قامو عاشور.. من بائعة سمك إلى نائبة في البرلمان الموريتاني

153
قامو عاشور: من بائعة سمك إلى نائبة في البرلمان الموريتاني
قامو عاشور: من بائعة سمك إلى نائبة في البرلمان الموريتاني

أحمد إمبيريك

أفريقيا برس – موريتانيا. في أحياء من الصفيح ميزتها الأبرز الفوضوية وهشاشة البناء، وانزياح الخصوصيات، وفي عاصمة تأخذ طريقها إلى الوجود المدني، حديثة العهد بماضي الاستعمار وأيام السيبة، وفي فترة زمنية بدء الزحف السكاني يغزوها نتيجة سنين الجفاف، في هذه التجربة المدنية البكر عاشت طفلة اسمها قامو بنت عاشور التي ولدت عام 1979 بمدينة روصو لأب تعود أصوله إلى المناطق الشرقية (تمبدغة)، قدم إلى مدينة لكوارب رفقة أخيه لعملهما بناءين (منيفرات) ضمن عمال مؤسسة تملكها أسرة أهل انويكظ، إحدى الأسر الثرية في موريتانيا..

الوالد عاشور ولد سالم ولد امبارك، كان عاملا بسيطا يروح ويغدو على أسرة فقيرة متواضعة. يرى في مهنة البناء سنداً يقيه وجه الزمن المكفهر، ويساعده على إعالة الأسرة وتوفير الأساسيات التي لم تكن يومئذ شيئا مذكورا بالمقارنة مع الحياة اليومية للأحياء الفقيرة أيام الناس هذه، تقول قامو: “كان أبي يعمل مع أهل انويكظ، وظل كذلك فترة إلى أقعده المرض، ولم تمهله الأيام حتى توفي تاركا للأسرة ألم الفقد وسيدةً تعيل أسرة من ثمانية أفراد”.

“والدتنا – تقول قامو- “هي ايسلمها بنت محمود تعمل بائعة سمك بــ (امسيد المغرب) تذهب من أول الصباح إلى حدود الساعة الثالثة ليلاً، فبعد بيع الكمية الموجودة عندها، تذهب مساء إلى الشاطئ لتعود بكمية جديدة تبيعها صباح الغد. هكذا ظلت توفر من خلال هذا العمل حاجيات الأسرة، ثم استجدت ظروف منعت الوالدة من مواصلة العمل وهي انشغالها بإرضاع أختي الصغيرة، ثم شاءت الأيام أن تترك الوالدة بيع السمك وتكتفي ببيع الخضار في عرفات قرب المستشفى الإيطالي (طب إيطاليا)، وكنا أيضا نشاركها المهنة، ونخلفها خلال ذهابها لشراء حصة اليوم من الخضار من سوق المغرب..إلى أن أقعدها المرض، وبقيت أنا وأختي جمال عاشور نتناوب على العمل؛ لي يوم معلوم ولها مثله، فكان ذلك سببا وراء تركنا الدراسة، نظرا لصعوبة المواءمة بينها والعمل.

كان نصيبنا من التعليم على مقدار ما تتيحه الحياة يومئذ، فأختي جمال شاركت في مسابقة ختم الدروس الإعدادية، أما أنا فتوقفت دراستي عند السنة الثالثة إعدادية.

تزوجت مبكرا في عمر 15 سنة، وأنجبت فبدأت حياتي تستقر في جو مختلف، تتقاسمه أعباء الأمومة ومسؤوليتها، ورعاية الأطفال في وسط فقير، ولم أفارق أهلي بل سكنت معهم.

في تلك المدة عملت في خياطة الأزياء النسائية (لملاحف)، وأحيانا كنت أعمل بائعة ملابس مستعملة (رباخة) وطورا في صالون لتزيين النساء.

وظلت الأحوال على تقلباتها تأخذني من عمل لآخر إلى أن شاءت الأقدار وشاركت في العمالة المستوردة إلى الممكلة العربية السعودية ضمن عاملات الخدمة المنزلية (بندانة)، ولبثت ثلاثة أشهر، أطلعت خلالها على طبيعة العقود المعدة للعمال والتي تنص على شراء إماء موريتانيات، مما يعبر عن مستوى رهيب من الاستغلال البشع للإنسان!. وقد صورت نسخة من العقد، هي الآن بحوزتي.

في مطلع العام 2006 عملت في شركة فرنسية لمعالجة النفايات وجمع القمامة بالعاصمة انواكشوط “بيزورنو”، براتب شهري قدره 2850 أوقية جديدة، تطور الأمر إلى أن وصل 4000 أوقية جديدة، لكن انخراطي لاحقا في النشاط الحقوقي المطلبي منعني من مواصلة العمل في الشركة.

العام 2009 كانت له ميزة خاصة بالنسبة لي، ففيه التحقت بالحركة الانعتاقية “إير، وقد جئت إلى مقرها يومئذ صحبة الوالدة بحثا عن حل لمشكلة معينة، فوقف معنا الرئيس بيرام الداه اعبيد وساندنا ومنذ تلك اللحظة بدأت علاقتنا بالحركة تنمو وتتطور، إلى أن قررت الانخراط لاحقا في صفوفها..

كان لقيام الحركة بحرق بعض الكتب الفقهية المالكية أو ما يُسمى بـ(المحرقة) مُنعرجا خطيراً في حياتي، ولحظةً حاسمةً في مساري النضالي، ففي تلك الليلة كانت جدتي أول من وصله الخبر من خلال أحد الجيرة، فذهبت مع أختي جمال بحثا عن القيادي محمد ولد ابريكه، وعابدين ولد سالم، والأخ خطري نستوضح الخبر، ونلتمس الحقيقة، ولما أخفقنا في تحصيل النفر الثلاثة عدنا أدراجنا. في أول الصباح بَاكَرْنا مقر الحركة في منطقة الرياض حيث أطلَعَنا الرفاقُ على الحقيقة.

بقيت في الحركة مناضلة في الصفوف الأمامية وشاركت ضمن الوقفات المختلفة أمام الوزرات والإدارات والساحات العامة، نرفع المطالب الكبرى التي نؤمن بها، في أوج صراع الحركة مع النظام والمجتمع.. ننادي قضايا لحراطين وندافع عنها بصوت عال من خلال المظاهرات والوقفات السلمية.

كان النظام لنا بالمرصاد يلاحقنا من حين لآخر، وقد جربت التوقيف والملاحقة يومها، وكسرت ذراعي وتم تشويهها من قبل الشرطة والآلة الأمنية للنظام، وحُملت مرة في حالة حرجة، وكنت في مراحل متقدمة من الحمل، وقد سقطت بعد الضرب المبرح على طفلي الذي أصيب بنزيف مدة ثلاثة أيام فارق بعدها الحياة رحمه الله.

ولم يتوقف الأمر على ذلك حتى أبعدتني الشرطة مع عدد من المناضلين إلى مدينة كيفة التي تبعد 600 كلم عن العاصمة انواكشوط، وقد ذقت إلى جانب إرهاق الرحلة وتعبها ألوانا من الإهانة والتنكيل طيلة ثمانية أيام قبل عرضنا على المحكمة في اليوم التاسع، وبعدها أطلق سراحنا، وتحملنا تكاليف العودة إلى العاصمة نواكشوط.

واصلت المسيرة إلى أصبحت رئيسة مكتب الحركة في عرفات، ورافقت الرئيس في جولاته المتعددة داخل مناطق مختلفة من البلاد.

في وسطي الاجتماعي الضيق لم أتلق تنكرا لخياراتي السياسية، وكنت الوحيدة إلى جانب أختي أحمل أفكار حركة “إيرا” الانعتاقية في حي كبير مترامي الأطراف، وكان يُشار إلينا بالإصبع يومها، فقد تفانينا في العمل الحركي وأعطيناه وقتنا كنا نذهب الثامنة صباحا أو التاسعة ولا نعود حتى الثانية بعد منتصف الليل.

عرض علي أسيادي السابقين فرصة عمل مؤسسة لخياطة ملابس الجيش، وهو ما رفضته لما فيه من مقايضة على مشروع آمنت به وتشربته، ورأيت فيه ذاتي.

مرشحة لمقعد في البرلمان الموريتاني

أعددت كرئيسة لمكتب الحركة في عرفات لائحة بأسماء المرشحين للبلدية ووضعت اسمي في ذيل اللائحة كعضو مكمل، وكانت الترشيحات النيابة من مهام الحزب ولا دخل لنا فيها كمناضلين ورؤساء مكاتب.

أذكر ذات يوم ناداني أحد المناضلين وهو الصحفي المهدي بالسيدة النائب، حسبتها مزحة على عادته ولم أحملها على محمل الجد، ثم تكرر ذلك من طرف شخصيات عدة، وفي أحد الأيام كلفني الأستاذ أحمد ولد حمدي بتحضير ملف معين ولم يفصح لي عن الأمر، إلى ناداني الرئيس بيرام الداه اعبيد وقال لي بالحرف الواحد: أنت مرشحة عن الحزب للنيابيات.

شعرت بغبطة وفرح كبيرين صاحبهما الحرج من مسؤولية كبرى لم أكن أفكر فيها من قبل، ولا خطرت لي على بال، إذ كنت أعد نفسي مجرد مناضلة في صفوف الحركة ضد الظلم والتهميش لا غير.

نَزَل عَلَيَّ هذا القرارُ فجأةً ومن حيثُ لم أحتسب، ولم أعدّ له عدة، لم تكن لدي أموالٌ لإقامة الفعاليات الانتخابية، ولا علاقاتي المحدودةُ كانت كفيلةً بتأمين ذلك، ولولا توفيقُ الله ثم عزم الرئيس وإصراره على تحمل تلك الأعباء، رغم تواضع إمكانات الحزب وقلة موارده، لازلت أتذكر بعض المساعدات التي دفعت بالحملة إلى الأمام منها السيارة التي تحمل تأجيرها الأخ المناضل نور الدين سمته، وأخرى وفرها الأخ المناضل عابدين ولد معطل ولد سالم، كما أرسل إليَّ أخي 15000 أوقية جديدة، ووالدتي شاركت بـ 9000 أوقية جديدة، وجمع أعضاء مكتب الحزب بـ”عرفات” مبلغا خصص لتأجير مقر للحملة.

أثناء التعبئة والتأسيس، اعتمدت على جهود متواضعة وبدائية، لكنها كانت كفيلة بصناعة الفارق، وقد تواصلت مع بعض المعارف، والأصدقاء وعلاقاتي القديمة، وبعض الشباب من المنضوين تحت مشروع الرئيس بيرام الداه اعبيد، وكانت مساندة رفقاتي ومعارفي في “الكزرة” مختلفة عن غيرها، فقد وقفوا إلى جانبي طيلة الحملة الانتخابية، وسهروا معي ورافقوني في كل محطاتها، فكانت حملة تحسيسية ناجحة بكل المقاييس.

تلقيت خبر الفوز في الانتخابات بارتياح شديد، غمرتني مشاعر مختلفة. كيف أقف غدا أمام من كانوا يعتبروني خادما، ولا يرون فيَّ إلا تابعا يبارك لهم نجاحهم، ويرضى منهم بالفتات والقشور.

أول يوم لي في البرلمان أتذكره جيدا، حيث ذهبت مع زميلاتي صبيحة ذلك اليوم في أول الوقت، فوصلنا الجمعية الوطنية قبل الجميع، وجاء الحارس بعدنا، وأثناء الانتظار قررنا الذهاب إلى أحد المقاهي لتناول الفطور، وفي الساعة العاشرة عدنا ثانية إلى مبنى البرلمان فوجدنا النواب قد حضروا لتوهم.

بعد مجيئنا إلى البرلمان استقبلني بعض النواب باستنكار صريح كيف لعبدة جاهلة أن تصل البرلمان وتشاركهم مساءلة الحكومة وتمثيل الشعب الموريتاني، كما استقبلني آخرون رفقة الرئيس بيرام بدعوى أن القبيلة تجمعنا، فقلت: “القبيلة لم ترشحني وإنما رشحني هذا الحرطاني”.

واجهت الكثير من التعليقات السلبية، والتنمر والتسفيه، لكني كنت واثقة من نفسي، معتدة بثقة الشعب التي منحني، وعقدت العزم على الوفاء لها ما استطعت، وقد زرت الكثير من مناطق موريتانيا في سبيل الاطلاع على مشاكل المواطنين والسعي عند الجهاة المعنية لحلها.

صممت خلال وجودي في البرلمان على أن أكون قريبة من المواطن الموريتاني، وأن أسهر على تعليم أبنائي ومنحهم ما حُرمت منه، وهو العلم. ورغم أنني تعرضت للضيق في عائلتي مرات عديدة، إلا أنني، ولله الحمد، نجحت كثيرًا في تجاوز تلك العقبات والتغلب عليها.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن موريتانيا عبر موقع أفريقيا برس