أفريقيا برس – موريتانيا. تعيش موريتانيا اليوم ولليوم الثالث على وقع تداعيات ملف بالغ الحساسية والخطورة، هو ملف المواد المخدرة وحبوب الهلوسة الذي يواصل محققو الدرك الوطني تحقيقاتهم للكشف عن ملابساته وعن المتورطين الحقيقيين فيه.
وشملت الكميات المصادرة التي عرضها الدرك في بث على صفحته الرسمية، حبوب هلوسة وأدوية خطيرة مجهولة المصدر، تم ضبطها في مخازن سرية بمقاطعتي عرفات ودار النعيم بالعاصمة.
وأوضحت معلومات شبه مؤكدة أن الدرك الموريتاني بنى تحرياته التي قادت للكشف عن الكميات الهائلة من المواد المخدرة وعن شبكة تهريبها، على معلومات وصلته من الأمن الجزائري حول شاحنة ضبطتها السلطات الأمنية الجزائرية محملة بمواد محظورة كانت في طريقها إلى ليبيا عبر الجزائر.
وجاء الكشف عن هذه المواد ليطلق مساراً معقداً من التحقيقات الأمنية والقضائية، وسط تكتّم رسمي نسبي، وتداول متسارع للمعلومات عبر وسائط غير رسمية، ما جعل الملف يتحول إلى موضوع انشغال وطني واسع النطاق.
ويأتي هذا الملف الجديد ليضع السلطات الموريتانية، مرة أخرى، أمام اختبار جديد في مكافحة الجريمة المنظمة، وتعزيز الثقة في مؤسسات التحقيق والعدالة.
وقد بلغ عدد الموقوفين حتى الآن في هذا الملف، خمسة وعشرين شخصًا، من بينهم موزعون وأصحاب مخازن وتجار، في وقت ما تزال فيه التحقيقات متواصلة، وسط مطالبات شعبية بالكشف عن جميع خيوط الشبكة ومن يقف وراءها.
ونُقلت عن قائد أركان الدرك الموريتاني الجنرال محمد محمود ولد الطايع، تعليمات صريحة للفريق المكلف بالتحقيق في ملق المواد المحجوزة، قال فيها: “لا أحد فوق القانون، ادخلوا أي بيت وفتشوا أي هاتف، وإذا ساوركم الشك في منزلي فاقتحموه… المهم أن تعرفوا الحقيقة، كل الحقيقة”.
وزادت هذه التعليمات غير المسبوقة من اهتمام الرأي العام، وأثارت في الوقت نفسه تساؤلات حول ما إذا كانت هذه القضية ستصل فعلاً إلى نهاياتها المنطقية، أم أنها ستُحال، كغيرها، إلى الأرشيف.
وأعلنت ثماني منظمات المجتمع المدني في موريتانيا عن تشكيل إطار جمعوي جديد للتوعية بخطورة المخدرات، وذلك في سياق التعبئة المجتمعية المتصاعدة إثر العملية الأمنية الأخيرة التي استهدفت شبكات إجرامية متهمة بالاتجار في الممنوعات، لا سيما المواد المخدرة وحبوب الهلوسة التي يُعتقد أنها تستهدف فئة الشباب بشكل خاص.
وفي بيان مشترك، أشادت الجمعيات بما وصفته بـ”العملية النوعية” التي نفذها الدرك الوطني، معتبرة أنها تمثل خطوة بالغة الأهمية في مواجهة التحديات الأمنية المرتبطة بانتشار المخدرات، كما ثمّنت النهج الإعلامي الذي اعتمدته مؤسسة الدرك، مطالبةً بمواصلة هذا الأسلوب من التواصل لتعزيز الشفافية والثقة”.
ودعا البيان “إلى ضرورة اعتماد المعلومات الرسمية الصادرة عن الجهات المختصة، والابتعاد عن الإشاعات ومحاولات توظيف القضية في تصفية حسابات سياسية أو شخصية، مؤكدًا أن ملف المخدرات يتطلب مقاربة وطنية شاملة”.
كما أطلقت الجمعيات الموقعة دعوة إلى “هبة وطنية واسعة لمحاربة المخدرات، تشارك فيها الفعاليات السياسية والمدنية، من علماء وصحافيين ومدونين وناشطين”.
وفي السياق ذاته، دعت الجمعيات إلى تخصيص خطبة الجمعة المقبلة للتحذير من خطر المخدرات، والتنبيه إلى ما تسببه من دمار للأفراد والمجتمعات.
وقد ضمّ الإطار الجمعوي في تشكيلته التأسيسية كلاً من جمعية نور القمر، وجمعية خطوة للتنمية الذاتية، وجمعية العمل من أجل البيئة، والجمعية الموريتانية لتغيير العقليات، وجمعية أطر وكفاءات من أجل التنمية، وجمعية العمل لعلاج مرضى القلب والتنمية والتواصل، والتجمع الموريتاني للعمل الاجتماعي، والجمعية الموريتانية “بيان”.
وطالب النائب البرلماني المعارض الإسلامي اسلكو بهاه، بطرح أسئلة، بينها: من أدخل هذه المواد السامة؟ من موّلها؟ من سهّل عبورها من المعابر؟ من وفّر لها الغطاء حتى غدت بضاعة مخزنة في العاصمة؟ محذرًا “من محاولات صرف الانتباه إلى قضايا جانبية”، ومشدّدًا على أن “المخدرات وصلت إلى تلاميذ المدارس الابتدائية والثانوية، في ظاهرة تهدد البنية التربوية والاجتماعية في البلاد”.
واتهم المحامي ووزير الإعلام الموريتاني السابق محمد ولد أمين، جماعة الإخوان المسلمين، وتحديدًا حزب “تواصل” الموريتاني، بالتورط غير المباشر في تفشي ظاهرة المخدرات والهلوسة في موريتانيا، معتبراً أن ما شهدته البلاد في السنوات الأخيرة “لم يكن مجرد تجارة مخدرات تقليدية، بل تسونامي من السموم الكيماوية التي اجتاحت المدن والأرياف”.
وأشار الوزير السابق إلى ظهور طبقة جديدة من الأثرياء “تتلفع بالدين وتُوظّف العمل الخيري” لتبرير نشاطها، وتمكنت من اختراق المؤسسات، ودخول البرلمان، و”الهيمنة على مفاصل الدولة”، معتبراً “أن موريتانيا تحولت إلى نقطة عبور دولية لإعادة تصدير المخدرات نحو إفريقيا”، ومحذرًا من استمرار ما وصفه بـ”الهدنة السخيفة” مع من سماها “مافيا الظلمات”.
وحث ولد أمين الدولة الموريتانية على استعادة زمام المبادرة “بقوة وصرامة”، داعياً إلى حل الأحزاب التي وصفها بـ “المافيوية”، وعلى رأسها حزب “تواصل” المحسوب على الإخوان، وفتح تحقيق شامل في مصادر أموال التبرعات القبلية ومحاسبة المتورطين في اختلاسها.
وفي سياق تحليلي أوسع، ربط الوزير السابق بين ما يجري في موريتانيا وما ورد في محاضر اجتماعات “نادي السفاري”، وهو تجمع استخباراتي سري ضم الولايات المتحدة وفرنسا ودولًا عربية في السبعينيات والثمانينيات، حيث جرى، بحسب قوله، التواطؤ مع جماعات “جهادية” في آسيا على استخدام تجارة الأفيون كمصدر تمويل.
وحذر محمد ولد أمين “من مقاربة ملف الهلوسة المدوية في موريتانيا بطريقة مجتزأة”، معتبراً أن “كل بلد تتسامح فيه الدولة مع تغلغل الأصولية، يصبح مرتعًا للغلو وتجارة المخدرات وواجهات العمل الخيري المشبوهة”.
وشدّد على أن “الدولة التي تتلكأ في مواجهة الحقيقة، ستدفع ثمنًا باهظًا في أمنها واستقرارها وصحة مواطنيها”.
وبينما تتصاعد الدعوات لكشف ملابسات العملية والجهات المتورطة فيها، تزداد المخاوف من أن يُدفع هذا الملف، شأنه شأن ملفات مشابهة سابقة، نحو طيّه في الظل، دون محاسبة شفافة أو كشف كامل للحقيقة.
فالتجربة الموريتانية السابقة مع قضايا التهريب والفساد والتجسس، والتي غالباً ما تبدأ بزخم إعلامي ثم تنطفئ في غياب المعالجة الجدية، تثير قلقاً مشروعاً لدى الرأي العام المتخوف من أن تتكرّر الحلقة ذاتها اليوم.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن موريتانيا عبر موقع أفريقيا برس