلت، منْ سيكون معك؟ إلا علي فضيل (وهو يقصد مدير مكتبي) حتى قبيلتك معي”، فقلت له: “أنا لا أملك سوى ثوريتي وصدقيتي، وليس لي قبيلة. قبيلتي هي الثورة والعروبة والأمة، لكن
يا أخ معمّر، خوفي أن يأتي يوم ولا يكون فيه أحد معك إلا أحمد إبراهيم”.
خلال هذا اللقاء، بقيت مصرًّا على موقفي بضرورة وقف “مطاردة الليبيين في الخارج” وتصفيتهم، فوافق وطلب مني أن نذهب معًا إلى خيمته في باب العزيزية. وهناك وجدت المجموعة التي كانت مكلفة بمطاردة الليبيين في الخارج، وأتذكّر من بينهم محمد المجذوب وسعيد راشد. فقال لهم الأخ معمّر: “يجب أن تتوقف على الفور أي عمليات مطاردة لليبيين في الخارج”. شعرت بسعادة بالغة بهذا القرار، فقلت للأخ معمّر: “أنا منذ الغد سأعود للعمل. يجب أن توجه إلى المعارضين نداء بالعودة إلى ليبيا، وتعطيهم الضمانات بأن لا يتعرضوا لأي مساءلة، والعفو عمّن هو محكوم، أما الذين لا يرغبون في العودة ولهم أعمال ووظائف في الخارج، فعلينا أن نبلغهم بأن المكاتب الشعبية في خدمتهم، وأنهم سوف يحصلون على الرعاية وأي تسهيلات أو خدمات يحتاجون إليها، ثم تصرف لهم جوازات سفر بحيث يتمّ تجديدها تلقائيًا”.
بدأ التحوّل من “الصدق الثوري” والوضوح في الخطاب إلى “الدجل والنفاق”، والتحوّل من “الثورة” إلى “حكم الفرد والقبيلة وحكم الأجهزة”
منذ نهاية السبعينيات حتى نهاية الثمانينيات (1979-1989)، بدأت الحقيقة في ليبيا تتراجع لصالح التزييف، وبدأ التحوّل من “الصدق الثوري” والوضوح في الخطاب إلى “الدجل والنفاق”، والتحوّل من “الثورة” إلى “حكم الفرد والقبيلة وحكم الأجهزة”. كان عمر المحيشي، عضو مجلس قيادة الثورة، مثقفًا ثوريًا، وكانت لديه ميول يسارية، وكان غير راضٍ عن هيمنة معمّر ومحاولة انفراده بالسلطة؛ ولذلك حاول القيام بانقلاب عام 1975 لإطاحة القذافي. كنت أعرف المحيشي منذ أن كنّا في التنظيم المدني، وأعرف طباعه الشخصية. كان من أسرة غنية ومثقفًا، لكنه كان يتصف بالتعالي وافتقاد القدرة على التواصل مع الآخرين. حينما بدأ بالتخطيط لمحاولة الانقلاب، تمكن من إقناع عضوين في مجلس قيادة الثورة، أحدهما عوض حمزة، وبعض ضباط الحرس الجمهوري وخاصة ضباط مصراتة، بالمشاركة في الخطة. كان معمّر محبًّا لمصراتة وأهلها منذ دراسته في مدرستها الثانوية، لأن الكثير منهم كان يعطف عليه ويساعده، حتى إنهم ساعدوه في الحصول على موافقة للدراسة في ثانوية مصراتة، وأن يقيم في القسم الداخلي، وفي ذلك الوقت كانت فرص السكن في القسم الداخلي صعبة. كان عمر المحيشي رافضًا لممارسات معمّر السلطوية وهيمنته وطغيانه وانحرافه عن مبادئ الثورة. لكن هذه المحاولة سرعان ما كُشفت قبل أن تبدأ، حين تمكنت عناصر القذافي من معرفتها والإبلاغ عنها. كانت محاولة الانقلاب من أخطر المؤامرات التي تعرضت لها الثورة، لأنها من قلب قيادة الثورة، ولمشاركة ضباط من الحرس الجمهوري فيها. فهذه القوة كانت مهمتها في الأصل حماية الثورة وحماية معمّر شخصيًا. كان معمّر، حتى لحظة تنفيذ هذه المؤامرة، ثوريًا يثق بالضباط الأحرار والضباط الذين التحقوا بالقوات المسلحة بعد الثورة. كان ضباط الحرس الجمهوري وقوات الردع من مختلف المدن الليبية، وليس بينهم أي ضابط من قبيلته القذاذفة، وأذكر أن من بين المشاركين في محاولة الانقلاب ضابطًا شجاعًا من أهالي مصراتة يدعى أبو ليفة، وآخر يدعى محمد عبد الوهاب.
قُتل أبو ليفة في أثناء مطاردته بعد فشل محاولة الانقلاب، وهو يتجه نحو الحدود التونسية. قبل فرار المحيشي إلى تونس، جاء إلى مقر قيادة الثورة في باب العزيزية، وكان متوترًا، وأنا لا أعرف إذا ما كان سبب مجيئه قصد اغتيال بعض أعضاء القيادة وعلى رأسهم معمّر، أم أنه جاء للتأكد من أنّ الأمور كلها هادئة وطبيعية في القيادة، بما يسمح له بالفرار نحو الحدود التونسية، وأنا أرجح الفرضية الأخيرة. حينما وصل إلى مبنى القيادة، كنت في هذا الوقت في حي قرجي ألقي محاضرة عن الثورة في شقة شعبية تابعة لفرع الاتحاد الاشتراكي في الحيّ. صحيح أن هذه المحاولة الانقلابية فشلت، لكنها أسست لانقلاب معمّر على الثورة؛ ولذا قاد معمّر انقلابًا “ناعمًا” وماكرًا، ومخادعًا وشيطانيًا، استغرق تنفيذه حوالى تسع سنوات، عاد في نهايته ليصبح “شيخ قبيلة” بامتياز، وحاكمًا وطاغية مطلق الصلاحيات؛ فقد شن حملة شعواء على قيادة الثورة، وشكّك فيها وفي قدراتها، قصد ضرب صدقيتها في أعين الجماهير، كما عمل على “تفسيخ” حركة الضباط الأحرار، وكان يقول لي: “يا عبد السلام، الضباط الأحرار لا يفيدوننا الآن. إنهم سيتعاملون معنا على أساس أنهم شركاء في الثورة. نحن في حاجة إلى ضباط وناس جدد، يكون لنا عليهم جميل”. فقلت له: “لا يمكن أن أوافق على هذا التفكير، الضباط الأحرار إخوة وشركاء لنا، ولا يجب أن يشعروا أننا تخلينا عنهم وأبعدناهم وتخلصنا منهم بعد نجاح الثورة ووصولنا إلى السلطة. يجب أن نبحث عن شركاء وأصحاب رأي جدد؛ لأن هؤلاء سيكونون معنا في السراء والضرّاء، أما الأتباع والانتهازيون فسوف يتوارون عن الأنظار ويتبخرون”. لكنه، مثل أي طاغية، أخذ يبحث عن الانتهازيين وأنصاف الرجال.
في هذا الوقت، أمر إدارات التعليم بتزوير الشهادات الدراسية لأقاربه من أجل تمكينهم من دخول الكليات والمدارس العسكرية، وأقام تحالفًا قبليًا بين قبيلته وقبيلة ورفلة، وشرع في تفريغ الحرس الجمهوري وقوات الردع من الضباط الأحرار والضباط الوطنيين، وإحلال أقاربه محلهم. وعيّن أقاربه والأتباع والانتهازيين في مراكز حساسة في أجهزة الأمن والمخابرات. في نهاية عام 1985 وبداية العام التالي، أعلن عن نفسه “شيخ قبيلة”، حين بدأ يحكم ليبيا بهذه العقلية، متعطشًا وجائعًا ونهمًا للمال والسلطة؛ فبعد أن كان يعيش في دارة بسيطة ملاصقة لباب العزيزية – كانت سكنًا لرئيس الأركان في العهد الملكي – ويحاسب نفسه، ويحاسب أعضاء القيادة، على “النفقات الشخصية والعائلية”، أصبح يبني القصور والفيلات الفخمة؛ بدءًا من باب العزيزية، وفي أهم المدن، بل حتى في بعض الوديان، وصار ينفق الأموال بلا حساب على نفسه وعلى أولاده، وانتهى به الأمر أن يعلن عن نفسه “ملك ملوك أفريقيا”، يضع التاج على رأسه والقلائد في رقبته والخواتم في أصابع يديه. كان منظره محزنًا ومبكيًا وفي الآن نفسه مضحكًا. وأنا اليوم أعترف أنه استطاع خداعي، فقد ظننت أن إجراءاته تلك كانت بغرض تأمين الثورة إثر هذه المؤامرة الخطيرة.
أمر القذافي إدارات التعليم بتزوير الشهادات الدراسية لأقاربه من أجل تمكينهم من دخول الكليات والمدارس العسكرية
منذ مطلع عام 1974، بدأ الأخ معمّر رحلة “الدجل” والظهور في مظهر الزاهد في السلطة، حين شرع في “مسلسل استقالات زائفة”، واحدة تلو الأخرى. وكان مع كل استقالة يطلب من الانتهازيين من حوله، وأجهزة القمع، أن يفرضوا على الجماهير الخروج لمطالبته بالعدول عن استقالته. لقد كانت تسيطر عليه فكرة مفادها أنه كلما أوغل في قمع الجماهير، وعندما تخرج هذه الجماهير إلى الشارع احتجاجًا على تصرفاته، فإنه سيقول لها: “أنا كنت غير راغب في السلطة ورافضًا لها وأنتم أجبرتموني على العودة. إقبلوني كما أنا”.
كانت هناك مجموعة من المنافقين والأتباع وموظفي الأجهزة، تقود هذا التلاعب بالجماهير، وكان الغرض من إعلان الاستقالة الزائفة في كل مرة هو أن يقول الأخ معمّر للشعب الليبي: “إمّا أنا، وإمّا أعضاء مجلس قيادة الثورة”.
أذكر في إحدى استقالاته أنه كان قد سلّم الاستقالة إلى أبو زيد دوردة، وطلب منه أن يسلمها بنفسه إلى الإذاعة، فاجتمعت غالبية أعضاء مجلس قيادة الثورة وقبلت الاستقالة. اتصل بي الأخ معمّر وقال لي: “لقد ظهرتم على حقيقتكم بأنكم تتآمرون عليّ”، ثم أوعز إلى المحيطين به بسحب الاستقالة قبل أن تصل إلى الإذاعة.
لقد بدأ انحراف الثورة منذ لحظة “عسكرتها”. في هذا الوقت، كانت الأوضاع المعيشية للشعب الليبي تزداد سوءًا، والناس يشعرون بالحسرة على أيام الرخاء والرفاهية التي شهدتها ليبيا من 1970 حتى بداية عام 1983. وفي هذا الوقت أيضًا، كانت حقبة حكم الرئيس الأميركي ريغن من أصعب الحقب والفترات التي مرّت بها ليبيا وثورة الفاتح، حيث اشتدّت المواجهة مع الولايات المتحدة، وكانت الحرب في تشاد تشتد ضراوة، بينما كانت المواجهة في الشمال مع القوات الأميركية – بسبب القانون الذي أصدرناه والذي تمّ بموجبه اعتبار خليج سرت جزءًا من اليابسة – فقد أصبحت أكثر فأكثر مواجهةً عسكرية، واتخذت واشنطن من هذا القانون ذريعة لتصعيد مواجهتها السياسية والدعائية والعسكرية والاقتصادية.
كان القذافي مع كل استقالة يطلب من الانتهازيين من حوله، وأجهزة القمع، أن يفرضوا على الجماهير الخروج لمطالبته بالعدول عن استقالته
ابتداءً من عام 1983، تدهورت أسعار النفط حتى وصلت إلى 7 دولارات، بينما كانت تكلفة إنتاج البرميل الواحد 3 دولارات، فأصبح الأمر أكثر صعوبة، حتى إننا واجهنا أزمة اقتصادية كبيرة؛ لأن عائدات النفط تدهورت على نحوٍ حادّ، فعجزنا عن استيراد المواد الضرورية وقطع الغيار والقيام بأعمال الصيانة. وبدأت احتياطاتنا تنضب، ولم نكن بطبيعة الحال مستعدين لهذا الأمر. كان قرار خفض أسعار النفط قرارًا سياسيًا اتخذته الولايات المتحدة مع دول الخليج وخاصة السعودية، لإسقاط الأنظمة الثورية في ليبيا والجزائر وإيران وفنزويلا، وقد نُشرت في هذا النطاق تقارير عن المؤسسات المالية العالمية تتساءل فيها باستغراب “كيف استطاعت هذه الدول مواجهة الأزمات والخروج منها؟”. وتؤكد هذه التقارير، صراحةً، أن الهدف من تخفيض الأسعار، بل انهيارها، كان هدفًا سياسيًا تآمريًا؛ وحمدًا لله، فقد تمكنا في ليبيا من مواجهة هذه الأوضاع باتخاذ إجراءات صارمة وقاسية، مكنتنا من التغلب عليها. بيد أن اقتصادنا وبنيتنا التحتية تعرضا لضربات مؤلمة وموجعة، ومع ذلك أشادت المؤسسات المالية الدولية بهذه التدابير، ودعت بقية البلدان إلى أن تحذو حذو ليبيا، وأنا أعترف بأن الإجراءات والتدابير التي اتخذناها كانت قاسية، مع أنها كانت ضرورية، أدّت إلى ضرر بالغ في مستوى معيشة الشعب، وتسبّبت في تصاعد مشاعر التذمر، وذلك مع تزايد أعمال القمع التي كانت اللجان الثورية تمارسها، فضلًا عن تفشي حالات التسيّب وضعف الإدارة وعدم الالتزام بالقوانين. وكل ذلك كشف عن بداية انهيار الإدارة والهياكل العامة، وبدء “مرحلة التجربة والخطأ” التي آمن بها الأخ معمّر، وكنت أعارضها بشدّة، فضلًا عن تصاعد المواجهات العسكرية في الجنوب، والمواجهات السياسية والاقتصادية والعسكرية في الشمال. وأدّى كل ذلك، منذ نهاية عام 1981، إلى “ظهور عبادة الفرد” التي تمّ الترويج لها على نحوٍ صارخ وسافر ومن دون أي لبس؛ فقد بدأت مرحلة “حكم الفرد والقبيلة” والاعتماد على الأقارب والأتباع من الانتهازيين والمنافقين والدجالين، وتمّ التنكر للقيادة الثورية ولسلطة الشعب.
تبدت “سلطة الشعب” كما لو أنها كانت عملًا تكتيكيًا للتخلص من قيادة الثورة ولإخفاء مشروع حكم الفرد والقبيلة وحكم الأجهزة القمعية، ولسحب البساط من تحت أي إمكانية لظهور معارضة، ومن يعارض معمّر سيقال له أنت تعارض “سلطة الشعب”؛ أي إنّ التهمة جاهزة! لقد شكلت سلطة الشعب حاجزًا نفسيًا في وجه أي معارضة جادة وصادقة، وكل هذا أدّى إلى ابتعاد الجماهير الشعبية عن الثورة. ثم بدأت مظاهر التململ والتذمر، بل حتى مشاعر السخط على الثورة. ومن هنا بدأت رحلة القطيعة شبه الكاملة بين الثورة وجماهيرها، وأخذت الثورة تخسر صدقيتها وشرعيتها وتفقد بريقها. لقد سحبت الجماهير فعليًا ثقتها بالثورة، بعد أن منحتها كاملةً يوم الفاتح من أيلول/سبتمبر.
كانت الإدارة الأميركية منذ الثمانينيات ترصد وضع احتياطياتنا من العملات الصعبة، ولاحظت أنها وصلت إلى أدنى مستوى لها. حاولت واشنطن ممارسة مزيد من الضغوط علينا، فبدأت بالضغط على أوروبا الغربية لمقاطعة النفط الليبي؛ نظرًا إلى وجود فائض نفطي في الأسواق العالمية. ونظرًا إلى التوترات في الخليج، وصعود الثورة الإسلامية في إيران، ثم الحرب مع العراق، باءت كل هذه المحاولات بالفشل. لكن واشنطن واصلت ضغوطها على إيطاليا، وخصوصًا على شركة “فيات”، للتخلص من مساهمة ليبيا.
كانت مساهمة ليبيا 14.5 في المئة، وكنت قد اتخذت قرارً ثوريًا أواخر عام 1972 بشراء نحو 9 في المئة من أسهم الشركة بقيمة 138 مليون دينار، فبدأت الشائعات الرامية إلى التشكيك في أهمية هذه الصفقة. خلال فترة ولاية ريغن الثانية، كنت أستمع إلى خبر من إذاعة بي بي سي يقول إن إدارة ريغن طلبت من إيطاليا وشركة “فيات” التخلص من مساهمة ليبيا. ويقول الخبر إنّ الخبراء الاقتصاديين يقدرون قيمة مساهمة ليبيا من مليارين إلى مليارين ونصف مليار دولار؛ فقررت على الفور بيع حصتنا في الشركة، واتصلت بالأخ معمّر وأبلغته بالقرار وقلت له إنني سأطلب 3 مليارات دولار، فقال لي: “لا يمكن تحقيق هذا الرقم. أنت تحلم”.
وعلى الفور، شكلت فريقًا من المختصين، منهم رجب المسلاتي ومحمد عبد الجواد ومحمد سيالة وعبد الله السعودي. وطلبت من المسلاتي، الذي كان مديرًا للمصرف العربي الخارجي، أن يتصل بعبد الله السعودي، وكان في زيارة للبحرين، أن يعود على وجه السرعة إلى طرابلس. وبالفعل، حضر السعودي، واجتمعت بأعضاء الفريق كله، وأبلغتهم بالقرار، ثم سألتهم: “لقد سمعت بالخبر والسعر الذي يقدره الخبراء من إذاعة لندن، لكنني قررت أن يكون السعر
3 مليارات؟”، فقالوا جميعًا: “السعر لن يتجاوز المليارين”، ومع ذلك أصررت على قراري، ثم طلبوا أن ينضمّ إليهم المحامي كامل المقهور بصفته مستشارًا قانونيًا، فوافقت وقلت لهم: “يجب أن نحصل على سعر 3 مليارات دولار صافيًا”. كانت المشكلة التي واجهتنا هي كيفية تحويل هذا المبلغ الضخم خارج إيطاليا وبالدولار؛ ذلك أن الإدارة الأميركية كانت قد اتخذت قرارًا بالحجز على أي مبالغ بالدولار تعود إلينا، وكانت مسألة تحويل المبلغ خارج إيطاليا تبدو صعبة جدًّا لا يحتملها إلا الاقتصاد الألماني أو الياباني.
سافر الوفد إلى إيطاليا وبدأ المفاوضات مع كبار مديري شركة “فيات”. وبالفعل، تحقق الرقم الذي طلبته وحدّدته. وقبل توقيع العقد بقليل، اتصل بي الوفد لطلب الموافقة على التوقيع النهائي. في هذ الوقت، كنت في منزلي بالمصيف الذي يقع بين السندباد وعين الزرقاء. فاستدعيت على الفور جاد الله عزوز الطلحي، وكان أمينًا للاتصال الخارجي، ومعه قاسم شرلالة أمين الخزانة، ومحمد الزروق رجب محافظ مصرف ليبيا، وفوزي الشكشوكي أمين النفط، وعرضت عليهم الأمر، وكان الفريق الذي يتولى المفاوضات معي على الخط الهاتفي، فرحب الأمناء بالاتفاق واعتبروا أنه إنجاز تاريخي. لكنني لاحظت أن جاد الله كان متحفظًا، ويرى أن في الأمر خدعة نظرًا إلى ضخامة حجم الصفقة. ومع ذلك أعطيت الفريق موافقتي لإتمام الصفقة وإبرام الاتفاق. وبالفعل، تمّ التوقيع على أساس أن يحوّل المبلغ بـ “المارك” الألماني لمصارف ألمانية. اتضح لي أن موقف الإدارة الأميركية ومحاولتها الضغط على الحكومة الإيطالية وشركة “فيات”، كان موقفًا غبيًّا، فقد تمكنّا من “عقد صفقة القرن”؛ إذ لم يسبق لأي دولة في العالم، خلال 150 سنة سابقة، أن حققت عائدًا بهذه الضخامة من استثمار خارجي، وتأكد لنا ذلك، حين تعالت الأصوات الناقدة في الولايات المتحدة التي اعتبرت أن الضغط الأميركي على الحكومة الإيطالية وشركة “فيات” كان خطأً كبيرًا. لقد مكننا قرار بيع حصتنا في “فيات” في هذا الوقت من تحقيق عدّة أهداف، واكتشفت الإدارة الأميركية بعد فوات الأوان الخطأ الذي ارتكبته، فقد تمكنّا من الحصول على عملة صعبة في أحلك الأوقات. كان هدف الاستثمار الليبي في “فيات” الحصول على عائد اقتصادي، والضغط الأميركي على إيطاليا للتخلص منه مكّن ليبيا، على غير توقّع من واشنطن، من تحقيق “العائد الاقتصادي” لليبيا حين حصلنا على احتياطيات جديدة من العملة الصعبة. وبفضل هذا النجاح، تمكنّا من إضافة 3 مليارات دولار لاحتياطاتنا من العملة الصعبة، وهذا ما عزّز قدرتنا على الصمود.
في عام 1986، طلبت من الأخ رجب المسلاتي ومحمد سيالة ومحمد عبد الجواد وكامل المقهور، رفع دعوى قضائية في المحاكم البريطانية ضد السلطات الأميركية وضد قراراتها وقوانينها التي تبيح لها تجميد أموال أي دولة في العالم خارج الولايات المتحدة. وقد ربحنا هذه القضية وحكمت المحكمة البريطانية بأن القوانين الأميركية لا يجوز أن تطبق ضد سيادة الدول، وهكذا أنهت ليبيا مرحلة طويلة من “قدرة” واشنطن على تجميد أموال أي دولة بالدولار، ومثّل هذا الحكم انتصارًا لكل دول العالم. في هذا الوقت كانت أسعار النفط تتهاوى.
اتخذت بنفسي قرار المساهمة في شركة “فيات”، حينما كنت رئيسًا للوزراء، على الرغم من أجواء الشائعات والتشكيك في جدوى هذا النوع من الاستثمار، وحرصت على أن تتم في سرية تامّة، وهذا ما أكدته وسائل الإعلام الغربية آنذاك. وبالفعل، تمّت عملية البيع.
في هذا الوقت، أي في عام 1986، كان الوضع الاقتصادي في ليبيا قد بلغ مرحلة من التدهور، ووصلت الحالة النفسية للمواطنين في عموم البلاد مستوى من التدني يفوق كل وصف، وتفاقمت الممارسات التي تنتهك حقوق الليبيين وكراماتهم، وشاعت عبادة الفرد. لقد غدت الجماهير في وضع نفسي سيئ مع تدهور مستوى المعيشة، وشيوع “النفاق” والتملق وبطش ما سُمي “حركة اللجان الثورية” وغيرها من الأجهزة القمعية. ونظرًا إلى أن الانضمام إلى هذه الحركة كان مفتوحًا أمام الجميع، فقد دخلها كل مَن هبّ ودبّ: الانتهازيون، والفاشلون، والقبليّون، والمنافقون، وأصبحوا هم كل أعضاء الحركة. ونظرًا إلى هذا الوضع أيضًا، أصبحت الحركة حركة تهريج. لقد انحرفت عن أهدافها وتحولت إلى ميليشيا مسلحة وقمعية، مارست التسلط على الجماهير الشعبية، ثم بدأت مرحة “القوانين الشخصانية”، وانهارت القوانين وحلت محلّها المزاجية والمحسوبية. لقد اكتشفت أن الأخ معمّر لا يريد حركة ثورية؛ وإنما “حركة تصفيق” يقوم كل نشاطها على تكريس عبادة الفرد وممارسة عملية تخويف للجماهير وتوجيهها لاإراديًا.
شاع “النفاق” والتملق وبطش ما سُمي “حركة اللجان الثورية” وغيرها من الأجهزة القمعية
كان شغله الشاغل أن تقبّل الجماهير جبهته وأنفه ويده، تمامًا كما هو الحال في المغرب والسعودية، أي إنه كان يرغب في رؤية “حركة” تتملق له وتمارس التزييف والخداع والتهريج. كانت استراتيجية الأخ معمّر هي “الأمن ثم الأمن”. وعلى سبيل المثال، حين تتقدم أعداد من الطلبة للدراسة في الكليات والمدارس العسكرية، كانت الأجهزة الأمنية تحيل إليه مباشرة قوائم بأسماء هؤلاء، ليتولى بنفسه مراجعة ملفاتهم، اسمًا، اسمًا، وكان يولي عناية خاصة لمعرفة الانتساب القبلي لهؤلاء، وكان يشطب بنفسه كل أسماء الذين يظن مجرد ظن أن ولاءهم غير مضمون. وأذكر أنه طلب من رئاسة الأركان ترشيح مجموعة من الضباط لنقلهم إلى جهاز الأمن الداخلي، ومن هؤلاء أخي جلود. لمّا علم أخي بقرار الأخ معمّر نقله من الجيش بصفته ضابط إلى جهاز الأمن الداخلي، شعر باستياء شديد فجاء لزيارتي. قال لي: “أريد لقاء الأخ معمّر. اتصلْ به ورتبْ لي موعدًا”، فاتصلت به.
حين التقى أخي جلود بالأخ معمّر قال له: “يا أخ القائد. نحن عائلة بيت جلود لم نشتغل في الأمن؛ لا في عهد الأتراك، ولا في عهد الطليان، ولا في العهد الملكي، ولن نشتغل فيه في عهدك أيضًا”، فردّ عليه الأخ معمّر: “وماذا تريد؟”، فقال أخي جلود: “أنا مواطن وأنت الحاكم، لا يمكن لي أن أقول ما أريد أنت تقرر”، فقال له الأخ معمّر: “ما رأيك في الإحالة للتقاعد؟” فردّ عليه: “موافق”.
لقد تحدّثت خلال كل اجتماعاتي مع الأخ معمّر، بقوة وصراحة ووضوح، وتناولت بالنقد الوضع الذي تعيشه الثورة والجماهير، ووضعته أمام أحد خيارين: إمّا أن نقف وقفة جادة ونبدأ في إحداث تغييرات جذريّة، وإمّا أن أقدم استقالتي، فقال لي إنه يوافقني الرأي بضرورة إجراء التغييرات الجذرية. وبالفعل، بدأنا حوارات معمّقة في مدينة سرت على امتداد أحد عشر يومًا كانت تستغرق ساعات طويلة من الصباح إلى المساء، وكان العقيد مسعود عبد الحفيظ، والمقدم خليفة إحنيش، والرائد عبد الله السنوسي، والرائد أحمد قذاف الدم، والنقيب عبد السلام الزادمة، يقومون بواجب خدمتنا. بدأت هذه الحوارات في أول حزيران/ يونيو 1986 واتفقت أنا والأخ معمّر على أسس ومرتكزات التغيير، وأن أقوم بإعداد التصورات والحلول العملية. ونظرًا إلى أهمية النتائج التي توصلنا إليها، فقد أطلق العقيد مسعود عبد الحفيظ والمقدم خليفة إحنيش على أيام هذه الحوارات “الأيام المباركة”. في 11 حزيران/ يونيو، انتهت الحوارات، وتوجهت بالسيارة أنا والأخ معمّر إلى قاعدة رأس لانوف، للاحتفال بذكرى طرد القوات الأميركية، وكان الأخ معمّر يقود السيارة بنفسه. وصلنا إلى رأس لانوف حوالى الساعة الخامسة مساء، فلم نجد إلا عددًا قليلًا جدًّا من الجماهير في موقع الاحتفال، فأدركت أن الثورة فقدت بالفعل جماهيرها، بل إن الجماهير في الواقع أدارت ظهرها للثورة. وكان يحضر الاحتفال الأخ أحمد جبريل والأخ أبو موسى.
في اليوم التالي، توجهت أنا والأخ معمّر بسيارة إلى منطقة هراوة، حيث تقيم قبيلة أولاد سليمان الذين استقبلونا بحفاوة رجالًا ونساء وأطفالًا، فتناولنا معهم طعام الغداء، ثم عقدنا اجتماعًا مع قيادات القبيلة. في هذا الاجتماع، قال لنا رجال القبيلة بصراحة ووضوح وصدق: “لا نرغب في الذهاب إلى الأسواق العامة، ونفضل الموت على أن نذهب إليها، لأن هناك من يعامل المواطنين كـ”كلاب”. ثم أضافوا بمرارة: “هناك تحْدث الكثير من الممارسات غير الأخلاقية. الناس تتشاجر، تتدافع في زحام شديد على بضائع شحيحة، والعاملون في هذه الأسواق يتصرفون مع الناس بوحشية ويفرضون علينا شراء سلع لا نرغب فيها”. وقالوا لنا أيضًا: “يا أخ معمّر،
يا أخ عبد السلام إذا قلنا لكم إن 15 في المئة من الشعب مع الثورة، فهذا يعني أننا نكذب عليكم. جِدَا حلًّا سريعًا للأوضاع. رغم كل شيء فإننا نفضل الموت على أن نرفع السلاح ضدكم”. في هذه الأثناء، جاءت طفلة صغيرة عمرها 6 سنوات تقريبًا، توقفت أمام الأخ معمّر وقالت: “بابا معمّر من عامين لم أتناول شكولاتة أو حلوى أو تفاحة”، فقال الأخ معمّر مخاطبًا الحاضرين: “أحضرت الأخ عبد السلام معي لتحدثوه عن مشكلاتكم لأن أمور الدولة كلها عنده”. ثم واصلنا رحلتنا واتجهنا إلى مدينة البيضاء. كان هناك مكان غالبًا ما يستريح فيه الأخ معمّر في هذه المنطقة، فتوقفنا فيه وتناولنا الطعام.
قرر الأخ معمّر أن يواصل الرحلة إلى البيضاء، بينما قررت الذهاب إلى بنغازي لأسافر منها بالطائرة إلى طرابلس. ثم شرعت في اليوم التالي في إعداد أوراق العمل لإعادة الثورة إلى مسارها الصحيح، بناء على الأفكار التي طرحتها في حواراتي مع الأخ معمّر في سرت. في هذا الوقت من عام 1986، وبينما كنت منغمسًا في كتابة “برنامج التغيير، فوجئت بوصول الصديق الكاتب الليبي المعروف، الصادق النيهوموهو يطرق باب منزلي في المصيف. حين استقبلته، طلبت منه أن يقرأ ما كتبت، وأن يطلع بنفسه على أفكار برنامج التغيير الذي أعده، وما إن انتهى الأخ النيهوم من قراءة مسودة البرنامج، حتى هبّ من مقعده وقال لي بصوت بدويّ: “صبيّ يا بطل”، أي قم يا بطل لأعانقك. ثم عانقني وقال لي: “لو تحقق هذا البرنامج فسوف أعود غدًا من سويسرا لأتولى إصدار صحيفة”. في اليوم التالي، التقيت بالأخ المقدم يوسف الدبري، وكان صديقًا مقرّبًا لصادق النيهوم، فقال لي: ” وحوالى الساعة الثانية ليلًا طرق باب منزلي الأخ صادق النيهوم وهو يقول لي مازحًا: افتح يا عبد (لأن يوسف الدبري رجل من ذوي البشرة السمراء)، أريد أن احتفل ببرنامج عبد السلام جلود على طريقتي”. وفي هذا الوقت، كان يزورنا الدكتور جورج حبش، الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. بعد اجتماعي به طلبت منه أن يقرأ البرنامج، وما إن انتهى من قراءته، حتى قال لي: ” أهنئك يا أخ عبد السلام. لم يحصل أن تكون هناك ثورة منتصرة وتمسك بزمام السلطة، تملك الشجاعة وتقوم بهذا النقد الجريء، وتقدم حلولًا أكثر جرأة”، وقال لي: “نحن في فصائل الثورة الفلسطينية، حينما خرجنا من لبنان نتيجة لأخطائنا وتصرفاتنا وفقدنا ساحة لبنان، قام كل فصيل في مؤتمره بنقد تصرفاتنا وأخطائنا، لكن للحقيقة لم نملك الجرأة لننقد أسباب خسارتنا لساحة لبنان مثلك”. كانت لدي ثلاث أوراق عمل:
الورقة
الأولى: تضمنت “نقد حركة اللجان الثورية” وممارساتها القمعية، وكذلك “نقد الأجهزة الأمنية” و”الممارسات اللاثورية والتزييف والنفاق، وانعدام الممارسة الديمقراطية” و”غياب النقد” بوصفه “أوكسجين الحياة” لأي ثورة أو حركة سياسية. وفي هذه ، ركزت على أهم الأفكار، ومنها أن الثورة تقوم على الحب والصراحة والوضوح مع الجماهير؛ فإذا ما نجحنا نقول إننا نجحنا، وإن فشلنا فعلينا أن نصارح الجماهير بالفشل وبأسبابه. الثورة ليست توجيهًا “لاإراديًا”.
الثورة تقوم على الحب والصراحة والوضوح مع الجماهير؛ فإذا ما نجحنا نقول إننا نجحنا، وإن فشلنا فعلينا أن نصارح الجماهير بالفشل وبأسبابه
ومن هذا المنطلق، على حركة اللجان الثورية أن تعتمد الحوار مع الشعب، وأن تسعى للإقناع لا للتخويف والتزييف. كما أكدت الورقة الأولى على الفكرة الجوهرية التالية: إذا انتهت الثورة أخلاقيًا، فستكون قد انتهت سياسيًا وأيديولوجيا؛ ولذلك لا بد من احترام الرأي والرأي الآخر، سواء داخل الحركة أو في المؤتمرات الشعبية.
الورقة
الثانية: تضمنت هذه شرحًا للمفاهيم والسياسات الاقتصادية، وقد حللت فيها مقولات الكتاب الأخضر، وبيّنتُ أن هناك مسافة بين النظرية والتطبيق، وأشرت إلى أن فهم المقولات اتسم بكثير من الأخطاء التي قادت إلى التطبيق المجزَّأ والخاطئ للمقولات نفسها. لذا، وضعت رؤية عملية للتطبيق تقوم على الفهم العلمي الجماعي، وأكدت أن الأسئلة التي واجهت كارل ماركس وفريدريك إنغلز، ليست الأسئلة نفسها التي واجهت فلاديمير لينين. وفي هذه ، اعترضت على الشرح الذي قدمه الأخ معمّر للكتاب الأخضر، وقلت: “من الخطأ أن نقدّم الشروح لما جاء في الكتاب”؛ لأن ذلك يعني أن “الكتب أقفلت والأقلام جفت”، وقلت: “يجب ألَّا تكون هناك مرجعية وفتاوى لشخص – وكنت أقصد الأخ معمّر – بل إن المرجعية هي النصوص النظرية ضمن قراءة جماعية، وضمن التسليم بالحقيقة القائلة إن هناك بالفعل مسافة بين النظرية والتطبيق”.
الورقة
الثالثة: تضمنت مقترحات تتعلق بإعادة تنظيم القوات المسلحة التي كانت تضمّ نحو 350 ألف منتسب، يمثلون فعليًا أكثر من ثلث القوة العاملة في البلاد. كانت هذه القوة معطلة لأنها خارج العملية الإنتاجية، وهي تشكل عبئًا ماليًا يكلف الخزينة مبالغ هائلة. لذا، اقترحت تقليص القوات المسلحة إلى 150 ألفًا، كما اقترحت إيقاف شراء الأسلحة، وإقفال بعض القواعد الجوية، ووضع خطط لتخزين الأسلحة على مدى طويل، كما اقترحت تقليص أعداد الطلبة الذين يتوجهون إلى الانتساب إلى القوات المسلحة.
وهكذا، توجهت إلى بنغازي لمناقشة الأوراق الثلاث مع الأخ معمّر. لمّا وصلت إلى المدينة، اكتشفت أنه توجه إلى مدينة البيضاء؛ فلحقت به على وجه السرعة. وسرعان ما التقيت به في منطقة تفصل بين المرج والبيضاء. وحين قرأ الأوراق، قال لي إنه يوافق على ما ورد فيها من تصورات، ثم قال لي: “كيف يمكن إقرار هذه الأوراق؟”، فقلت: “نعرضها على المؤتمرات الشعبية”، فردّ قائلًا: “يُستحسن أن تُعرض على ملتقى اللجان الثورية أولًا، ولكن يجب ألَّا تعرض على أنها صادرة عن القيادة حتى لا يؤثر ذلك %D