أفريقيا برس – موريتانيا. بينما يطوي عام 2025 صفحاته، لا تزال التحديات المزمنة التي يعاني منها البحث العلمي العربي على حالها، حتى أصبح الحديث عن آمال علاجها مع كل عام جديد مشهدا متكررا، وإن اختلفت تفاصيل الأولويات من باحث إلى آخر.
فهناك من يرى أن الحل يبدأ بوضع إجراءات عملية وعاجلة للحد من هجرة العقول العربية، ويتطلع آخرون إلى زيادة حقيقية في موازنات البحث العلمي، بينما ينشغل فريق ثالث بتحرير البحث العلمي من قيود الروتين الحكومي الذي يكبل الإبداع.
ورغم تباين الرؤى، يتفق الجميع على حقيقة راسخة، وهي جودة العقول العربية وقدرتها على تحقيق إنجازات استثنائية، متى أُزيلت العقبات التي تعترض طريقها.
وقف هجرة العقول
كانت البداية مع الدكتور علي البقلوطي، أستاذ الرياضيات بجامعة صفاقس التونسية، الذي ما إن سُئل عن أبرز أمنياته لعام 2026 حتى أجاب بلهجة لا تخلو من الحسرة: “أتمنى أن أرى بوادر مشروع حقيقي يضع حدا لهجرة العقول العربية”.
وأعرب البقلوطي -في حديثة للجزيرة نت- عن أسفه لقلة فرص العمل المتاحة للباحثين الموهوبين في العالم العربي، وهو ما يدفع كثيرين منهم إلى الهجرة نحو الخارج، حيث يجدون بيئة علمية وفرصا تمكنهم من تحقيق طموحاتهم، بينما تستمر المنطقة في معاناة نزيف العقول.
ورغم إقراره بوجود تحديات اقتصادية تؤثر في سوق العمل البحثي، شدد أستاذ الرياضيات، الحاصل على جائزة “فايزر” المرموقة للبحث العلمي، على ضرورة إعطاء الأولوية للباحثين المتميزين.
ومن الطموحات العامة إلى الرؤى الأكثر تخصصا، دعا البقلوطي إلى استقطاب دور نشر علمية عالمية إلى المنطقة العربية، مشيرا إلى أن الباحث العربي لا يزال يواجه تحديات كبيرة في النشر العلمي، مرشحة للتفاقم خلال السنوات المقبلة مع الارتفاع المتزايد في تكاليف النشر. ويرى أن الجامعات العربية يمكن أن تضطلع بدور محوري في تبني مثل هذا المشروع.
ويختتم البقلوطي آماله للعام الجديد بالدعوة إلى إنشاء مراكز بحثية متخصصة في علوم الرياضيات في العالم العربي، معربا عن أسفه لعدم وجود مركز متخصص في تونس يمكنه استضافة فعالية دولية كان يعتزم تنظيمها.
وأكد أن الرياضيات تمثل علم المستقبل، وتؤدي دورا محوريا في مجالات الذكاء الاصطناعي والثورة الرقمية التي تتقاطع مع مختلف العلوم، محذرا من أن العالم العربي لن يكون له موطئ قدم في هذه المجالات ما لم يمنح علم الرياضيات الاهتمام الذي يستحقه.
وذهب إلى أبعد من ذلك، قائلا: “إذا لم نتحرك بجدية في هذا الملف، فسنظل مجرد مستوردين لتطبيقات الذكاء الاصطناعي”.
عن الإمكانات
ومن الرياضيات إلى التقنيات الحيوية، حيث يحتاج البحث العلمي إلى معامل مجهزة على نحو متقدم، يضع الدكتور أحمد اللاحم، أستاذ التقنيات الحيوية بجامعة حلب السورية، على رأس طموحاته للعام الجديد إنشاء مختبرات تضاهي في جودتها نظيراتها في أوروبا.
وقال اللاحم للجزيرة نت: “لدينا عقول في مجال التخصص لا تقل كفاءة عن نظيراتها في الغرب، لكننا لا نملك الإمكانات نفسها، ولذلك أقول دائما في أي لقاء يجمعنا بالمسؤولين: أعطني الإمكانات وسأصنع لك المستحيلات”.
وإلى جانب توفير التمويل اللازم لتطوير المختبرات، يتمنى الدكتور اللاحم إتاحة الدعم المالي لإيفاد الباحثين إلى الخارج للمشاركة في المؤتمرات الدولية والبعثات الدراسية، مشيرا إلى أنه “منذ عام 2005 لم يُوفد باحث سوري إلى الخارج بدعم من الدولة، وأن جميع المشاركات في المؤتمرات الخارجية تمت على نفقتهم الشخصية”.
ويختتم حديثه بالحث على ضرورة تحرير مناخ البحث العلمي من الروتين الإداري الذي يكبل الإبداع، قائلا: “إذا كنا نطالب على الدوام بزيادة الميزانيات، فلا ينبغي أن نقيد المتاح بقيود إدارية تحرمنا من تعظيم الاستفادة مما هو متوافر، إذ قد يضطر الباحث إلى الانتظار أشهرا للحصول على تجهيزات بسيطة وغير مكلفة، فقط ليستكمل عمله”.
الجودة لا الكم
ويتفق الدكتور ناصر الراوي، رئيس قسم هندسة الليزر والإلكترونيات البصرية بجامعة دجلة في العراق، مع ما ذهب إليه اللاحم، مؤكدا ضرورة أن يوجه التمويل نحو جودة الأبحاث لا عددها.
وقال الراوي للجزيرة نت: “أتمنى أن يكون عام 2026 نقطة انطلاق لحل مشكلتنا الأزلية في البحث العلمي، وهي المشكلة التي خلقت فجوة كبيرة بيننا وبين ما وصل إليه الغرب، والمتمثلة في الانفصال بين البحث العلمي والتطبيق. والحل يكمن في وجود إستراتيجيات واضحة تربط البحث العلمي باحتياجات المجتمع، بما يمكنه من تقديم حلول فعالة لمشكلاته”.
وفي هذا السياق، دعا إلى تعزيز التعاون بين البحث العلمي والقطاع الصناعي، إلى جانب إقامة شراكات حقيقية بين الفرق البحثية في العالم العربي ونظيراتها في الدول الغربية.
تطلعات بلا شكوى
والخيط الذي يجمع بين معظم هذه التطلعات هو ضعف التمويل، ولذلك كان العالم المغربي الدكتور جواد الخراز، المؤسس والمدير التنفيذي لشبكة خبراء المياه والطاقة والمناخ، والمدير السابق للأبحاث في مركز الشرق الأوسط لأبحاث تحلية المياه بسلطنة عُمان، واضحا ومباشرا حين قال إن أمنيته الأولى لعام 2026 هي تحقيق زيادات معقولة في موازنات البحث العلمي بالدول العربية.
وقال الخراز للجزيرة نت: “شاركت قبل نحو 10 أعوام في إعداد تقرير اليونسكو للعلوم، وكان من أبرز ما رصدناه آنذاك أنه لا توجد دولة عربية تنفق أكثر من 1% من إجمالي الناتج القومي على البحث العلمي”.
وعزا الخراز هذا الوضع إلى نظرة لا تزال قاصرة للبحث العلمي، لا تضعه ضمن دوائر الأولوية، بل تنظر إليه بوصفه نوعا من الرفاهية، وهو ما يُبقي العالم العربي أسيرا لاستيراد معظم احتياجاته في القطاعات الحيوية، وفي مقدمتها قطاع الطاقة.
وأضاف: “في الوقت الذي تسعى فيه الدول إلى مضاعفة إنتاجها من مصادر الطاقة المتجددة، ينبغي أن تضخ مزيدا من التمويل في البحث العلمي الذي يغذي هذا القطاع، فلا يعقل أن يكون هذا هو التوجه المعلن، بينما نستمر في استيراد كل ما يرتبط بالطاقات المتجددة، من توربينات الرياح إلى الألواح الشمسية”.
ودعا الخراز إلى أن تخدم الأبحاث المنشورة للباحثين العرب الأولويات الوطنية، بما يسهم في حل المشكلات وتوفير البدائل، لا أن يبقى المجتمع في واد والأبحاث في واد آخر.
واعتبر أن هذه مسؤولية مشتركة بين الدولة والباحث، إذ تقع على عاتق الدولة مهمة وضع إستراتيجيات البحث العلمي وتحديد مجالاته بما يخدم المصلحة العامة، إلى جانب توفير التمويل قدر الإمكان، في حين يجب على الباحث أن يكون على قدر هذه المسؤولية.
وأعرب الخراز عن ثقته بأنه متى توافر هذا المناخ سينعكس البحث العلمي بشكل ملموس على حياة المواطنين، مؤكدا أن ما ينقص المنطقة ليس العقول المبدعة، بدليل عشرات القصص الناجحة لباحثين عرب في الخارج.
وأضاف أن غياب هذه المنظومة المتكاملة يبقي الإنجازات العلمية في إطار مبادرات فردية لبعض الباحثين، لا ينعكس أثرها على الاقتصاد، لأنها لا تنجز ضمن إستراتيجية واضحة للبحث العلمي تخدم أولويات الدولة واحتياجاتها.
ورغم تأكيده أهمية التمويل، شدد الخراز على ألا يتحول نقصه إلى ذريعة للشكوى أو مبرر للتقاعس، مختتما حديثه بالقول: “أتمنى أيضا في عام 2026 أن تخفت نغمة الشكوى لدى الباحثين العرب. صحيح أن هناك نقصا في التمويل، وقد بدأت حديثي بالحث على ضرورة العمل على زيادته، لكن تظل هناك فرص حقيقية لمن يسعى إلى تجاوز هذه التحديات عبر التعاون الدولي والإقليمي، فضلا عن إمكانية توظيف الموارد المتاحة، رغم محدوديتها، لتحقيق إنجازات ملموسة”.





