عبد الله مولود
أفريقيا برس – موريتانيا. يتصاعد الجدل في موريتانيا هذه الأيام بعد نشر محكمة الحسابات تقريرها السنوي عن الفترة 2022-2023، وقيام رئيس المحكمة بتسليم نسخة من التقرير للرئيس ولد الشيخ الغزواني.
واندلع هذا الجدل الذي استغلته المعارضة بعد أن كشف التقرير عن اختلالات وتجاوزات خطيرة في التسيير المالي والإداري لعدد من القطاعات الحكومية، وسط دعوات سياسية وشعبية متباينة بين المطالبة بالمحاسبة والمتابعة القضائية والدعوة إلى ضبط النقاش العام حول ملف الفساد المالي الذي هو من أكثر الملفات تعقيدا.
وقد تجذر الفساد في الإدارة الموريتانية منذ نشأة الدولة، حيث كان مضافاً لحرب الصحراء السبب الأساسي في الانقلاب العسكري الذي أطاح بحكم الرئيس المؤسس مختار ولد داداه، أشهر الرؤساء محاربة للفساد، حيث جاء الانقلاب إثر تجريده لعدد من الموظفين السامين في قضايا فساد وسوء تسيير للمال العام.
ونقل عن رئيس محكمة الحسابات، احميده ولد أحمد طالب، تأكيده على أن المحكمة تنوي البدء في ممارسة الاختصاصات القضائية المتعلقة بالبت في أوضاع المحاسبين العموميين.
ووصف ولد أحمد طالب هذا الإجراء المقرر بأنه يدخل ضمن ما وصفه بمستجدات نوعية أقرتها المحكمة، مشيراً إلى أن من بين هذه المستجدات «الانخراط في مهمة جديدة تتمثل في تقييم السياسات العمومية لقياس أثرها وفعاليتها».
وتنوي محكمة الحسابات، في هذا الاتجاه الجديد، الاستماع إلى 32 من المحاسبين العموميين في أفق نهاية العام الجاري، ومحاكمة كل من يثبت في حقه ارتكاب مخالفات أو اختلالات في مهامه المالية، في خطوة تهدف إلى تعزيز الشفافية ومراقبة الأداء المالي للدولة.
واعتبر حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية (الإسلاميون)، الذي يتولى زعامة المعارضة، في بيان له، أن ما ورد في التقرير «يشكل جرس إنذار خطيرًا للغاية» يستدعي تحركًا عاجلاً من الحكومة، محملاً نظام الرئيس الغزواني «المسؤولية السياسية والأخلاقية والقانونية» عن استشراء الفساد وسوء الحوكمة.
وطالب الحزب «بـفتح متابعات قضائية شفافة ضد المتورطين في الاختلالات، واسترجاع الأموال المنهوبة، وحرمان المعنيين من الوظائف العامة، داعيًا البرلمان إلى تفعيل دوره الرقابي، ومحكمة الحسابات إلى ممارسة صلاحياتها كاملة بدل الاكتفاء بإعداد التقارير».
كما شدد البيان التأكيد على أن «أي تهاون في محاسبة المفسدين هو تفريط في المسؤولية وتهديد للسلم المجتمعي».
ودعا الحزب إلى «تفعيل الدور الرقابي للجمعية الوطنية ومساءلة الحكومة حول أوجه التقصير التي كشفها التقرير، بدل ما وصفه الحزب بـ «محاولات التلبيس وتضليل الرأي العام».
وأكد الحزب أن المعطيات الموثقة في التقرير «ليست سوى دليل إضافي آخر يؤكد ما نبه إليه الحزب سابقاً بشأن استشراء الفساد وسوء الحوكمة في العديد من الدوائر الحكومية، وعجز السلطة عن الوفاء بوعودها في مجال الشفافية والمساءلة».
ودعا الحزب إلى «تمكين محكمة الحسابات من ممارسة صلاحياتها الكاملة وإنزال العقوبات بحق المسؤولين عن التجاوزات، بدل الاكتفاء بإعداد تقارير توضع، حسب البيان، في «أدراج النسيان».
كما شدد الحزب على أن «أي تهاون من السلطة في محاسبة المفسدين يعد تفريطاً جسيماً في المسؤولية وتشجيعاً للمزيد من الفساد»، محذراً من «أن استمرار هذا النهج قد يشكل تهديداً لمستقبل الاستقرار والسلم المجتمعي في البلاد».
وختم حزب التجمع بيانه بالتأكيد على «أن المال العام أمانة لا يجوز المساس بها»، داعياً إلى تبني إصلاحات جذرية في منظومة التسيير العام بما يضمن بناء دولة المواطنة والعدالة والمساواة».
وفي المقابل، رحبت مبادرة «العافية أمونكه» غير الحكومية بنشر التقرير، معتبرة «أن الخطوة إشارة إيجابية نحو ترسيخ الشفافية والمساءلة».
لكن المبادرة حذرت في بيانها «من تحويل النقاش العام إلى فضاء للتشهير والاتهامات العامة»، مؤكدة «على ضرورة احترام مبدأ قرينة البراءة إلى حين صدور أحكام قضائية نهائية».
وأشارت إلى أن «الجدل الحاد على وسائل التواصل الاجتماعي قد يخدم المفسدين الحقيقيين الذين يختبئون وسط الضجيج، ويهدد بإشاعة مناخ من الشك والعنف».
ودعت المبادرة إلى «نقاش وطني مسؤول يميّز بين النقد البنّاء والتشهير، وإلى خوض معركة مكافحة الفساد بشكل عادل وشفاف ودائم، في إطار احترام القانون وضمان الحقوق»، مؤكدة «أن النجاح في هذه المعركة يتطلب معالجة الأسباب البنيوية والاجتماعية العميقة للفساد، مثل ثقافة الإسراف والعيش فوق الإمكانيات».
ويعكس التباين في ردود الفعل على التقرير الجديد الانقسام القائم في الساحة الموريتانية؛ بين تيار معارض يدفع نحو المحاسبة الفورية، وتوجه مدني يدعو إلى التدرج والتهذيب في النقاش العام حفاظًا على السلم والاستقرار الاجتماعي.
ورغم أن نشر التقرير يُعد استحقاقاً قانونياً، فإن صدوره المتأخر عن موعده المعتاد زاد من حدة الانتقادات، خاصة من جانب المعارضة التي رأت في نتائجه إدانة صريحة لأداء الحكومة في مجال محاربة الفساد.
ويُنتظر أن يثير التقرير الذي يتضمن تفاصيل دقيقة حول أوجه التسيير في مؤسسات حكومية عدة، مزيداً من الجدل في الساحة السياسية الموريتانية، خاصة مع تصاعد المطالب بفتح تحقيقات قضائية ومساءلة مسؤولين سابقين وحاليين قد يرد ذكرهم في خلاصاته.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن موريتانيا عبر موقع أفريقيا برس