ملف: الثقافة العربية واختبار فلسطين… ما العمل؟ (1)

3
ملف: الثقافة العربية واختبار فلسطين... ما العمل؟ (1)
ملف: الثقافة العربية واختبار فلسطين... ما العمل؟ (1)

أفريقيا برس – موريتانيا. في وقت يرتكب فيه كيان المستعمرة الصهيونية جرائم إبادة مستمرّة في فلسطين، يمكن مقارنتها بأكبر فظائع القرن العشرين، بغطاء أميركي وأوروبي، بعد هزيمته العسكرية أمام شجاعة الإنسان الفلسطيني المقاوم في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، والتي رأت فيها الشعوب العربية بشائر تحرير وحرية؛ ماذا يمكن أن تفعل الثقافة العربية للقضية الفلسطينية؟ كيف تُصبح الثقافة أداة تحرُّر وتحرير للأرض والإنسان؟ وكيف يمكن أن تقاوم الثقافة العربية هيمنةَ المشروع الصهيوني على العالم العربي من خلال التطبيع والترسانة العسكرية والسيطرة على الإعلام والدعم الأميركي والغربي، وأي أدوات نمتلك؟

شاركنا في “العربي الجديد” هذه الأسئلة مع كتّاب ومثقّفين عرب، في محاولة تفكير جماعي بما يمكن للثقافة العربية أن تفعله الآن – وفي لحظات مفصلية قادمة – في طريقها إلى التحرّر والعدالة الاجتماعية وإنهاء الوقائع الاستعمارية والاستبدادية.

نجوان درويش

(القدس المحتلّة)

محمد بنّيس: اختيار ثقافة المقاومة

التعاطُف النبيل مع “طوفان الأقصى”، الذي عبّرت عنه الشعوب العربية، صيحةٌ من أعماق النفوس الحرّة، اسمُها فلسطين. في أصداء الصيحة تجاوُبٌ مع مشروع التحديث الثقافي الذي كان، منذ القرن التاسع عشر، متواصلاً مع مشروع الحرية والتحرُّر، حسب الأوضاع والمعطيات الخاصّة بكلّ منطقة عربية. ثم جاءت نكسة 1967 بثقافة نقدية، حالمة، تُعيد النظر في مسلَّمات ومُحدِّداتٍ، غايتُها ضخّ دماء جديدة في فكرة التحديث الثقافي، التي أصبح مركزها القضية الفلسطينية. كانت ثقافة مواجهة، لثلاثة عقود. ورغم ما عرف فيها المثقّفون النقديون من أشكال العذابات والمنافي، فإنّ ما أنتجوه خلق حالة عربية من الوعي النقدي.

كلُّ ذلك أخذ ينأى ويتفسّخ مع الغزو الأميركي للعراق وبروز العولمة. ولعلّ مراجعة وضعية الثقافة العربية تجعلنا نُلاحظ أنها نسيت السؤال كما نسيت النقد. أمّا إعادة بناء نموذج الارتباط الثقافي بالقضية الفلسطينية فلم تعُد تسمح بإدراك المحدِّدات المطلوبة في الثقافة. لهذا استقبلتُ هذا النداء للتفكير، في الذي يمكن أن تكون عليه صلة الثقافة العربية مع القضية الفلسطينية، بما هو استجابة لحلم يشدّنا إليه، حلمٌ أو مستحيل.

أُلخّص وجهة نظري في الملاحظات التالية: السؤال عن الذي يُمكن أن تفعل الثقافة العربية للقضية الفلسطينية هو: “ما العمل؟”. سؤال له غوايته، لِما يختزن من دلالات في التاريخ السياسي الحديث. كلُّ مثقَّف نقدي، عاش فترة الستينيات والسبعينيات، تعلّم كيف يجعل من “ما العمل؟” مصدر اختيارات تحرُّرية ثقافية وسياسية في آن، ويمكننا اليوم أن نُجيب عنه في ضوء الراهن. فالمُتتبّع للفكر الصهيوني يُدرك العناية القصوى التي توليها الصهيونية لنشر هذا الفكر، من خلال ممارسات ومؤسّسات ثقافية وإعلامية لامحدودة.

ضخامة عدد الإنتاجات والمؤسّسات وقوّة التأثير تؤدّي بنا إلى العجز والإحباط. لذا، فإنّ اختيار الثقافة العربية هو أن تعتمد ممارسات تتحدّى العجز والإحباط حتى يتغذّى التضامن مع القضية الفلسطينية ومع حركة المقاومة. أسمّيها ممارسات بمعنى كتابات وأعمال فنّية، بأصوات متعدّدة ومختلفة. يلتقي فيها الفكر بالأدب والفنون. ممارسات تتكامل مع ترجمة ما لم يُترجَم بعدُ من أصول الثقافة الصهيونية وكذا الكتابات والأعمال النقدية لإسرائيليّين وسواهم، حتى يتمّ بناء ثقافة المواجهة بطريقة منظَّمة ومستمرّة. بهذا البُعد يمكن للثقافة أن تُبادر بفعل مقاوم، مجدّد ومؤثّر في مسار القضية الفلسطينية.

أمّا كيف تصبح الثقافة أداة تحرير وتحرّر للأرض والإنسان، فلا بدّ أن نستوعب الزمن الذي نحن اليوم فيه. لنكنْ واقعيّين. قد لا نختلف عندما نقول إنّنا بعيدون عن الحيوية الثقافية التي أفرزتها نكسة 1967، من حيث المعطيات والوقائع العربية والدولية. نحن في زمن العولمة، الذي يُمجّد ثقافة الإعلام والاستهلاك وقيم السوق، وفي زمن التطبيع بقتامته. بعيدون، بمعنى أنّنا لا يمكن أن نعود إلى الحيوية الثقافية للسبعينيات والثمانينيات. وما يمكن أن يربط الثقافة بفكرة التحرير والتحرّر هو اعتبار الذخيرة الثقافية التي اكتسبتها الثقافة العربية من نهاية الستّينيات حتى بداية القرن الحادي والعشرين، ثم تحيين ثقافة السؤال، التي هي ثقافة النقد. نسيان السؤال هو في حدّ ذاته نسيان لما أنتجه الكتّاب والمفكّرون والفنّانون، بجرأة المواجهة لقيم ومؤسّسات الاستعباد والإخضاع العربية. من ثمّ على الثقافة العربية أن تلازم المستحيل في العمل وفي الإنجاز.

وبخصوص الكيفية التي يُمكن أن تُقاوِم بها الثقافة العربية هيمنة المشروع الصهيوني، أرى من المستعجل الانتباه إلى ضرورة نقد الفكرة الصهيونية التي أصبحت تنتشر بكلّ ترحيب في العديد من البلاد العربية، وفي مقدمتها البلدان التي أقدمت على التطبيع مع “إسرائيل”. هناك اليوم مثقّفون، كتّاب وفنّانون وصحافيون أصبحوا يتباهوْن بيننا، وهم يستعملون اسمنا، بالدفاع عن “إسرائيل” وثقافتها. ما لم يكن التفكير فيه ممكناً في العالم العربي أصبح رائجاً بدون أقنعة من خلال كتابات وإصدارات ومواقع ومنصّات للتواصل الاجتماعي. الفكرة الصهيونية، التي يدافع عنها هؤلاء، موجَّهة لتجريم حركة المقاوَمة الفلسطينية، وكذا الإلحاح على أهلية ربط الصلات مع “إسرائيل” والدعوة لتثمين مكانة ثقافتها وقوّة تأثيرها في القرار السياسي والثقافي، على المستوى الدولي. بل وصل الأمر، في المغرب مثلاً، إلى اعتبار الأدب الإسرائيلي مكوّناً من مكوّنات الثقافة المغربية! وقائع مُحبِطة، ولها مع ذلك أن تدلّنا على كيف يمكن للثقافة أن تقاوم الهيمنة الصهيونية، إسرائيلياً ودولياً.

* شاعر من المغرب

سعود السنعوسي: نحو مقاومة ثقافية

وأنا أقرأ سؤالك عن أهمّية الفعل والحراك الثقافي في مواجه المشروع الصهيوني، فكّرتُ لوهلة: وأيّ سلاح آخر نملك؟ ربما تُحقّق المقاطعة تقدُّماً في بعض الأحيان. غير أنّ المقاطعة غالباً ما تكون وقتية، تبدأ ذروتها في أوّل الحدث ثمّ سرعان ما تضعف. ورغم أنّ مقاطعة المنتَج الداعم للمحتلّ لها أثر بالغ في تكبُّده الخسائر المادية، إلّا أنّها لا تُسهم بقدر كبير في نشر الوعي ومواجهة العالَم بحقيقة الاحتلال القاتمة.

في ظروف الضعف هذه، لا أتصوَّر أنّنا نملك سلاحاً نُواجِه به المحتلّ وعقلية المتعاطفين معه غير توجيه الدعم للقضية الفلسطينية ثقافياً، في الفنون والآداب، ومخاطبَة العالم بهذه اللغة المشتركة. فقد عمل المشروع الصهيوني، على مدار عقود، على مصادرة الثقافة الفلسطينية وانتحالها واستثمارها لصالحه أمام الغرب والعالم المتخاذل، في حين بقي الفرد الفلسطيني يقاوم بأدواته المتاحة، في الأدب والموسيقى والفنّ التشكيلي والسينما، ليقول أنا هنا، وهذه قضيّتي.

أمام المُنخرِطين في المجال الثقافي مسؤوليةٌ كبيرة في إعادة المروية الفلسطينية أدباً وفنّاً، بعدما سيطرت الماكينة الإعلامية الصهيونية على الرأي العام العالمي لعقود. وأتصوّر أنّ من الضرورة الإيمان بالثقافة أداةَ مقاومة ومدعاةَ حياة ووجود للقضية الفلسطينية وللإنسانية جمعاء.

قد يُخيَّل للمرء في لحظات ضعف أنّ هذا كلامٌ رومانسي لا جدوى من ورائه ولا يمكن تطبيقه في الواقع. غير أنّ التجربة تُثبت عكس ذلك، ولنا أمثلةٌ في ناجي العلي وغسّان كنفاني والكثير من الأسماء الأيقونية التي انتصرت للحقّ الفلسطيني بأداة الثقافة والفنون وكان لها بالغ الأثر.

للمقاومة الثقافية تأثيرٌ لا يمكن الاستهانة به. ولعلّ أبلغ دليل على ذلك هو ردود الفعل الغربية المعاكسة لدعاية حرية التعبير المزعومة وفق معايير انتقائية، ومحاربتها لكلّ ما هو ثقافي في لحظات مجنونة لا تفسير لها، مثلما حدث مع الكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي وإلغاء “الجمعية الأدبية الألمانية” فعالية تكريمها في “معرض فرانكفورت الدولي للكتاب”. والأمر ليس مستغرَباً ولا يُعدّ سابقة، فقد فوجئ الوسط الثقافي قبل حوالي سنتين بقرار إحدى الجامعات الأوروبية منع تدريس أدب الكاتب الروسي الكبير دوستويفسكي كردّ فعل على الحرب الروسية الأوكرانية، ورغم أن الجامعة تراجعت عن قرارها بعد ذلك، فإنّ تلك المواقف تُبيّن حجم التأثير الثقافي على الرأي العام، وتسليطه الضوء على بقع يتعمَّد العالم تغييبَها.

* روائي من الكويت

محفوظ بشرى: فلنُحرِّر فلسطين من الثقافة السائدة

لا يجب أن تكون فلسطين قضيةَ العرب ولا قضية المسلمين، بل أن تكون في موضعها الحقيقي والطبيعي: قضية تحرُّر وطني وكفاح ضدّ عدوّ متوحّش.. قضية حرية الإنسان في مواجهة الاعتداء. يجب ألّا تقع الثقافة العربية1 في الفخّ الذي نصبته الثقافة الصهيونية لنا وللعالم بجعل القضية الفلسطينية صراعاً بين “هويتين”، بين “شعبين”، أو بين “ديانتين”، ومن ثمّ نَنشغل وينشغل العالم بجدل الاستحقاق المؤسَّس على الأسطورة.

فلسطين قضيةُ الإنسان في كفاحه من أجل نيل حريته، ومن أجل حقّه في الحياة، وهو يواجه استعماراً استيطانياً وحشياً يمتح من الثقافة نفسها التي وقفت وراء فظائع المستعمِرين في الكونغو، وفي جنوب أفريقيا، يواجه الإبادةَ نفسها التي واجهها من قبلُ السكّانُ الأصليون في أميركا، حين أتتهم آلة المستوطنين المستعمرين مسنودةً باستحقاق تغذيه الأسطورة لتنتزع أرضهم وخيراتهم وتقتلهم من دون ندم.

أفضلُ ما يمكن أن تفعله الثقافة العربية لقضية فلسطين هو أن تتحرّر هي نفسها من مأزقها البنيوي، الذي يُقعدها كلّما كادت تنهض، ويجرُّها إلى أن تكون ثقافة قابلة للتقوقع في أوهامها الماضوية، والغرق في نرجسيتها الهويوية، وهي تتعثر أنّى تحركت؛ مصابةً بالغيبيات والميتافيزيقيا، غائبة في اعتقاداتها، لتعادي الحرية، أو لتخاف منها.

الثقافة العربية ليست ثورية، وتميل في كلّ محكّ إلى الانغلاق والعودة ماضياً إلى “منطقة راحتها”، متفاديةً مواجهة الأسئلة الصعبة والقضايا الساخنة، تاركةً خلفها خطاباً مُفارقاً للمنطق، ومنبتّاً عن مستقبله، وخائفاً من التحرُّك خارج البكائيات والمظلوميات الكاريكاتيرية، خطاب عاجز عن مواجهة الثقافة التي أنتجته، ومن ثمّ فهي عاجزة عن أن ترى نفسها، وأن تفهمها وتفهم العدوّ وأدواته.

هي ابنة ترويض استمرّ طويلاً، فاختلطت عندها الفوضى بالثورة، والحرية بالخوف، والأمن بالقهر، فلم تعرف كيف تنصر نفسها قبل أن تنصر فلسطين، كيف تفكّ عنها لجام الغيب لتنمو، وليصبح صوتها أكثر وأكبر من رَبْرَبةٍ لا يعيها أحدٌ كما هو الآن.

لا بدّ من كسر الطوق الذي يخنق به الصهاينة العالم: طوق الحقّ الإلهي لشعب “مختار” يواجه “برابرة” لا يُحبّهم الربّ، ومن ثمّ لا يجب أن يتعاطف معهم من يؤمنون به!

لا بدّ من إخراج الصراع من بئر الآلهة إلى خلاء البشر، ليصير كما هو حقّاً: حرب ظالِم على مظلوم، معتدٍ على معتدى عليه، وليس صراع “الطيّب والشرير” الهوليوودي، ولا صراع “وعد الربّ” وخيالات هرمجدون وهذيان المقدَّس! بل هو صراع يحاول فيه لصٌّ بمباركة أحفاد اللصوص السابقين، أن يقنعنا بأن هناك شيئاً اسمه “إسرائيل”، لننسى أنّ اسمها فلسطين، وهي محتلّة، لننسى “فلسطين المحتلّة”، ونُردّد: إسرائيل فعلت، إسرائيل تركت.

فليتحرّر المثقّفون العرب، تتحرّر الثقافة العربية، وتفكّ قيودها عن فلسطين.. فلسطين ليست قضية عربية، ولا إسلامية، هي قضية الحرية، يدافع عنها من يؤمنون بالحرية، ولا يمكن سَجنها في ضيق الهوية، ولا أن تكون قيّمة عليها ثقافة لم تُحرّر نفسها بعد.

1 أعني بـ”الثقافة العربية” في هذا السياق: الثقافة السائدة في الجغرافيا اللغوية المسمّاة “العالم العربي” وتوابعه، الناشئة من العلاقة الجدلية لتفاعلات آنية مستمرّة مع جذور وأساسات ثقافية وفكرية مشتركة بين مكوناتها “الثقافة العربية”، والتفاعلات الفردية مع هذا المجموع وردود الفعل الجدلية المتمثّلة في دوال تحدّد الاتجاهات والقواعد المفاهيمية المشتركة في نظام بعينه ذي خصائص محدِّدة يمكن اعتبارها نقاطاً مرجعية افتراضية.

* كاتب من السودان

خالد زيادة: بحاجة إلى إعادة تعريف القضية

ليس أقلّ من الإدانة، ليس لتدمير أحياء كاملةٍ، والعمل على تهجير السكّان، وليس لقصف مستشفى وقتل المئات. الإدانةُ ينبغي أن تُوجَّه إلى المجرم الأصلي، وهو “إسرائيل” (ومَنْ وراءَها أيضاً) التي لم تُبدّل من عقيدتها القائمة على الجريمة المتمادية بلا حدّ ولا وازع.

وإذا كان السؤال موجَّهاً إلى المثقَّفين، عن دور الثقافة في هذه الظروف، أظنّ أنّنا نحتاج إلى اليوم إعادة تعريف القضية العربية – الفلسطينية، بعد أن تاهت بين قيادة مترهّلة ومعاهدات سلام وتطبيع، وقوى مرتهنة لدول لديها أجندات خاصّة تَستخدم فلسطين كشعارات وحجج لتنفيذ مشاريعها ومصالحها التي ليس بينها أيّة أولوية لتحرير أو وضع حدّ لغطرسة “إسرائيل”.

لا بدّ من إعادة تعريف علاقتنا بالعالَم وبالغرب خاصّةً، وإعادة الاعتبار للسياسة، بعد أن تاهت القضية وكلُّ قضايانا العربية المُحِقّة بين الحروب الدينية والحملات الصليبية. وعليه، يجب إعادة تحديد المسؤوليات في ما وصلنا إليه من هوان، فلم يعُد أحدٌ في هذا العالم يضع أيّ اعتبار لحكومات لا تتذكّر فلسطين إلّا في النكبات والمناسبات.

الثقافة تَعني التصدّي للأوهام من كلّ الأنواع، وقبل كلّ شيء أن يستعيد المثقَّف دوره، وينتزعه من أيدي الذين أقصوه وجعلوه “ديكوراً” في المجالس والمنتديات.

* أستاذ جامعي وباحث في التاريخ الاجتماعي والثقافي من لبنان

عبد الوهاب الكيالي: لنُسخِّر الثقافة في مواجهة الإبادة

للثقافة والفنون دورٌ أساسي في بناء الإنسان وبناء المجتمع الحيّ الذي يُؤكّد على إنسانية الفرد الفلسطيني والعربي وحقِّه في الحياة الحرّة والكريمة غير المشروطة. ما تقوم به غزّة هو تأكيدٌ على حقّها وحقّ فلسطين في الحياة المتساوية والحرّة والعادلة والخالية من الذلّ والهيمنة والتسلُّط.

للنشاط الفنّي والثقافي دورٌ محوري في بناء إنسان عربي مستقلّ أخلاقياً وفكرياً، ليتحدّى تعسُّف السلطات والبنى الدولية والاجتماعية التي تقهره حيثما يعيش. في هذا الوقت بالذات، تتوجّه دُول ومجتمعاتٌ كاملة بتعليق النشاطات الفنّية للتضامُن مع الأهالي في فلسطين، ولكن باعتقادي هذا لا يفيد معنوياتنا ولا يغيث أهالينا، بل يُسهم في عزلنا وإثبات حالة الإحباط التي تعمّنا.

علينا تنشيط العمل الفنّي والجهر به بصوت أعلى حتى من الأحوال العادية، لنتمسّك ببشريتنا وبإنسانيتنا ونبني منتديات عامّة لمشاركة العواطف والأحاسيس وتأكيد أنّ حالنا جمعية وخلاصنا جمعي وقضيتنا عامّة، وأنّنا لسنا معزولين عن بعضنا البعض. لنُسخِّر الفنّ والثقافة للتأكيد على جدارتنا بالحياة واحتفالنا بها وتمسُّكنا بجمالياتها لمواجهة القتل والإبادة والموت المعمَّم.

* باحث أكاديمي وموسيقي من الأردن

عاشور الطويبي: مقاومةٌ باسلة وغربٌ عريان

ما زلتُ في حالة من الحزن العميق والإحساس بالفقد الكبير لأصدقاء من مدينة درنة بعد طوفان الوادي والإعصار دانيال، ثم ما يحدث الآن من إبادة في غزة. من جهة، مقاومةٌ باسلة شجاعة وشعب صامد صبور يُقصَفُ بالطائرات والمدفعية ليل نهار، ويقال له علناً: غادر أرضك. من جهة أخرى، صار الغرب عرياناً وقد بانت سوأته أمام البصير والأعمى بإعلانه الصريح مساندة المحتل الغاصب والوحش الضروس، غرب بيمينه ويساره، فقيره وغنيه، محافظيهِ وتحرّرييه، كأنهم صاروا جميعاً على اتفاق لقتل الفلسطينيين بلا تخصيص، ولا يسمحون بخروج مظاهرة احتجاج في بلدانهم ومن يفعل يضرب بالهراوات والغاز المسيل للدموع، أما الذي يتجرأ برفع علامة تدل على نصرته لفلسطين فيطرد من عمله ويلاحق. من جهة ثالثة، ثمة دول عربية بجيوشها ونفطها وغازها، لا تفعل سوى إعادة شعارات بائتة واعدةً بإرسال معونات طبية وغذائية، ثم نقطة أول السطر!

الكارثة الأعظم، هي من الضفة الغربية، من السلطة الفلسطينية، من أبي خميس (محمود عبّاس) وهو يتحدث عن أن حماس لا تمثل الشعب الفلسطيني و”من شان الله قاوموا مقاومة شعبية سلمية”. لن أتحدث عن كتّاب وأدباء، وخاصة الذين يعيشون في أرض “الحضارة” و”حرية التعبير” و”القيم الإنسانية الرفيعة”، فقد اتضح أنهم هناك في أدنى سلّم الاعتبار!

* شاعر من ليبيا

لطفية الدليمي: الثقافة وتثويرُ القدرة الفلسطينية الناعمة

المَشاهد المُروّعة التي نراها في غزّة اليوم صارت تُذكّرنا كلَّ آن بسيناريو هولوكوست فلسطيني يُنفَّذ بخطوات تبدو مدروسة ومتتابِعة. لا أظنّ أنّ النزعة “الشعاراتية” العربية أو “الحناجر المبحوحة” ستكون ذات جدوى حقيقية. لا بدّ من مقاربات متمايزة نوعياً عن المقاربات التقليدية التي سادت المشهد العربي في جانبه الثقافي إزاء القضايا المصيرية.

لا بدّ من تحديد تفاصيل خطّ الشروع في المقاربة الثقافية. لعلنا نتّفِق أنّ موازين القوّة الإستراتيجية “الصلبة” تميل لكفّة المحتل. صحيحٌ أنّ إيقاع خسائره، حتى لو كانت محدودةً، ستكون مكلفةً جدّاً لحساباته، بسبب محدودية الوجود البشري الذي يُكوّن العمود الفقري لمجتمعه؛ لكن علينا ألّا نتناسى الكلفة البشرية الهائلة التي ستُلحقها ماكِنته العسكرية بالشعب الفلسطيني، مُستغِلّة الغطاء الإعلامي الأوروبي والأميركي الداعم. وفي النهاية، سندور في الحلقة الاستعادية ذاتها من تبادل أسرى وتحديد مناطق عبور آمن وإعادة ترسيم الخريطة الأمنية… إلخ

تكمن القدرة الفلسطينية الثقافية في جانب القوّة الناعمة (Soft Power). قد يبدو هذا الحديث غير مناسب لواقع الحال المضمَّخ بالدماء والأشلاء والمعاناة البشرية الهائلة وغير المسبوقة في غزّة؛ لكن عاجلاً أو آجلاً لا بدّ من مواجهة الاستحقاقات وعقلنة القدرة الفلسطينية وتفعيل جوانب القوّة فيها. معروفٌ عن الفلسطينيّين أنهم بارعون في القدرات الأكاديمية والمهنية، والنسبة الأكبرُ من شهادات الدكتوراه المرموقة بين العرب إنّما حازها فلسطينيون؛ لذا من المجدي في الإستراتيجية الثقافية العملُ من نقطة الشروع هذه: القدرة الفلسطينية الناعمة.

لو بدأ الفلسطينيون بعملية ارتقاء وتحديث لواقع البنية التحتية الثقافية لديهم، لصارت الثقافةُ قوّةً حقيقية فاعلة في تعديل بعض الاختلال في ميزان القوّة مع المحتل. من المجدي البدءُ بالبنية التحتية للثقافة؛ الرقمية تخصيصاً لأسباب عدّة، منها: أنّها غير باهظة التكلفة؛ إذ إنّ عناصرها الأوّلية لا تعدو شغفاً لا يُبارى بالبرمجيات يُضاف إليه جهاز حاسوب مع وصلة إنترنت. ثمّ إنّ الثقافة الرقمية تفترض العمل الفرداني، وهذه واحدة من أهمّ خواص الفرد الفلسطيني الذي اعتاد الاعتماد على نفسه منذ بواكير حياته. الغاية هي الوصول – في زمن قياسي – إلى نخبة رقمية متميّزة (Digital Meritocracy) شبيهة بقادة الهنود الذين يقودون شركات عالمية كبرى في قطاع التقنية الرقمية.

الفلسطينيون شعبٌ ذكيّ وصبور، ومجالَدة الشدائد ليست غريبةً عن تكوينه النفسي والذهني والجسدي. وعندما تكون الأهداف العليا مُؤشّرة لديه على نحو واضح لا لبس فيه، فأظنُّه سيُحقّق منجزات ستكون أقرب إلى انعطافات كبرى (Breakthroughs) على الصعيد العالمي.

التعليم الراقي هو حجر الزاوية في تدعيم القدرة الفلسطينية. تخيَّلوا معي فلسطينياً تعلّم منذ صغره لغة واحدة أو اثنتين من اللغات الأجنبية (الإنكليزية أو الفرنسية أو الألمانية مثلاً) بطريقة ذات كفاءة، ثمّ عزّزها بقدرات رقمية مضافاً إليها تميّز في باب الذكاء الاصطناعي والبيانات الكبيرة. كيف سيكون مستقبله؟ سيكون مؤهَّلاً لشغل مواقع أكاديمية مرموقة في كبريات الجامعات الغربية، فضلاً عن مواقع تنفيذية مهمّة في أكبر الشركات التقنية الحاضرة والتي ستنشأ في المستقبل. العلم والتقنية بطبيعتهما يتغلغلان بطريقة ناعمة وهادئة في نسيج المجتمعات المحلّية والعالمية، إلى جانب انعدام المخاطرة البشرية التي تترتب عليها تكاليف هائلة.

لو أنّ غزّة والضفّة الغربية حقّقتا نموذجاً تنموياً مشابهاً في بعض جوانبه للنموذج الهندي، فستتحوّل كلتاهما إلى بقعة إشعاع جاذبة للاستثمارات، وسيُحقّق هذا النموذج ناتجاً قومياً سنوياً يساهم في الارتقاء بحياة أبنائه ولا يجعلهم نهباً للفقر والانصياع لرغبات وشروط الجهات المانحة للمساعدات. حينها، سيرضخ الجميع للتعامل مع الوقائع الحقيقية على الأرض، وستختفي البروباغندا التي تسعى لشيطنة الفلسطينيّين وإلصاق تهمة الإرهاب بهم وهُم يدافعون عن حقوقهم ووطنهم المحتل. سيضطرّ الجميع للتعامل مع الفلسطينيّين ببراغماتية منكشفة طالما أنّ مصالحهم تتطلّب ذلك. هذا جزء من التفكير الإستراتيجي: أن تجعل عدوّك يدرك أنّ مصالحه لا تتحقّق إلّا بتحقيق مصالح مقابلة لك.

ليس السلاح هو الفائز دوماً في معركة الإرادات، وبخاصّة مع عدوّ يتفوّق عليك بقدراته التسليحية النوعية. الأفضل هو تحريك مكامن القدرة (الناعمة)، وفي هذا الشأن يمتلك الفلسطينيون منجماً كبيراً لا ينضب من الإرادات البشرية الطموحة والطاقات الثقافية الخلّاقة.

* كاتبة من العراق

طاهر البكري: تقديم الأصوات الإبداعية الفلسطينية

لم أنتظر الأحداث الرهيبة والأليمة الأخيرة لمساندة الشعب الفلسطيني وقضيّته العادلة التي أعتبرُها قضيتي، ليس فقط من ناحية الانتماء العربي، بل كذلك من الأخلاقية السياسية والتاريخية واحترام الإنسانية وكرامتها. هكذا أعددتُ أنطولوجيا مترجَمة إلى الفرنسية عن الشعر الفلسطيني لجيل ما بعد محمود درويش، ونشرتُ كتاب “سلام غزّة” بعد زيارتي لفلسطين المحتلّة. وترجمتُ ونشرتُ أخيراً أشعاراً لزكريا محمّد وسميح القاسم وإبراهيم نصر الله في موقع إلكتروني، وساهمتُ في برنامج إذاعي فرنسي على محطّة رسمية عن محمود درويش، وكتبتُ أخيراً مقالاً عن رواية لكاتبة تونسية عاشت في فلسطين.

يُمكن للمثقّف العربي أن يقوم بالكثير ويدافع عن فلسطين، لا بالدعاية المرتجلة، بل بما يُعطي البُعد التاريخي ثوابت وقناعات لا شكوك فيها وتكون مقنعة. مساندة الشعب الفلسطيني لا تمنع انتقاد السلبيات وما يُسيء إلى فلسطين. لكن، لا بدّ أن نكون يقظين لما يُعطي للعدوّ فرصة للتشويه والمسّ بحق الفلسطينيّين، كما وقع أخيراً للروائية عدنية شبلي في “معرض فرانكفورت للكتاب”.

* شاعر وأكاديمي من تونس

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن موريتانيا اليوم عبر موقع أفريقيا برس