أفريقيا برس – موريتانيا. مع مطلع عام جديد، توجّهت “الجزيرة نت” بسؤال واحد إلى نخبة من كبار العلماء في مجالات مختلفة، تمتد من الجينوم والطب وعلوم الأعصاب إلى الذكاء الاصطناعي والفيزياء. كان السؤال: ما أبرز الاختراقات العلمية أو التكنولوجية المتوقعة في عام 2026 ضمن مجال تخصصكم؟
تأتي أهمية هذا السؤال في لحظة علمية مفصلية تتسارع فيها الاكتشافات، بما يجعل استشراف القريب ضرورة لفهم اتجاهات العلم وتأثيراته المحتملة.
ويستعرض هذا التقرير توقعات هؤلاء العلماء، كاشفا عن رؤى متنوعة تجمعها قناعة مشتركة، بأن 2026 قد يشهد تحولات فارقة في فهمنا وقدرتنا على التأثير في الأنظمة البيولوجية والتكنولوجية والكونية.
“جينيفر دودنا”: عام واعد لعلاج الأمراض الوراثية
البداية جاءت مع العالمة جينيفر دودنا، الحائزة على جائزة نوبل في الكيمياء عام 2020، لمساهمتها في ابتكار تقنية تحرير الجينات “كريسبر”، بالتشارك مع إيمانويل شاربنتييه.
وتتوقع دودنا أن يصل مجال تعديل الجينوم في 2026 إلى نقطة تحول حقيقية، ليغدو منصة علاجية للأمراض النادرة، مشيرة إلى تطور بارز تحقق مؤخرا، حيث تمكن الباحثون في 2025 من تطوير علاج جيني مصمم خصيصا لطفل واحد مصاب بمرض وراثي نادر، في سابقة تبعث الأمل.
يُذكر أن كريسبر هي أداة حديثة لتعديل الجينات، تتيح للعلماء تغيير أجزاء محددة من الحمض النووي بدقة عالية، في محاولة لعلاج أمراض وراثية من جذورها. يمكن تشبيهها بمقص جيني ذكي يعمل مثل برنامج تحرير النصوص، حيث يحدد الخطأ في الشفرة الوراثية ثم يزيله أو يستبدله بتسلسل سليم.
وفي رأي دودنا يكمن التحدي الحالي في توسيع نطاق هذا النهج، بحيث لا يقتصر العلاج على حالة فردية أو مرض واحد في كل مرة، بل يُطبق على مئات الأمراض الوراثية النادرة التي لم يكن لها أي علاج من قبل.
وتوضح دودنا أن هناك آلاف الأمراض الجينية التي تجاهلتها أساليب تطوير الأدوية التقليدية، نظرا لصعوبتها أو ندرتها، لكن تقنية كريسبر تحمل وعدا بعلاج تلك الأمراض.
ولتحقيق هذا تؤكد دودنا على أهمية التوجه الحالي لدى الهيئات التنظيمية، مثل إدارة الغذاء والدواء الأميركية، لدعم ما يعرف بالعلاجات المنصاتية، أي التي يُمكن تكييفها بسرعة لأمراض متعددة، إلى جانب جهود الباحثين الدوليين لتطوير مقاربات جديدة تجعل استخدام كريسبر على نطاق واسع أكثر واقعية.
بعبارة أخرى، تتوقع دودنا أن يكون 2026 العام الذي ينتقل فيه كريسبر من علاج حالات فردية إلى تقنية علاجية شاملة تستهدف عشرات الأمراض الوراثية، التي لم يوجد لها علاج إلى الآن.
“ستانلي تشي”: المفتاح وليس المقص
ويناقش البروفيسور “لي ستانلي تشي”، أستاذ هندسة الأحياء بجامعة ستانفورد، هذا التوجه أيضا لكن من زاوية مختلفة، معتبرا أن نقطة التحول الأهم في عام 2026 لن تكون في توسيع استخدام كريسبر فحسب، بل في التحقق السريري من فعالية ما يُعرف بـ”التحرير فوق الجيني”. وهو نهج قائم على كبح الأمراض عبر التحكم في نشاط الجينات، دون إحداث أي قطع أو تغيير دائم في تسلسل الحمض النووي نفسه.
ويوضح تشي أن أبحاث العقد الماضي من تعديل الجينوم اعتمدت أساسا على ما يشبه “المقص الجيني”، حيث يُقطع الحمض النووي لإصلاح الطفرات المسببة للأمراض.
ورغم الطابع الثوري لهذا الأسلوب، فإنه ينطوي على مخاطر لأنه يُحدث تغييرات دائمة لا يمكن الرجوع عنها. أما النهج الجديد فيمثل انتقالا من فكرة “المقص” إلى “المفاتيح”، إذ تُستخدم أدوات دقيقة للتحكم في شدة نشاط الجينات، على نحو يشبه خفض مستوى الصوت أو رفعه، بدلا من تعطيل النظام بأكمله.
هذا الأسلوب يتيح خفض نشاط الجينات المسببة للأمراض أو تنشيط الجينات الوقائية، مما يفتح آفاقا لعلاج طيف واسع من الحالات المستعصية، من الأمراض العصبية العضلية إلى أمراض القلب، دون المساس بالشفرة الوراثية الأساسية.
ويتوقع تشي أن يشهد عام 2026 صدور أول موجة رئيسية من البيانات السريرية التي تثبت قدرة هذا النهج على التحكم في الجينات لدى المرضى بفاعلية وأمان، بما يؤكد أن علاج الأمراض الجينية لن يقتصر على تصحيح الطفرات نفسها، بل يمكن أن يتحقق أيضا عبر تعطيل آثارها البيولوجية.
“توبي والش”: ذكاء اصطناعي دائم التعلم
أما في ميدان الذكاء الاصطناعي، يطرح البروفيسور توبي والش، أستاذ الذكاء الاصطناعي في جامعة نيوساوث ويلز، مقاربة تُركّز على نقلة نوعية في كيفية تعلم الآلات.
يلفت والش الانتباه إلى الفجوة الحالية بين تعلم الإنسان وتعلم الآلة. فالبشر بطبيعتهم يواصلون التعلم والتكيف مع المعارف الجديدة باستمرار ولا يتوقفون عن اكتساب المعلومات بعد انتهاء مراحل الدراسة.
في المقابل، تبقى معظم أنظمة الذكاء الاصطناعي الحالية أسيرة ما تعلمته خلال مراحل تدريبها الأولى، عاجزة عن استيعاب أحداث أو معطيات جديدة من العالم الواقعي إلا عبر إعادة تدريب شاملة ومكلفة.
ويتوقع والش أن يشهد عام 2026 تقدما ملموسا نحو التعلم المستمر للآلات، بحيث تكتسب النماذج القائمة على الذكاء الاصطناعي القدرة على التعلم الدائم من البيانات الجديدة دون أن تفقد معارفها السابقة أو تحتاج لإعادة تهيئة كاملة. هذا التطور سيجعل الذكاء الاصطناعي أقرب إلى المرونة البشرية في التعلم كما يعزز اعتماديته.
“كاثرين فريز”: اكتشافات جيمس ويب تربك فهمنا لبداية الكون
وفي مجال الفيزياء وعلم الكونيات، ترى العالمة كاثرين فريز، أستاذة الفيزياء الفلكية في جامعة تكساس والمتخصصة في دراسة المراحل الأولى من عمر الكون، أن عام 2026 قد يقدم إجابات مهمة عن كيفية نشأة الكون في بداياته، وربما يدفع العلماء إلى إعادة النظر في تصورهم لبدايات الكون نفسها.
يعود ذلك -وفقا لكاثرين- إلى الكم المتزايد من البيانات التي يوفرها تلسكوب جيمس ويب الفضائي، القادر على رصد الكون كما كان بعد ولادته بزمن قصير جدا.
ولفهم أهمية هذه الاكتشافات، تجدر الإشارة إلى أن التصور العلمي السائد يفترض أن الكون نشأ بوتيرة بطيئة نسبيا، إذ يُعتقد أن المجرات الأولى كانت صغيرة وخافتة، ثم نمت تدريجيا على مدى مئات الملايين أو مليارات السنين، كما أن الثقوب السوداء فائقة الكتلة يُفترض أنها تشكلت عبر تراكم بطيء للنجوم والغاز على فترات زمنية طويلة.
لكن ما يرصده تلسكوب جيمس ويب يبدو مختلفا عن هذه الصورة. فقد كشف عن أجرام شديدة اللمعان في زمن مبكر للغاية من عمر الكون. وإذا تبين أن هذه الأجرام هي مجرات فتية فعلا، فإن وجودها بهذا الحجم والسطوع بعد فترة قصيرة من الانفجار العظيم يعني أن المجرات قد تشكلت ونمت أسرع بكثير مما يُعتقد.
وينطبق الأمر نفسه على الثقوب السوداء، فقد رصد جيمس ويب عددا غير متوقع من الثقوب السوداء فائقة الكتلة في حقبة مبكرة، وهو ما يصعب تفسيره وفق النماذج التقليدية التي تفترض نموا بطيئا وطويل الأمد.
أمام هذه الظواهر المحيرة، تطرح فريز تفسيرا مفاده أن بعض الأجسام الساطعة التي ظهرت مبكرا في تاريخ الكون قد لا تكون مجرات، بل نوعا افتراضيا من النجوم يعرف بـ”النجوم المظلمة”، مكونة من الهيدروجين والهيليوم ولا تستمد طاقتها من الاندماج النووي، بل من المادة المظلمة المحيطة بها.
وفق هذا التصور، تلعب المادة المظلمة (وهي مادة غير مرئية تشكل جزءا كبيرا من الكون) دور مصدر الطاقة لهذه النجوم الأولى. وعندما ينفد هذا المصدر ينهار النجم المظلم على نفسه فيتحول إلى ثقب أسود بالغ الضخامة، قد تصل كتلته إلى نحو مليون ضعف كتلة الشمس. وترى فريز أن مثل هذه الثقوب السوداء المبكرة ربما شكلت النواة التي نمت حولها لاحقا الثقوب السوداء العملاقة في مراكز المجرات.
وتشير فريز إلى أن البيانات المرتقبة من تلسكوب جيمس ويب قد تساعد العلماء على حسم طبيعة هذه الأجرام الساطعة المبكرة خلال عام 2026، وإذا ما كانت بالفعل مجرات فتية تفوق التوقعات، أم نجوم مظلمة، أم ظواهر جديدة تماما لم تدرج بعد في خرائطنا العلمية للكون.
“كونراد كوردينغ”: رسم خريطة كاملة للدماغ
وفي مجال علوم الأعصاب الحاسوبية، يشير البروفيسور كونراد كوردينغ، أستاذ علم الأعصاب في جامعة بنسلفانيا وأحد رواد نهج تحليل البيانات لفهم الدماغ، إلى أن علم الأعصاب يقترب من نقطة تحول تاريخية، تنتقل فيها دراسة الدماغ من مجرد مشاهدته إلى محاولة محاكاته وفهم بنيته الوظيفية الكاملة.
ويرى كوردينغ أن فهم الدماغ ظل لعقود، منذ رسومات عالم الأعصاب الإسباني سانتياغو رامون إي كاخال في أواخر القرن الـ19، قائما في الأساس على دراسة شرائح دقيقة من الأنسجة العصبية تحت مجاهر أخذت تزداد تطورا مع مرور الزمن.
إلا أن هذا التصور شهد انقلابا جذريا خلال العقد الأخير، إذ لم يعد الهدف الاكتفاء بصورة تمثيلية أو نموذجية لبنية الدماغ، بل السعي إلى بناء خريطة توصيل عصبي كاملة عند مستوى المشابك، تُظهر أي الخلايا ترتبط ببعضها، وأين تقع نقاط الاتصال بينها، وكم عدد الوصلات المشبكية التي تربطها، على امتداد الجهاز العصبي بأكمله.
ويشير كوردينغ إلى أن هذا التحول أصبح ممكنا، بفضل التطور المتسارع في تقنيات التصوير المجهري الآلي واسع النطاق القادرة على تصوير الأنسجة العصبية بدقة نانومترية، إلى جانب التقدم الكبير في خوارزميات التعلم الآلي. إذ تقوم هذه الأنظمة بتجزئة أغشية الخلايا العصبية، وتتبع المحاور العصبية والتغصنات التي توصل العصبونات ببعضها، كما ترصد المشابك عبر ملايين الصور المجهرية لتحويل البيانات الخام إلى شبكات عصبية رقمية ضخمة، تُمثل الخلايا واتصالاتها في صورة رسوم بيانية معقدة.
ويوضح كونراد أن نتائج هذه الموجة الأولى من خرائط التوصيل العصبي بدأت تظهر فعليا، على نحو كان يُعد حتى وقت قريب أقرب إلى الخيال العلمي. ففي عام 2024، نُشرت خريطة توصيل عصبي كاملة عند مستوى المشابك لدماغ ذبابة فاكهة بالغة، شملت نحو 140 ألف خلية عصبية وعشرات الملايين من الوصلات المشبكية.
وفي الثدييات، نجح مشروع “مايكرونز” في إعادة بناء حجم واسع من القشرة البصرية لفأر، مع الربط المباشر بين هذه البنية التشريحية للدوائر العصبية والنشاط الوظيفي المسجل، ضمن خريطة تضم نحو 80 ألف خلية عصبية ومئات الملايين من المشابك.
وفي موازاة ذلك، تقترب تجارب التصوير بالمجهر الإلكتروني لكامل الدماغ في يرقات سمك الزرد من تقديم أول خريطة شبه مكتملة لجهاز عصبي فقاري، مما يفتح الباب أمام توصيف جهاز عصبي كامل بمستوى غير مسبوق من الدقة.
أما الموجة الثانية من هذا التطور، فيرى كوردينغ أنها تتمثل في إضافة معلومات جزيئية ووظيفية إلى الخرائط العصبية، بحيث لا تقتصر على شكل الخلايا واتصالاتها فقط. إذ تسمح تقنيات حديثة، مثل المجهر التوسعي، بتكبير الأنسجة العصبية وجعل تفاصيلها أدق وأكثر وضوحا، حتى باستخدام مجاهر تقليدية، في حين تتيح تقنيات الوسم الجزيئي التعرف على أنواع الخلايا العصبية المختلفة والبروتينات التي تحتويها داخل العينة نفسها.
بذلك، لم تعد خرائط التوصيل العصبي مجرد رسوم لأسلاك وخلايا، بل أصبحت خرائط حية تحمل معلومات عن هوية الخلايا وطبيعتها ووظيفتها، إلى جانب مواقعها وكيفية اتصالها ببعضها.
انطلاقا من ذلك، يتوقع كوردينغ أن نشهد في 2026 حدوث اختراق تقني كبير، يتمثل في القدرة على تصوير كل الخلايا العصبية والوصلات المشبكية في جهاز عصبي كامل لحيوان ثديي، مقترنة بخرائط تُظهر الهوية الجزيئية لأنواع الخلايا العصبية. ويرى كوردينغ أن هذا الإنجاز سيمثل انتقالا حاسما لعلم الأعصاب إلى عصر علوم البيانات الضخمة، حيث يمكن اختبار نظريات الإدراك والتعلم وتطور الدماغ والأمراض العصبية على دوائر عصبية منظورة، بدلا من الاعتماد على نماذج تخطيطية مبسطة أو تصورات افتراضية.
“دانيال ديفيس”: العلاجات المناعية على أعتاب توسع جديد
أما دانيال ديفيس، أستاذ علم المناعة ورئيس قسم علوم الحياة في إمبريال كوليدج لندن، ومؤلف كتاب “الدفاع الذاتي: دليل لتفنيد الخرافات حول صحة الجهاز المناعي”. فيرى أن 2026 قد يشهد تطورا لافتا في فئات جديدة من العلاجات المناعية.
وبحسب ديفيس، فإن أبرز هذه الفئات نوع من العلاج المناعي يُسمى “علاج الخلايا التائية المعدلة وراثيا”.
يتضمن هذا العلاج عزل الخلايا التائية (المناعية) الخاصة بالمريض، وتعديلها وراثيا لتوجيهها نحو استهداف نوع محدد من الخلايا، مثل السرطان.
هذا النوع من العلاج يُستخدم حاليا في علاج بعض الأطفال المصابين بسرطان الدم، غير أن ديفيس يرى أن إمكاناته قد تمتد إلى أمراض أخرى، من بينها أمراض المناعة الذاتية، عبر إعادة برمجة هذه الخلايا لمهاجمة الخلايا المناعية المسببة للمرض.
ورغم أن ديفيس يشير إلى أن حجم التأثير النهائي لهذه التقنية في الطب لا يزال غير محسوم، فإنه يرى أن الزخم المتزايد للتجارب الجارية في مختبرات الجامعات ومراكز الأبحاث حول العالم يدفع هذا المسار العلاجي لأن يلعب دورا مهما في مستقبل الطب الجيني والمناعي.





