هل تمر العلاقات الموريتانية المغربية بـ”أزمة صامتة” أخرى؟

51
هل تمر العلاقات الموريتانية المغربية بـ
هل تمر العلاقات الموريتانية المغربية بـ "أزمة صامتة" أخرى؟

مصطفى واعراب

أفريقيا برس – موريتانيا. يلخص أحد كُتّاب الرأي الموريتانيين وضعية بلاده، بالقول إن « موريتانيا تعاني من لعنة الجغرافيا التي جعلتها محاذية للعملاقين المتصارعين في المنطقة المغاربية، المغرب والجزائر. وهو ما يحتم عليها إتقان فن الرقص على رؤوس الأفاعي، وأي خطوة غير مدروسة قد تكلفها كثيرا، وتعرضها لإغضاب أحد الجارين اللدودين». وفي قلب الصراع بين المغرب والجزائر توجد قضية الصحراء، حيث يجري توظيفها، في حرب كسر العظام المتعددة الأبعاد والجبهات القائمة بين البلدين.

وعلى ذلك، لا عجب في أن نجد الجبهة إياها والجزائر، في كل مرة، وراء أغلب “الأزمات الصامتة” التي تندلع من وقت وآخر بين المغرب وموريتانيا. وآخر هذه الأزمات التي تتداولها المنابر والمنتديات على الشبكات الاجتماعية، وصمتت عنها الحكومتان، اندلعت قبل أسابيع عندما جرى استقبال مبعوثَين للبوليساريو بحفاوة وتغطية إعلامية واسعة، اعتبرها المغاربة “استفزازية”.

فما الذي حدث منتصف الشهر الماضي، وأثار غضبا مغربيا كبيرا من “الموقف الرمادي”، لموريتانيا من قضية المغرب الأولى؟ ولماذا تتكرر أصلا الأزمات غير المعلنة بين البلدين؟ وما علاقتها بمحاولة الجزائر استمالة الموقف الموريتاني من خلال إقامة مشاريع مشتركة وتوقيع اتفاقات أمنية واقتصادية، كما فعلت مع تونس؟ وما تأثير الاهتمام الأوروبي والأمريكي والروسي والإيراني والخليجي والإسرائيلي المتزايد بموريتانيا، بعد الاكتشافات الواعدة للغاز بسواحلها، على التنافس المحتدم حولها بين الجزائر والمغرب؟

في ظرف أسبوع واحد، خصصت نواكشوط استقبالين رسميين لممثلي جبهة البوليساريو، منتصف شهر مارس/أذار الماضي. كان أحدهما مع الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني، الذي التقى بمسؤول في الجبهة حمل إليه رسالة خطية من زعيم الجبهة.

لكن وكالة الأنباء الموريتانية الرسمية نقلت في قصاصاتها، أن “المستشار بالرئاسة، المكلف بالشؤون الدبلوماسية، محمد سالم ولد السالك، سلم رسالة خطية لرئيس الجمهورية، خلال استقبال خصه به، وجرى خلاله استعراض علاقات التعاون بين البلدين الشقيقين”. وهو ما اعتبره نشطاء مغاربة وجمعيات من المجتمع المدني، في تدوينات وبلاغات احتجاج ضجت بها المواقع والشبكات الاجتماعية، يمثل “استفزازا” و”سابقة” في لغة المؤسسات الرسمية للجارة الجنوبية للمملكة، التي كانت تسمي زعيم الجبهة غالبا بـ “الأمين العام لجبهة البوليساريو”.

وفي ما يبدو رسالة واضحة من الجانب الموريتاني، مفادها أن نواكشوط حريصة على البقاء على الحياد من طرفي النزاع في ملف الصحراء المغربية، وأنها تسعى إلى المحافظة على علاقات طبيعية مع كل من المغرب والجزائر، أعقب استقبال وزير الشؤون الخارجية والتعاون والموريتانيين في الخارج محمد سالم مرزوك، لموفد من جبهة البوليساريو، اجتماع عقده الوزير الموريتاني نفسه مع السفير المغربي بنواكشوط؛ في سياق التحضير لقمة أعمال الدورة الـ49 لمجلس وزراء خارجية منظمة التعاون الإسلامي التي احتضنتها نواكشوط يومي 16 و17 مارس الماضي.

إن ما جرى ويجري لا يمكن فهمه من دون العودة، ولو بعجالة، إلى تاريخ النزاع المفتعل حول الصحراء الغربية المغربية.

موريتانيا بين الجزائر والمغرب

منذ استقلالها في 1962، لم تساند الجزائر لا المغرب ولا المقاومين الصحراويين ولا موريتانيا، على تحرير إقليم الصحراء الغربية من قبضة الاحتلال الإسباني، لا ديبلوماسيا ولا عسكريا. لكن في 1975، بينما كانت مدريد تستعد للخروج من الإقليم، دخل المغرب إلى جانب موريتانيا في مفاوضات مع الدولة المحتلة من أجل خروجها من الصحراء الغربية. وهي المفاوضات التي انتهت باتفاق مدريد الثلاثي (إسبانيا-المغرب-موريتانيا)، الذي قضى بإحداث إدارة ثلاثية للإقليم انتهت بجلاء إسبانيا عنه في نوفمبر/تشرين الثاني 1975، وتقسيمه بين المغرب (الذي استرجع النصف الشمالي من الصحراء الغربية “الساقية الحمراء”) وموريتانيا (التي حصلت على النصف الجنوبي “وادي الذهب”). حينها فقط قلبت الجزائر الطاولة على البلدين، واعتبرت ذلك “احتلالا جديدا للإقليم”، وأشعلت حربا ضروسا عن طريق جبهة البوليساريو في المنطقة سنة 1975، ضد الجارين الشقيقين.

بلغت أوجها بهجوم على العاصمة نواكشوط، في يونيو 1976، قُتل خلاله مؤسس جبهة البوليساريو وقائدها مصطفى الوالي السيد.

لقد “شكلت تلك الحرب قطيعة بين موريتانيا والجزائر، يقول الكاتب الموريتاني محمد سالم ولد مولاي أحمد، وأدت في الوقت ذاته إلى تحالف استراتيجي بين موريتانيا والمغرب، استمر إلى أن غاية إطاحة مجموعة من الضباط بنظام الرئيس المختار ولد داداه في 10 يوليو/تموز 1978، بمبرر العمل على إنهاء الحرب. فدخل الجيش الموريتاني في مفاوضات مع جبهة البوليساريو برعاية الجزائر، التي كانت الخصم والحكم في نفس الوقت، انتهت بإجبار العسكر على الاعتراف بالجمهورية الصحراوية، والانسحاب من إقليم وادي الذهب سنة 1979، دون أن تستطيع الجزائر ولا جبهة البوليساريو ملء الفراغ الذي خلفه خروج موريتانيا، وهو ما استغله المغرب لاسترجاع كامل الإقليم”. ومنذ ذلك الوقت وموريتانيا تعلن الحياد في النزاع حول إقليم الصحراء الغربية المغربية”.

وأقامت الأنظمة العسكرية المتعاقبة على حكم موريتانيا بعلاقات شد وجذب مع المغرب، توجت بقيام نظام الرئيس محمد خونا ولد هيدالة بقطع العلاقات الدبلوماسية معه، في أعقاب فشل محاولة انقلابية ضده في 16 مارس/آذار 1981 اتهم المغرب بتدبيرها. واستمرت القطيعة إلى ما بعد الإطاحة بولد هيدالة في 12 ديسمبر/كانون الأول 1984، على يد العقيد معاوية ولد سيد أحمد الطايع الذي حكم البلاد طيلة عقدين من الزمن. وشهدت فترة حكمه تقلبات في العلاقة مع البلدين، إذ سارع في البداية إلى إعادة العلاقات الدبلوماسية مع المملكة، وزيارتها سنة 1985.

لكن اندلاع حرب الحدود بين موريتانيا والسنغال (1989-1991)، أعاد العلاقات الموريتانية المغربية إلى المربع الأول، بسبب ما اعتبره الموريتانيون موقفا مغربيا “ضبابيا” من الحرب، ما حمل نظام الرئيس ولد الطايع أن يُيمّم وجهه صوب الجزائر. وتواصل الفتور في العلاقات بين المملكة وموريتانيا إلى غاية تولي الملك محمد السادس مقاليد الحكم في سنة 1999، الذي تزامن مع فترة خروج الجزائر منهكة من “العشرية السوداء”، فعاد الدفء إلى العلاقات بين الرباط ونواكشوط من جديد.

ومرت موريتانيا بعدها بفترة عدم الاستقرار السياسي، انتهت بانقلاب قاده الجنرال محمد ولد عبد العزيز سنة 2008، الذي سرعان ما أظهر ميلا واضحا نحو الجزائر والبوليساريو، وأدار ظهره للمغرب الذي تلقى فيه تكوينه العسكري وتربطه به علاقات قرابة ومصاهرة.

ووفقا للكاتب الموريتاني محمد سالم ولد مولاي أحمد، فإن سبب “الفتور في علاقة موريتانيا مع المغرب يعود إلى كون أغلب الرؤساء العسكر السابقين ينحدرون من شمال موريتانيا المتعاطف مع البوليساريو، بحكم العلاقات القبَلية والجغرافية. ورغم أن الرئيس (العسكري) الحالي محمد ولد الغزواني، ينتمي للمنطقة الشرقية، فإنه لا يبدي هو الآخر كبيرَ ود للمغرب”. فقد سبق للغزواني أن قام بزيارة الجزائر أكثر من مرة، منذ وصوله إلى الرئاسة في صيف 2019، عادة ما يوليها الجانبان أهمية بالغة، ويرفقانها بدعاية إعلامية كبيرة. وهو ما يعني أن العسكر في موريتانيا يرتاحون أكثر لنظرائهم، من عسكر الجزائر”.

تمسك بـ “المنطقة الرمادية”

منذ خروجها من نزاع الصحراء وانسحابها من إقليم وادي الذهب سنة 1979، أي منذ 44 عاما، ظلت موريتانيا تُشهر للجزائر وللمغرب موقفها بـ “الحياد” من النزاع. لكن مسألة الالتزام فعليا بالحياد غاية في الصعوبة. فسكان شمال موريتانيا ينتمون إلى المكون العِرقي نفسه لسكان الصحراء الغربية (المسمى “البِيضان”)، أي القبائل العربية الحسانية التي استوطنت أقصى بلاد المغرب العربي منذ قرون. وهو ما يجعل الصحراويين يرتبطون بعلاقات خاصة مع الموريتانيين، سواء تعلق الأمر بالصحراويين القاطنين بأراضي الصحراء الغربية الخاضعة إلى سلطة المغرب، أو القاطنين منهم في المناطق الخاضعة للبوليساريو بمخيمات الصحراويين في ولاية تندوف بجنوب غرب الجزائر.

لقد نتج عن هذا التداخل البشري أن جزءا من ساكني مخيمات تندوف موريتانيون، بينهم قادة كبار في جبهة البوليساريو نفسها ووزراء في “دولتها”. ولديهم امتدادات (من الأقارب والأصهار وأبناء العشيرة والقبيلة) بالداخل الموريتاني (وفي جنوب المغرب أيضا) من مختلف المستويات والمناصب. ويدفع ذلك موريتانيا إلى الارتكان في منطقة رمادية، كمنطقة أمان تضمن لها عدم إثارة قلاقل على حدودها الشمالية والشمالية الشرقية، وتفادي خسارة أي من الجانبين المتصارعين (المغرب والجزائر).

لكن الالتزام فعليا بـ “الحياد الإيجابي”، كما تسميه نواكشوط، أمر صعب تحقيقه للغاية، ومع ذلك من الصعب اتهامها بأنها تحابي طرفا على حساب طرف آخر.

فمثلا، رغم أن نواكشوط تعترف بدولة البوليساريو، منذ 44 عاما، إلا أنها لم تسمح حتى اليوم بإقامة سفارة لها فوق التراب الموريتاني. ورغم أنها كانت تنظر بريبة إلى تحركات الجيش المغربي قرب حدودها الشمالية، إلا أنها لم تخف تذمرها من قيام عناصر تابعة للبوليساريو في نوفمبر/تشرين الثاني 2020، بقطع الطريق بمعبر الكركرات الذي يربطها بالصحراء، وتمر عبره عشرات الشاحنات الثقيلة يوميا، تنقل إليها ما يقارب 660 ألف طن سنويا من مختلف السلع: خضر وفاكهة وسكر وزيت ودقيق وتوابل، وسواها من المنتجات المغربية الحيوية. بل إن موريتانيا رحبت حينها بقيام الجيش المغربي بتدخله الأمني لتحرير معبر الكَركَرات، ومنع أتباع البوليساريو من التسلل عبره إلى المحيط الأطلسي. وسارعت إلى التنسيق مع الجانب المغربي لأجل تشغيل المعبر ضدا على رغبة الجزائر والبوليساريو. كما منعت السلطات الموريتانية مسلحي الجبهة من التسلل إلى مناطقها الشمالية كما كانوا يفعلون بكامل الحرية، وأعلنتها مناطق عسكرية مغلقة ردا على تهديدات الجبهة بالعودة إلى الحرب. وهو ما قوض أي إمكانية لاستعمال الأراضي الموريتانية، من طرف الجبهة، لشن أية أعمال عدائية ضد المغرب.

ولذلك فإنه قد يكون لقادة الجارة الجنوبية للمغرب العسكريين “هوى شخصي”، نحو زملائهم العسكريين الذين يحكمون الجزائر، إلا أن مصالح نواكشوط هي بالمنطق أكثر أهمية مع المغرب، الذي استثمر المليارات في قطاعات استراتيجية بموريتانيا، على غرار البنوك، والاتصالات، والمحروقات، والمناجم، والصيد البحري، والمياه المعدنية، وغيرها…

وبالعودة إلى “الحادث” الأخير الذي يروج أنه أشعل أزمة جديدية كبرى بين المغرب وموريتانيا، يمكن التأكيد على أنها ليست المرة الأولى التي يجري فيها استقبال مبعوثين لجبهة البوليساريو بحفاوة على أعلى مستوى بموريتانيا. ومهما تكن “التجاوزات” التي تخللته، فإنه لا شيء تغير في الموقف الموريتاني حتى الساعة.

لكن، ينبغي بالمقابل تفهم كون هذه الأخيرة في وضع جيوسياسي حساس للغاية. فموريتانيا دولة صحراوية مترامية الأطراف تزيد مساحتها عن مليون كيلومتر (أكبر من مساحة المغرب)، بينما جيشها صغير يبلغ حوالي 30 ألفا فقط وإمكانياته متواضعة. ومن المعجز أن تتمكن هذه البلاد القليلة السكان (حوالي 4,6 مليون نسمة)، والمنتمية إلى مجموعة دول الساحل والصحراء (سين صاد) المضطربة، من الحفاظ على استقرارها. فموريتانيا تربطها حدود شاسعة مع دولة مالي، البلد المجاور الذي يشهد تمردات واسعة النطاق، والذي ينفتح بدوره على دول الساحل الأخرى (بوركينا فاسو والنيجر) التي تعاني انتشارا كبيرا للجماعات المسلحة، ولعصابات التهريب العاملة في مجال تجارة المخدرات والبشر والسلاح…

وبالتالي، ليس في مصلحة لا موريتانيا ولا جيرانها ولا حتى العالم أن تضطرب الأوضاع فيها. ويكفي أن يتفهم الجميع أن حيادها في نزاع الصحراء، مهما بدا منقوصا، فإنه يخدم مصالح الجميع.

أهمية جيواستراتيجية متزايدة

إذا كان المغرب يصدر ومنذ عقدين من الزمن سلعه برا نحو موريتانيا (وغرب أفريقيا عبر موريتانيا)، عبر معبر الكركرات الاستراتيجي، وتربطه بها العديد من الاتفاقيات التجارية والأمنية والعسكرية، وفي 20 سبتمبر/أيلول 2022 انعقدت الدورة الثانية للمنتدى الاقتصادي المغربي الموريتاني بمدينة الدار البيضاء، بحضور نحو 140 رجل أعمال موريتانيا.. فإن الجزائر وقّعت مع موريتانيا 26 اتفاقية في 14 سبتمبر 2022، بعدما تم افتتاح أول معبر حدودي بينهما في 2018 فقط، لينافس معبر الكركرات.

كما قرر البلدان تشييد طريق بين مدينتي تيندوف الجزائرية والزويرات الموريتانية، على طول مئات الكيلومترات وسط الصحراء. وتتولى الجزائر تمويله وإنجازه وتوفير مختلف الخدمات على طوله بما فيها الإضاءة بالطاقة الشمسية، ومحطات الوقود.

لكن الأهم من ذلك هي دعوة الجزائر موريتانيا لبناء خط أنابيب لنقل الغاز، يربط حقول الغاز الموريتانية بشبكة أنابيب الغاز الجزائرية بما يسمح بتصديره إلى أوروبا. بينما تعتبر موريتانيا من الدول الـ 13 المنخرطة في مشروع أنبوب الغاز الأفريقي، الذي ينتظر أن ينقل صادرات غاز نيجيريا إلى أوروبا مرورا بالمغرب.

وبعيدا عن اكتساء موريتانيا أهمية كبرى في التنافس الاستراتيجي بين الجزائر والمغرب، فإنها باتت كذلك في بؤرة اهتمام متزايد أوروبي وأمريكي وروسي وإيراني وخليجي وإسرائيلي، بعد الاكتشافات الواعدة للغاز بسواحلها. ومن مظاهر ذلك، أنه قد توالت على العاصمة الموريتانية نواكشوط، خلال الأشهر القليلة الماضية، زيارات مسؤولين كبارا أمريكيين، وأوروبيين، وروس، وإيرانيين، وصينيين، وأتراكا… فضلا عن توارد أخبار تتحدث عن بلوغ مفاوضات إسرائيلية-موريتانية درجة متقدمة، وترشح نواكشوط لأن تكون ضمن الدفعة الجديدة القادمة من العواصم العربية المطبعة مع تل أبيب.

وهذا السر في هذا الاهتمام المتزايد بموريتانيا، من القوى الإقليمية والدولية والشركات العالمية، لم يعد ينحصر فقط في أهميتها الاستراتيجية في إطار الحرب على الإرهاب بمنطقة الساحل، حيث تعتبر من أهم دول منطقة الساحل والصحراء (سين صاد) الخمس، وأكثرها نجاحا في محاربة المجموعات المسلحة والعصابات.. ولا فحسب في الموقع الاستراتيجي لموريتانيا الرابط بين دول المغرب العربي والمجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا، الذي يجعلها محل تنافس بين الجزائر والمغرب، على طرق التجارة بين المغرب العربي وغرب إفريقيا، باعتبارها الطريق الأقرب والأكثر أمنا لتصدير سلعهم نحو دول غرب أفريقيا المطلة على المحيط الأطلسي وخليج غينيا.. بل تزايدت الأهمية الاستراتيجية أيضا بالنظر إلى الأهمية الكبرى التي باتت تمنحها إياها الاستكشافات الغازية الأخيرة في مياه المحيط الأطلسي، والاستثمارات الأوروبية المتهافتة على موريتانيا في قطاع إنتاج الهيدروجين الأخضر من الطاقات المتجددة.

وهكذا تتحدث بعض التقديرات عن احتياطيات موريتانية هائلة مكتشفة من الغاز الطبيعي، تقدر بـ 100 ترليون قدم مكعب ما يجعلها في المرتبة الثالثة إفريقيا، بعد نيجيريا (207 ترليون قدم مكعب)، والجزائر (159 ترليون قدم مكعب). كما يفوق احتياطي الغاز الطبيعي في موريتانيا نظيره الليبي (البالغ نحو 55 ترليون قدم مكعب)، والمصري (63 ترليون قدم مكعب).. بحيث من المنتظر أن يتم بيع أول شحنة من الغاز الموريتاني نهاية العام الجاري.

على الرغم من أن موريتانيا خرجت قبل حوالي 10 سنوات من مجموعة الـ 50 دولة الأكثر فقرا في العالم، إلا أنها لم تتعافَ بعد من تأثيراته الثقيلة. فناتج البلاد الداخلي الخام السنوي في حدود 9 مليار دولار، وأهم مصادره هي خام الذهب والحديد والسمك بالأساس، وهي ثروات تستغلها شركات أجنبية. وعلى الرغم من الاستكشافات الطاقية الواعدة، إلا أن موريتانيا لا تمتلك ما يلزم من مال لاستثمار مليارات الدولارات في استخراجه، وبناء مصانع لتسييله وتخزينه وتصديره عبر موانئ وسفن خاصة، كما فعلت قطر في منتصف تسعينات القرن الماضي.

وللذلك من المرجح أن تضطر موريتانيا للاعتماد على الاستثمارات الأجنبية للشركات المتعددة الجنسيات، خاصة منها البريطانية والأمريكية والفرنسية. وهو ما من شأنه أن يقلص مداخيل موريتانيا في وقت تبحث البلاد عن موارد تساعدها في الحد من تفشي الأمية (52 % من السكان)، ومحاربة الفقر (31 % من السكان)، وتسمح لها بإقامة بنى تحتية وعمرانية حديثة وتنويع اقتصادها.

لا وجود لأزمة بين موريتانيا والمغرب

محمد سالم عبد الفتاح، رئيس المرصد الصحراوي للإعلام وحقوق الإنسان

بالنسبة إلى رئيس “المرصد الصحراوي للإعلام وحقوق الإنسان” محمد سالم عبد الفتاح، فإنه لا وجود لأية أزمة بين المغرب وموريتانيا. بل إنه يرى على العكس من كل ما يُثار حاليال من طرف نشطاء مغاربة والإعلام الجزائري، بأن موريتانيا تعترف “عمليا وضمنيا” بسيادة المغرب على الصحراء. لنتابع قراءة المحلل السياسي الصحراوي المغربي للمواقف الموريتانية، من خلال الحوار التالي الذي أجراه مع موقع “أفريقيا برس”..

مرة أخرى، تجتاز العلاقات بين موريتانيا والمغرب “أزمة صامتة”، ومرة أخرى، جبهة البوليساريو هي السبب.. لكن الأزمة الأخيرة حملت متغيرات مقلقة. ففي ظرف أسبوع واحد، خصصت نواكشوط استقبالين رسميين لممثلَي جبهة البوليساريو. ونقلت وكالة الأنباء الموريتانية الرسمية أن الرئيس الغزواني تسلم رسالة من رئيس البوليساريو، الذي وصفته قصاصتها بـ”فخامة الرئيس”؛ وهي سابقة في المؤسسات الرسمية للجارة الجنوبية للمملكة، إذ كانت تسمي زعيم الجبهة غالبا بـ “الأمين العام لجبهة البوليساريو”. كما وصفت وكالة الأنباء الرسمية مبعوث الجبهة سالم ولد السالك بـ “معالي الوزير، المستشار بالرئاسة، المكلف بالشؤون الدبلوماسية”، ووصفت ما يسمى “الدولة الصحراوية” بـ “البلد الشقيق”.. هل نحن إذن أمام تغير في اللغة، يكشف تغيرا في الموقف الرسمي الموريتاني من النزاع حول الصحراء؟

لا شكل في أن العلاقات المغربية الموريتانية تعيش على وقع العديد من الإكراهات، أهمها تلك المواقف الرسمية الموريتانية الموروثة من حقب أنظمة ساقة، سيما منذ الانقلابات العسكرية التي عاشتها موريتانيا بين نهاية عقد السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن الماضي. والتغيرات التي طرأت على خيارات موريتانيا في ما يتعلق بالاستقطاب بين المغرب تارة، والجزائر تارة أخرى، منذ انسحابها من نزاع الصحراء في العام 1979.

لكن من جانب آخر، أنا أختلف مع التقييم الوارد في سؤالك، لكوني لا أرى أن هناك حاليا أزمة في العلاقات الموريتانية المغربية. ثم دعني أقول إنه حتى استعمال التوصيفات التي ذَكرتَها، من “فخامة الرئيس الصحراوي” و”معالي الوزير الصحراوي” لا أعتقد بأنها بالأمر الجديد في علاقة موريتانيا مع جبهة البوليساريو. فالموريتانيون ظلوا يتوارثون موقف الاعتراف بالجبهة، منذ ثمانينيات القرن العشرين، ويستعملون لغة تعكس هذا الاعتراف بهذا الكيان. وبالتالي لا أرى أن الزيارة الأخيرة لمسؤولَي البوليساريو حملت جديدا في الموقف الموريتاني من النزاع.

يرى مراقبون أن الجزائر تمارس ضغوطا على موريتانيا، لجرها إلى الاصطفاف وراء موقفها من الملف الصحراوي معتمدة على رصيد دعمها لهذا البلد عسكريا واقتصاديا وماليا، لمحاصرة المغرب.. هل تحذو نواكشوط حذو تونس، علما أن البلدين (تونس وموريتانيا) مختلفين؟

من بين الإكراهات الأخرى التي تواجهها موريتانيا في علاقاتها مع دول الجوار، هناك الابتزاز الذي تمارسه عليها الجزائر من خلال توظيفها لمنح البترودولار للتأثير في صانع القرار الموريتاني. إلى جانب ضغط الجزائر بملفات ترتبط بتضعضع الوضع الأمني على الحدود الموريتانية الشمالية مع مالي، وأيضا من خلال توظيف جبهة البوليساريو في محاولة زعزعة الحالة الأمنية في شمال موريتانيا.. إلى جانب توظيف الأنشطة غير القانونية المتعلقة بعصابات الجريمة المنظمة التي توظفها الاستخبارات الجزائرية في هذا السياق.

وما مدى تأثير هذه الضغوط والإكراهات على صناع القرار في موريتانيا؟

على الرغم من كل تلك الإكراهات، يظل الموقف الرسمي الموريتاني متشبتا بموقف الحياد الإيجابي في نزاع الصحراء، وداعما لجهود الأمم المتحدة لحل النزاع. فضلا عن محاولات موريتانيا سابقا للعب دور الوساطة، بحكم قربها من هذا النزاع، وأيضا بحكم كونها أحد أطرافه التي تشارك في الموائد المستديرة، التي جرى تنظيمها بإشراف من مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى الصحراء.

أما ميدانيا، فقد ظلت موريتانيا أقرب إلى المغرب بكثير. وعبرت عن ذلك بمواقفها الرافضة لتواجد جبهة البوليساريو بالمنطقة العازلة، إبان اندلاع أزمة الكَركَرات، حيث صرحت الحكومة الموريتانية بواسطة الناطق الرسمي باسمها، برفضها لأي تواجد للبوليساريو في المعبر الحدودي للكَركَرات. كما باشرت نواكشوط تنسيقا أمنيا مع المغرب عقب تحريره للمعبر في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2020 من عناصر جبهة البوليساريو، ضدا على رغبة الجزائر وصنيعتها (البوليساريو)، اللتان كانتا تعتبران المعبر الحدودي مجرد “ثغرة” غير شرعية بحسب الدعاية الانفصالية.

لكن الأهم هو مباشرة موريتانيا لتعزيز قدراتها العسكرية في مناطقها الشمالية، عقب إعلان البوليساريو عن تنصلها من وقف إطلاق النار مع المغرب، ردا على تحرير هذا الأخير لمعبر الكَركَرات في نوفمبر/تشرين الثاني 2020، حيث عكفت موريتانيا على تسيير دوريات عسكرية بالمنطقة، وبالتالي قوضت محاولات البوليساريو لاستخدام الأراضي الموريتانية لشن هجمات ضد المغرب، كما كانت تفعل الجبهة خلال سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين.

لكن الإعلام الجزائري وحتى بعض النشطاء المغاربة، يرددون بأن ثمة قضايا خلافية كبرى بين الرباط ونواكشوط، نظير منطقة الكَويرة؟

رغم وجود بعض الملفات المؤجل البت فيها بين البلدين، من قبيل ملف “الكَويرة”، إلا أن التطورات التي يشهدها ملف نزاع الصحراء، سواء على الصعيدين السياسي والديبلوماسي والمتعلقة بتغير الموقف الأممي الذي بات يتقاطع مع المقترح المغربي بمنح الحكم الذاتي لإقليم الصحراء، أو تلك التطورات التي طالت معبر الكَركَرات الحدودي بين البلدين الذي لم يعد به أي تواجد يذكر للبوليساريو، إلى جانب الأدوار التي بات يقوم بها المغرب في عمقه الأفريقي، من قبيل دوره في تحقيق الأمن الغذائي غرب أفريقيا، التي من بينها موريتانيا.. وأيضا المشاريع والاستثمارات الاستراتيجية الهامة، التي تخص الأمن الطاقي من خلال أنبوب نقل الغاز من نيجيريا إلى أوروبا عبر المغرب وموريتانيا… هذه التطورات تصب جميعها في اتجاه مراجعة الموقف الموريتاني، حتى ينسجم مع الواقع الجديد للعلاقات المغربية الموريتانية. واقع المواقف العملية الموريتانية التي تعترف بالسيادة المغربية على الصحراء، عمليا وضمنيا، من خلال عديد الشراكات الاستراتيجية التي باتت تجمع الجانبين.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن موريتانيا اليوم عبر موقع أفريقيا برس