أحمد إمبيريك
أفريقيا برس – موريتانيا. يعبر الحديث في الآونة الأخيرة عن العلاقات الموريتانية السنغالية بعد توقيع البلدين في 21 ديسمبر 2018 اتفاقًا نهائيًا لتقاسم حقل الغاز المشترك بينهما، مع استثمار من شركتي بريتش بتروليوم (BP) البريطانية وكوسموس إنرجي الأمريكية (KOSMOS ENERGY)، وما أسفر عن ذلك من تقارب بين البلدين. هذا التقارب يعكس حالة جديدة من التلاقي بين الدولتين الجارتين، مما يستدعي الحديث عن سياقات متعددة وأبعاد مختلفة شكلت نمط العلاقات بينهما منذ الاستقلال عن فرنسا.
ويحظى مواطنو البلدين بصلات اجتماعية نظراً للتداخل العرقي والتلاقح الثقافي الذي غذاه العمق التاريخي والحضاري عبر الصحراء، إلى جانب الروابط الدينية (الصوفية). ويؤم عدد من الزوار الموريتانيين مدن “كولخ” و”طوبا” و”تيواون” في السنغال من فترة لأخرى لزيارة أقطاب الصوفية، والعكس صحيح، كما تمثل السنغال مقصداً للرحلات الاستشفائية للمواطنين الموريتانيين.
في المجال السياسي، يتحدث المراقبون عن بدايات تقارب بين الجارتين خلال السنوات الأخيرة، رغم حدة التوتر في السنوات الماضية. ويتوقع أن تزيح التطورات الأخيرة، التي كان آخرها في مطلع العام 2025، عهداً طويلاً من الريبة والشكوك التي بدأت بوادرها تلوح في الأفق منذ العام 1985. وقد انفجر الصراع لاحقًا عام 1989 نتيجة الاحتكاك بين مزارعي ورعاة الجارتين في قريتي: دياوارا (Diawara) التي يقطنها مزارعو السنغال، وسونكو (Sonko) التي يسكنها الرعاة الموريتانيون. وكان لسياسات البلدين، رغم الخطابات التصعيدية آنذاك، دور مهم في نزع فتيل الحرب ومواجهة تدهور الأوضاع، وما نتج عن ذلك من ضحايا بين مواطني البلدين.
يتحدث السنغاليون لغة الولفية بدرجة أولى كلغة وطنية وشعبية بنسبة 80%، إضافة إلى كونها اللغة الأصلية لقومية “الوولف”. كما تعد اللغة الفرنسية اللغة الرسمية للدولة، وتنتشر العربية بشكل كبير في أوساط المسلمين السنغاليين، حيث تمثل جزءًا مهمًا من الثقافة الشعبية رغم تعدد الأعراق. ويشكل الوولف إلى جانب التكرور والسوننك والبمبارا والفولاني الجماعات الإثنية الأبرز في السنغال، وهذه القوميات ذاتها توجد في موريتانيا إلى جانب العرب. وتأتي الفرنسية في المرتبة الثانية بعد اللغة العربية، التي هي اللغة الرسمية للجمهورية الموريتانية.
شكلت زيارة الرئيس السنغالي باسيرو ديوماي فاي إلى موريتانيا، وهي أول زيارة خارجية له بعد أسبوعين من تنصيبه رئيسًا للبلاد، بادرة حسنة في العلاقات الثنائية بين البلدين. وكان الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني، الرئيس الدوري للاتحاد الإفريقي، قد حضر حفل تنصيب “باسيرو” رئيسًا للسنغال. واعتبر بعض الخبراء زيارة “باسيرو” انفتاحًا جديدًا على موريتانيا، وهو ما عبرت عنه الاستقبالات الشعبية أيضًا خلال تلك الزيارة. واعتبر الناطق باسم الحكومة الموريتانية أن “كون موريتانيا أول بلد خارجي يزوره الرئيس السنغالي فاي” يعبر عن عمق العلاقة الأخوية بين البلدين.
وتتخذ المشاريع المشتركة بين البلدين أوجهًا متعددة، منها ما يتعلق بالطاقة، والصيد، والأمن، والتعليم، والصحة، وتسهيل النقل، إضافة إلى الزراعة، والتنمية الحيوانية.
وكان البلدان قد وقعا مع مطلع العام الماضي 2024 مشاريع كبرى في مجالات التحول الرقمي، والابتكار، وعصرنة الإدارة، وفي التجارة، إضافة إلى التعاون في إطاري التكوين المعلوماتي ووسائل الإعلام. وشملت الاتفاقيات التعاون في مجالات الصحة الحيوانية والصحة العامة، إلى جانب المشاريع ذات الصلة بالرياضة وشروط الإقامة والدخول، ومحاربة الاتجار بالبشر وتهريب المهاجرين، والخدمات الجوية، مع عدد من مذكرات التفاهم والتعاون المشترك والتبادل الاقتصادي.
ويتم الحديث في إطار التبادل والتعاون عن أرقام مهمة. ففي مجال الصيد وحده، فإن موريتانيا تمنح السنغال 500 رخصة لصيد 50 ألف طن من أسماك السطح الصغيرة، بشرط تفريغ 6% منها داخل موريتانيا لتموين السوق المحلي، وذلك بموجب شروط البروتوكول الملحق باتفاقية الصيد.
وفي مجال التنمية الحيوانية، يتم تزويد السنغال وفقًا لمحضر موقع بين البلدين بالمواشي، وقد بلغ عددها خلال العام 2023، 810 آلاف رأس، 300 ألف منها من الأغنام فقط.
وقد مكنت الاتفاقيات بين البلدين مربي الماشية من الانتجاع في الأراضي الحدودية خلال مواسم الجفاف وندرة المراعي، رغم أن هذه النقطة كانت السبب الرئيس في إشعال التوتر بين الطرفين في ثمانينيات القرن الماضي.
وفي مجال النقل، تم الحديث عن تعزيز تنقل المواطنين، والأهمية المشتركة لجسر “روصو”، والتوزيع المتوازن للشحن، والاستغلال الأمثل للبنية التحتية، وتوحيد معايير الرقابة ومكافحة التهرب الضريبي، وإلغاء ممارسة تفريغ الحمولة خلال لقاء مشترك سيعقد في روصو موريتانيا في شهر مارس/آذار المقبل.
وفي المجال الخاص، ترأس الوزيران طاولة مستديرة نظمتها الوكالة الموريتانية لترقية الاستثمارات (APIM) والوكالة السنغالية لتشجيع الاستثمارات والأعمال الكبرى (APIX)، بهدف التأكيد على العلاقة بين القطاعين العام والخاص. وقد أُعلن خلال اللقاء عن اتفاق بين الوكالتين يُعنى بتنظيم نسخة ثانية من المنتدى الاقتصادي الموريتاني – السنغالي في شهر أكتوبر 2025 بالعاصمة الموريتانية نواكشوط.
جاءت زيارة الوزير الأول السنغالي في 12 يناير والتي استمرت ثلاثة أيام لتعزز العلاقات المشتركة بشكل أكبر. وأشارت نتائج الزيارة الأخيرة إلى قرارات مشتركة تتعلق بتنظيم دورة سنوية بين البلدين برئاسة الوزيرين الأول الموريتاني والسنغالي، استنادًا إلى اتفاقية إنشاء اللجنة المشتركة للتعاون الموقعة في 14 يناير 1972 في داكار. كما تضمنت الزيارة أيضًا الدعوة إلى تكثيف اللقاءات بين الوزارات القطاعية لتعزيز التعاون وتشجيع المبادرات المشتركة، وتمكين حرية التنقل للأشخاص وتسهيل شروط الإقامة والاستقرار لمواطني البلدين، بالإضافة إلى التبادل الأمني في المجالات المشتركة، والسعي لإنجاح مشروع الطاقة “السلحفاة أحمييم الكبير” (GTA).
تعليقًا على التطور الأخير في العلاقة بين البلدين، يقول الدكتور سيدي محمد اجيد، أستاذ علم الاجتماع وعميد الدراسات العليا بجامعة العلوم الإسلامية في تصريح لإفريقيا برس: “إن العلاقات بين البلدين في أصلها ذات أبعاد استراتيجية وحضارية، وأن التفاعل بين الشعبين على مر التاريخ، رغم بعض الهزات، كان ينم عن حرص على تقوية وتعضيد الصلات، وحرص البلدين على تنميتها وتثمينها”.
ويشير ولد اجيد إلى أن هذه العلاقات “ضاربة في القدم” من حيث المسار التاريخي، وهي اليوم، حسب تعبيره، “ذات مقوماتها التي لا تخطوها العين سواء على المستوى الاقتصادي أو الثقافي أو الاجتماعي أو الروحي أو العلمي”. مضيفًا أنه رغم التحولات الكبيرة، فإنها “ولاشك تعززت في الفترة الأخيرة بسبب الشراكة في حقل الغاز، والذي جسد نقلة نوعية في هذا المجال”.
ويقول الدكتور سيدي محمد: “تتقاسم الدولتان نفس الفضاء الجيوسياسي، ونفس التحديات، سواء المرتبطة منها بالإرهاب والتطرف العنيف، أو المتعلقة بالتغيرات المناخية والتنمية الشاملة”.
وقال ولد اجيد: “الحكومة السنغالية الجديدة أخذت زمام المبادرة، والزيارة التي قام بها الرئيس السنغالي ورئيس وزرائه لاحقًا جسدت ذلك، إضافة إلى الاتفاقيات التي تم التوقيع عليها”.
ويقول الدكتور: “استثمار هذه العلاقة وتعزيزها وتهيئة الظروف المناسبة لها ضرورة اليوم”، ويضيف: “وأنا أرى أن المجتمعين الموريتاني والسنغالي، وقادة الرأي في البلدين، ورجال الأعمال، جميعهم يعيون ضرورة توطيد هذه الصلات في كل أبعادها، والعمل بشكل مستدام على حمايتها وتجنيبها العقبات التي يمكن – لا قدر الله – أن تؤثر عليها”.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن موريتانيا عبر موقع أفريقيا برس