موريتانيا.. تسعهم غالباً، لكنها لا تغريهم!

40
موريتانيا.. تسعهم غالبا، لكنها لا تغريهم !
موريتانيا.. تسعهم غالبا، لكنها لا تغريهم !

عبيد إميجن

أفريقيا برس – موريتانيا. يوميًا، يُعاود السائق “جُمعـة” الديوان الثالث بقصر العدل حيث سبق لـه وأن أودع قبل أيام طلب رد محجوز!.. لقد كان من ضمن المحجوزات سيارة تويوتا خاصته؛ كان يُعيل من عائد استغلالها عائلته المكونة من ستة أبناء وزوجة وأم كبيرة في السن، قبل أن تُصادرها العدالة الموريتانية منذ أسابيعٍ ثلاث تحت طائلة قانون تهريب المهاجرين غير النظاميين؛.. يُحاجج “جُمعة” بأنه ليـس سلطة ليفتش الهويات الشخصية لركاب عربته قبل أن تعترض طريقه نقاط تفتيش المسافرين حتى يتحتم عليه تحمل تبعات المخالفات التي يقوم بها هؤلاء. ويستطرد، لماذا يحتجزون مصدر رزقي اذاً؟

كانت موريتانيا قد أصدرت القانون 017/2020 للتشديد على منع وقمع الاتجار بالأشخاص وتهريب المهاجرين حيث بالإمكان انزال عقوبة السجن سبع (7) سنوات لكل مشارك أو متواطأ في نقل أو إيواء مهاجر غير نظامي داخل تراب الجمهورية، ومن الظاهر أنه في الفترة التي أعقبت اصدار القانون تم احداث العديد من الأجهزة من بينها الهيئة الوطنية لمحاربـة الاتجار بالاشخاص وتهريب المهاجرين، وكذلك تنشط مؤسسات الرقابة والتفتيش الأمني، وهو نشاط ملحوظ على امتداد الطرق الوطنية والمعابر الحدودية حيث بالإمكان بكل سهولة فـرز المهاجرين غير النظاميين عما سواهم من المسافرين أو العابرين، وغالبًا ما تكون وجهـة هؤلاء هي أوروبا وليس الاستقرار في موريتانيا، وكلما زاد حالات توقيف هذه الهجرات تفاقمت أزمات الناقلين مع العدالة التي يسهل عليها توجيه تهمة تهريب البشر لكل من يتورط في نقل أو مساعدة هذا الصنف من الركاب، ومن ثمة تصادرُ سيارته ضمن المحجوزات وادلة الجريمة، في هذه الأثناء تظلم الدنيا في وجه من يصف نفسه بالبريء “جمعة” الذي يُحارب الآن لكـي يُثبت نواياه كناقل وليس متاجر بالأشخاص!

ما زاد من مأساة “جمعة” أن بلده كانت قد فتحت أبوابها للتعاون المشترك مع أوروبا في سياق مكافحة الهجرة غير النظامية، ففي وقت سابق من العـام الفائت، كان الطرفان قد أبرما اتفاقا ملزما لموريتانيا بحيث تلعبُ خلالـه دورا وقائيا وأمنيا بحيث يؤدي إلى منع تدفق أمواج الهجرة البشرية الى القارة العجوز، مقابل ذلك تقديم بروكسيل العون للاقتصاد الموريتاني.

ولطالما اعتُبرَت سواحل موريتانيا منصة رئيسية لانطلاق قوارب المهاجرين غير الشرعيين القادمين من دول أفريقيا جنوب الصحراء نحو أوروبا، لكن ما زاد من القلق أكثر هـو جعلها وجهة أيضا بالنسبة للآسيويين، وفي انتظار وطأ المهاجرين الأراضي الأوروبية تكون العمالة المحلية قد تعرضت للمضايقة والمنافسة على المتاح من فُرص العمل الشحيحة في البلد، الشيء الذي أجبر في وقت سابق، وخلال توقيع اتفاق التفاهم مع المفوضية الأوروبية كانت المعارضة الموريتانية قد اتهمت الحكومة بالتخلي عن المصالح الاستراتيجية للبلد الذي سيجعله الأوروبيين وطنا بديلا لمئات الآلاف من المهاجرين! أما خارج الحدود فمضاجع الجوار الإقليمي لم تعد لتستقر بعدما اعتبرت الصحافة الاسبانية ان بلادها تتعرض “لغزو بشري غير مسبوق..خاصة في جزر الخالدات” القريبة من السواحل الأفريقية.

تاريخيًا، كان المجال الموريتاني ملتقى لموجات من الهجرات البشرية القادمة من آسيا والشرق الأوسط بالإضافة الى مجموعات الرحل التي لا تستقر على طول الساحل الافريقي، فمنذ القرن الخامس عشر بدأت العناصر والأعراق الموريتانية الحالية تشكيل هويتها المحلية المختلفة والمتعايشة في الآن ذاته، حيث يعيد العرب أصل وجودهم إلى “تغريبة” بني هلال من الجزيرة العربية، ويعتقد أن المجموعات الأمازيغية كانت أيضا قد هبطت من شمال أفريقيا ناحية الجنوب لتستقر في وسط الصحراء الكبرى مشكلة مع العرب هوية جديدة، والى جانب هؤلاء تنتصبُ أعرشة وحقول الأعراق الزنجية تبعا لتفرعات الأنهار ومدى توافر أحواضها على مواقع صالحـة للزراعة، غير أن هذه الآصرة الثقافية كانت قد تعززت سياسيا وجغرافيا غداة تأسيس الجمهورية الإسلامية الموريتانية سنة 1960 بعدما أبقت بعد رحيل الاستعمار الفرنسي على مساحـة شاسعة بحيث تناهز 1 مليون و30 ألف كيلومترا في الوقت الذي لم يكن السكان يزيدون على 600 ألف نسمة قبل ستين سنة، أما سكان موريتانيا الآن فهم يناهزون 4.8 مليون نسمة، غير أن هذه المساحة الهائلة كانت كفيلة لتشكل مصدر إغراء وجذب لآلاف المهاجرين الذين رأوا فيها حدودا غير قابلة للتأمين من قبل سلطات محدودة الإمكانات والتأثير، لذا شاع بين مختلف الأوساط والجنسيات الافريقية بأنه بالإمكان التسلل الى داخل موريتانيا والتي لا يفصل حدودها البحرية عن إسبانيا سوى 815 كيلومترا وهي مسافة تغري المهاجرين للمخاطرة بعبورها عبر قوارب الموت الأكثر شيوعا بين هؤلاء.

سياسيا وأمنيا، تحرصُ السلطات المحلية على اتباع سياسات صارمة تجاه المهاجرين غير النظاميين في مراحل دخولهم واثناء اقامتهم او هجرتهم داخل/خارج موريتانيا؛.. حيث أقيمَت العـديد من نقاط المراقبة والتدقيق على مسافـة تزيدُ على 3100 كيلومتر هي حدودها مع السنغال وجمْهورية مالي. وبهذه المرابط تكون موريتانيا قد انخرطت في المقاربـة الأمنية التي يفرضها الاتحاد الأوروبي من أجل احباط الهجرة غير النظامية عبر تشديد الرقابة البرية والبحرية لمنع تدفق المهاجرين وتعرض هذا المسار لانتقادات من المعارضة بسبب استغلال المُهاجرين للثغرات الأمنية لمواصلة المسير بشكل لا ينقطع، الشيء الذي عرض نقاط العبور للاختبار وجعلها غير فعالة كثيرا. منذ العام 2020 أصبحت موريتانيا نقطـة عبور أساسية للمهاجرين من دول أفريقيا، ولا سيما من السنغال ومالي وغينيا والنيجر وغيرها، حيث أرغمت الظروف الاقتصادية والسياسيـة الأفارقة من جنوب الصحراء على مبارحة مناطقهم الأصلية باتجاه أوروبا متحدين الظروف غير المواتية المرافقة للهجـرة، والتي تتضمن اعتراض عصابات الاتجار بالبشر وركوب قوارب الموت، واحتمال الإعادة القسرية الى الديار، ومع مرور الوقت اكتسب هذا المنحى زخمًا كبيرا بسبب تزايد موجات الهجرة وما يرافقها من مظاهر إجرامية لا تخفي نوايا أصحابها لاستغلال هشاشة وحاجة المهاجرين.

توافدٌ مريبٌ للمهاجرين

في وقت سابق من هذا الشهر بدأ الناشط القمري طاهر أمباي تحركه لمعرفة مصير مواطنيه الذين انقطعت اخبارهم على الحدود الموريتانية ـ السنغالية بعد رحلة لا تقل عن 7500 كلمتر برا، كان الشباب القمري قد قطع خلال المحيط الهندي وصولا الى دول أفريقية عديـدة كتنزانيا والكونغو ونيجيريا وصولا الى السنغال ومنها يتهيأ لعبور النهر باتجاه الساحل الموريتانية في رحلة محفوفـة بالمخاطر وانعدام الأمان يقطعها الشباب بحثًا عن حياة أفضل، وفي كثير من الأحيان، لا ينجو الكثير من بينهم من مصاعب الرحلة أما الواصل من بينهم الى أوروبا فهـو المحظوظ. عادة يصطحبُ المهاجر معه مبلغًا صغيرا من المال لتغطيـة وقد يقترض الواحد منهم الأموال من المُرابين مقابل فوائـد عالية من أجل دفع تكاليف العبور. وكان أغلب الشباب القمري قد اعتمد على أهله في جمع تكاليف الرحلة قبل ان ينطلق من جزيرة موروني مستعينين بشبكات التواصل الاجتماعي التي باتت تخيط العلاقات بين الجزء الجنوبي الشرقي من القارة الأفريقية وأطراف أفريقيا الشمالية ـ الغربيـة،.. كان السيد أمباي يعرض على نشطاء على فيس بوك صورا للشبان قبل أن تنقطع أخبارهم ويفقدُ الأهالي الاتصال فجـأة، ويتحركُ الناشط القمري في الوقت الراهن ليجد سبيــلا يؤدي بـه الى مظان أماكن تواجد الشباب القمري. في النهاية، أوصل دعاة حقوق الانسان صوت الناشط القمري الى السلطات الموريتانيـة، والنتيجـة ثلاثًا من الشباب القمري تمت اعادتهم الى الحدود السنغالية، حيث جاؤوا، أما المتبقون وهـم تسعـة فلا أثر لهم ولا أمل في بقائهم أحياء، حيث يعود آخر اتصال بينهم مع ذويه الى بداية سبتمبر الفائت.

بالرغم من ان عداد الهجرة غير النظامية نحو الفضاء الأوروبي لا يعرفُ التوقف ما يجعل مشاعر القلق والتوجس والخوف ترافق المهاجرين كما هو حال العائلات التي غادروها على أمل العـودة بقيمة مضافة أو على الأقل التكفل بتحسين ظروفهم الشخصية بعيدا عن البؤس وصنوف الفقر المُعاشة في أفريقيا، يروي طاهـر أمباي حجم الرهان الذي ودعت به الأسر أبنائهم وطبيعة الأسـى والتفجع الذي استقبلوا بـه خبرا فقدان أحبائهم. وعلى المستوى الموريتاني تطرح هذه المعضلة تحديات كثيرة من ضمنها محدودية الوسائل المُتاحـة للاختبار الجيني (DNA) وانعدام مؤشرات واضحة حول فواجع الموت على السواحل الموريتانية، بالاضافـة إلى ضياع هويات كثير من ضحايا الهجرة غير النظامية مما يصعبُ تحديد جنسيات المفقودين، لكن وصول شباب جزر القمر لا يمكن أن يمر دون أن يكون مصدر قلق دائـم للسلطات المحلية التي لا تفهم ولا تستسيغ الحافز الذي يحمل سكان أبعد نقطة في أفريقيا للمغامرة للوصول إلى بلادنا! البعضُ يتحدث حول نظرية “الاحلال العظيم” بنسختها الأفريقية، ويثير السؤال هل قرر الافارقة اتخاذ أوطان بديلة عبر الالتقاء على السواحل شمال ـ غرب افريقيا؟

وحتى الآن، ليس هنالك جوابا جازمًا حيث أن الاستقرار والإقامة في موريتانيا ليس هدفا في حد ذاته على المدى القريب، ولكن دعاة نظرية المؤامرة لديهم حجاج آخر مفاده أن تغيير التركيبة السكانية في موريتانيا بات هدفا ومقصدا لهؤلاء.

المهاجرون لا يأبهون

الهجرة باتت تجارة مربحة لكافة الأطراف، حيث تقوم بها الجماعات المنظمة وتحفز الشباب على القيام بها، والى جانب ذلك تتضارب سياسات الدول والحكومات التي قد يفهم أحيانا منها اتخاذ سياسات مستقلة، سواء تعلق الامر بنظرتها الى الدول المرسلة للمهاجرين أو دول العبور أو الدول المستقبلة لهم في النهاية، فلكل طرف من هذه الأطراف أسلوب تفكيره ورؤيته وتصوره للتعامل مع الظاهرة سواء كان ذلك بالتقاضي عنها وتجاهلها اذا لم تشكل تهديدا أمنيا أو إقتصاديا وشيكا داخلها، وكثيرٌ من الدول تعمد إلى تشجيع قواها الحية والشابة لتهاجر سواء بطريقة نظامية أو غير نظامية.

في النهاية، لا يأبه المهاجرون بالتحديات الأمنية التي تواجههم ما دام التصميم يقتضي البحث عن فرص عمل ومعيشة أفضل في مكان آخر مغاير لمحيطهم، وليس لديهم أدنى اهتمام بالتصنفيات القانونية والتنظيمية التي تشغل المفكرين والإعلاميين الذين يطاردون الظاهرة في مختلف تمظهراتها وتشكلاتها.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن موريتانيا عبر موقع أفريقيا برس