أفريقيا برس – موريتانيا. منذ أكثر من عقدين، يعيش العالم في حالة من الحماس المتزايد تجاه الحوسبة الكمومية، تلك التقنية التي وُعدنا بأنها ستقلب قواعد العلم والتكنولوجيا، وستجعل الحواسيب التقليدية تبدو بطيئة مثل العربة أمام الطائرة النفاثة.
لكن دراسة جديدة من معهد كاليفورنيا للتقنية في الولايات المتحدة تلقي بظلال من الواقعية على هذا الحلم، وتقول لنا ببساطة أن الحاسوب الكمي، بكل قوته وغرابته، له حدود.
إنها حدود لا تفرضها البرمجة أو العتاد، بل الطبيعة نفسها. فهناك أنواع من المسائل، حتى في قلب الفيزياء الكمية، تبدو عصية على الحل في أي وقت معقول، مهما كان الحاسوب “كموميا” أو “ذكيا”.
مشكلة تمييز الأطوار
طبقا لدراسة التي نُشرت في أكتوبر/تشرين الأول 2025 عبر منصة “أركايف” والتي لم تخضع بعد للتحكيم، يصف العلماء مسألة فيزيائية غريبة تعرف باسم “مشكلة تمييز الأطوار الكمومية”.
لفهم المشكلة تخيل أنك تملك نظاما فيزيائيا كموميا، يتكون من مجموعة ضخمة من الجسيمات التي تتفاعل فيما بينها.
كل حالة من هذا النظام يمكن أن تنتمي إلى “طور” مختلف، أي نوع من السلوك الجماعي الذي يحدد خصائص المادة (كالصلابة أو السيولة أو الحالة المغناطيسية).
السؤال الذي تطرحه الدراسة بسيط في الظاهر، ولكنه معقد جدا: هل يمكن للحاسوب أن يحدد إلى أي طور تنتمي الحالة التي أمامه؟
في العالم الكلاسيكي، هذا ممكن، حيث نحلّل البيانات، نقيس الخصائص، ثم نصنّف النتيجة، لكن في العالم الكمي، يصبح التحدي هائلا. فالجسيمات تتشابك بطرق تجعل المعلومات موزعة على النظام بأكمله، وليس في نقاط محددة.
التشابك الكمي
التشابك الكمي هو ظاهرة فيزيائية عجيبة تحدث عندما يتكوّن ارتباط عميق بين جسيمين (مثل فوتونين أو إلكترونين)، بحيث تصبح حالتهما مترابطة مهما ابتعدا عن بعضهما في المكان.
فإذا تغيّرت حالة أحد الجسيمين، يتغيّر الآخر فورا بطريقة منسقة، وكأن بينهما تواصلا خفيا يتجاوز المسافات.
لفهم الفكرة تخيل أن لديك زوجا من نرد سحري، قطعة معك في مدينة القاهرة المصرية، والأخرى مع صديقك في مدينة طوكيو في اليابان. في نفس اللحظة، يرمي كل منكما النرد، والغريبة أن الرقم متشابه في كل مرة، رغم أن النرد بلاستيكي عادي، لا يمكنه أن يرى أو يحس شيئا.
هكذا هو التشابك الكمّي في الطبيعة، جسيمان وُلدا من المصدر نفسه يظلان مرتبطين، فإذا قيست حالة أحدهما، تحددت فورا حالة الآخر، مهما كانت المسافة بينهما.
التعقيد الفيزيائي
وكلما ازداد “نطاق التشابك الكمي” بين الجسيمات (أي مدى تأثيرها المتبادل)، تضخّمت كمية الحسابات المطلوبة بشكل يفوق الخيال.
والنتيجة التي توصّل إليها الفريق كانت صادمة، حيث ظهر أنه حتى الحواسيب الكمومية، التي نفترض أنها تتعامل مع هذه الأنظمة بسلاسة، ستحتاج إلى زمن فلكي لتحديد الطور في بعض الحالات.
يشرح الباحثون أن النظام يصبح أشبه بـ “متاهة من الاحتمالات”، بحيث إن كل خطوة تحليل تفتح فروعا جديدة بلا نهاية واضحة، وتتضخم كمية المعلومات التي يجب التعامل معها بوتيرة أُسّية، أي أن زيادة بسيطة في عدد الجسيمات تجعل الحسابات تقفز من ملايين إلى تريليونات العمليات في لحظات.
وحتى الخوارزميات الكمومية المتطورة، التي تعتمد على التراكب والتشابك الكمي، لا تستطيع كسر هذه المعضلة لأن المشكلة لا تكمن في “الأداة”، بل في بنية الواقع الكمومي نفسه.
هنا يظهر الجانب الفلسفي للدراسة، فإذا كان أقوى الحواسيب في العالم، بل ربما في الكون، لا يمكنه فهم بعض الحالات الكمومية في زمن معقول، فهل يعني ذلك أن الواقع يحتوي على مناطق غير قابلة للفهم البشري أصلا؟ هل هناك حدود لما يمكن للفيزياء نفسها أن تُخبرنا به عن بعض أنظمتها؟
طبيعة الكون
هذا يعني وجود درجة من التعقيد الجوهري، أي أن بعض الظواهر ليست غامضة بسبب نقصنا في الأدوات، بل لأنها مبنية بطبيعتها على تعقيد يفوق أي وسيلة حسابية.
من هذا المنطلق، فالدراسة تعيد إلى الأذهان فكرة أن الفيزياء ليست فقط اكتشافا للعالم، بل أيضا مواجهة لحدود المعرفة، فالعقل البشري يبني نماذج للواقع، لكن بعض النماذج قد تصبح معقدة لدرجة أن لا أحد، لا إنسان ولا آلة، يستطيع حلها بالكامل.
وربما يكون هذا التواضع العلمي ضروريا في عصر يتحدث فيه كثيرون عن “الذكاء الكامل” و”القدرة المطلقة” للحواسيب الكمومية، فحتى في أعمق مختبرات الفيزياء، يظهر لنا أن الكون ربما يحتفظ ببعض من أسراره لنفسه، ليس عنادا، بل لأن طبيعته نفسها لا تسمح بغير ذلك.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن موريتانيا عبر موقع أفريقيا برس





