المدح الشعبي في موريتانيا.. الخلاص بحب الرسول (ص)

20
المدح الشعبي في موريتانيا.. الخلاص بحب الرسول (ص)
المدح الشعبي في موريتانيا.. الخلاص بحب الرسول (ص)

أحمد إمبيريك

أفريقيا برس – موريتانيا. يشكل المدح الشعبي منتجًا فنيًا ذا عمق ثقافي في وجدان المجتمع الموريتاني، حيث ارتبط بشمائل النبي صلى الله عليه وآله سلم، لكنه في الوقت ذاته شكل نمطًا خاصًا يعبر عن أفراح المهمشين وأبناء العبيد السابقين، سواء من حيث الأداء أو الممارسة. ويمنح هؤلاء من خلاله صورة متخيلة لمُخلّص يرون فيه رحمة للبشرية، ومهربًا من عناء العبودية، وجفاء البشر وتسلطهم.

ورغم ارتباط المدح بالثقافة الموريتانية منذ بداياتها، بشقيه الشعبي والفصيح، وأهميته الفنية والروحية، فإنه لم يحظَ بالأرشفة والتوثيق، أو بتبنيه من قبل مؤسسة قائمة تُعيد كتابته وتدوينه، ومواكبته في تطوره وازدهاره، باستثناء مركز ترانيم للفنون الشعبية. كما أن هذا اللون الفني الشعبي، باعتباره منتجًا ثقافيًا غير مادي، لم يحظَ باهتمام الباحثين إلا في السنوات الأخيرة.

ويؤكد القائمون على المركز أن الخوف من اندثار هذه الأنماط الفنية والثقافية، والرغبة في الحفاظ عليها من الضياع، كان الدافع الحقيقي لإنشاء المركز، مما فرض عليه تحمل مسؤولية إعادة إحيائها، عبر الفعاليات والندوات والمهرجانات السنوية، وذلك منذ عام 2014، أي قبل اثني عشر عامًا.

يُؤدَّى المدح بشكل جماعي، حيث تُوزَّع الأدوار بين قارعي الطبول “الشَدَّادَهْ”، وأصحاب الأداء الصوتي “المَدَّاحَة” و”الرَدَّادَة”، وذلك بالتوازي مع العزف على الآلات الموسيقية التقليدية إن وُجدت. ومع ذلك، فإنه يُؤدَّى في كثير من الأحيان دون الحاجة إلى الآلات الموسيقية.

ما يميز هذا اللون الفني الثقافي أنه، لا يتماشى في كثير من جوانبه، لا سيما القديم منها، مع قواعد الشعر الحساني الملحون، إلى جانب ارتباطه بصفات النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وعلى الرغم من الأمية وتواضع المعلومات لدى ممارسيه، فقد خلقوا منه صورةً تفاعلية مع الحياة بجميع أطوارها، ما جعله ثيمة متعالية عن النواقص، بريئة من كل عيب، نظرًا لارتباطها الوجداني بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم. كما استطاعوا من خلاله التعبير عن غائب حاضر في أخلاقه وشمائله وصفاته، مستحضرين بطولاته وأيامه، حيث رأوا فيه العدالة المنتظرة، والحرية، والثورة على الظلم.

يوغل “المَدَّاحَة” في توحيد الله والتعلق به سبحانه وتعالى، مؤكدين على قدرته المطلقة في إعانة المستعين، ولطفه بالمستجير، كما يقول أحدهم:

وِلَّادِمْ دَايِرْ لِعَانَ

هَذا آَنَ نُوصِهْ

لا يطلب ماهُ مولانَ

لا يشكر ماهُ عَرْبِيه.

لقد أخرجوه عن القواعد المألوفة في أعراف البشرية، فالنبي (ص) هو الذي وُلِد من بركته آباؤه وأجداده، وليس ذلك معتادًا في تقاليد الناس. كما يقول أحدهم:

اخْلِگْ مِنْ بَرْكِتْ مَاهْ رَدْ

مُحَمَّدُو بُوهْ وْجِدُّو

وْلَاگَطْ اجْبَرْنَا بَرْكِتْ حَدْ

يِخْلِگْ مِنْهَا بُوهْ وْجِدُّو

يتحدث المداحة عن الميلاد والإرضاع

سَعْدِكْ يَنْتِيَّ حَلِيمَهْ

اِلِّ مُحَمَّدْ رَظَّعْتِيهْ

سَعْدْ الْحَاظِرْ مِنْ لُمَّهْ

لِخْلَاگتْ نَبِينَا وِامْجِيهْ

وتتجاوز نماذج المدح الشعبي هذا البعد إلى العلاقة التي جمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقريش والقبائل العربية، بالإضافة إلى شجاعة الصحابة وإقدامهم وتفانيهم في خدمة الشريعة الإسلامية، وحماية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والذَّبِّ عنه وعن دين الإسلام.

يطرح المدح الشعبي، وفقًا لبعض الباحثين، عددًا من الإشكالات، أبرزها: مدى موافقته للسيرة النبوية، وصحة نسبته إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، نظرًا لأُمية ممارسيه. وكذلك مدى توافقه مع النظام الموسيقي الحساني.

ويرى الأمين العام لمركز ترانيم، الأستاذ محمد ولد سيدي، أن ما يستوجب التغيير في المدح الشعبي هو أي دلالة تتعارض صراحةً مع العقيدة الإسلامية، أو سرد تاريخي غير صحيح، أو عبارات خادشة للحياء.

أما فيما يتعلق بموافقته لأوزان الشعر الحساني ومقاماته، فإنه ليس مطلوبًا، بل قد يُخرجه ذلك عن سياقه الفني والوجداني، مما يفقده معناه وقيمته، ويخرجه من نطاق المدح الشعبي.

وردًا على سؤال حول المشاريع التطويرية التي أسهمت في إثراء المدح الشعبي، يقول محمد ولد سيدي إن مركز ترانيم للفنون الشعبية، أعاد الاعتبار لممارسي هذا الفن، وأشركهم في العديد من الفعاليات والأنشطة الثقافية المرتبطة بالتراث الموريتاني.

كما اعتاد على تنظيم ليالي للمدح سنويًا، يحضرها الموريتانيون على اختلاف أذواقهم الفنية وأعمارهم. ونظّم رحلات استكشافية للبحث عن مواهب جديدة في هذا المجال. وعمل على توثيق المدح وإعادة كتابته من جديد، للحفاظ عليه وضمان استمراريته.

وأضاف محمد ولد سيدي أن أهم أغراض هذا اللون الفني تتعلق بـ “التوسل والتوحيد، والتوجيه، ومدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذكر أخلاقه وشمائله”، مؤكدًا أن المدّاح يهدف إلى النجاة من النار، ودخول الجنة، ومحو الذنوب، وتحقيق المراد.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن موريتانيا عبر موقع أفريقيا برس