أفريقيا برس – موريتانيا. بين جدران قصر العدل في نواكشوط الغربية، حيث تتقاطع الممرات بين القضاة وضباط الشرطة والمحامين، يتواصل الانشغال بظاهرة الفساد أكثر القضايا حساسية في موريتانيا خلال السنوات الأخيرة.
فقد تواصلت أمس التحقيقات مع ثلاثين مسؤولاً حكومياً في تهم تتعلق بسوء تسيير المال العام. وفي الجهة الأخرى من المشهد، يستعد الائتلاف الوطني غير الحكومي لمحاربة الفساد لإطلاق أول خطة ميدانية لمواجهة الظاهرة التي ظلت تؤرق الدولة والرأي العام على حد سواء.
وأنهت النيابة العامة في نواكشوط الغربية، أمس، جلسات الاستماع إلى المشمولين في تقرير محكمة الحسابات، من دون أن تتخذ بعدُ إجراءات قضائية في حقهم. وقد مثُل المسؤولون الذين وردت أسماؤهم في التقرير تباعاً أمام النيابة، بعد أسابيع من التحقيقات المكثفة التي أجرتها شرطة الجرائم الاقتصادية.
ووفق مصادر قضائية، من المنتظر أن تسلّم الشرطة الاقتصادية محاضرها للنيابة العامة خلال الساعات القادمة، لتمكينها من تحديد الاتجاه القضائي للملف، سواء بفتح متابعة رسمية وإحالة المتهمين إلى قاضي التحقيق، أو بإعادة الملف لاستكمال التحقيقات، أو حتى حفظه مؤقتاً إذا لم تتوافر الأدلة الكافية.
وكان تقرير محكمة الحسابات، الصادر قبل أسابيع، قد فجّر القضية بعد أن أورد أسماء نحو ثلاثين مسؤولاً عمومياً يُشتبه في تورطهم في مخالفات مالية وإدارية، بعضها مرتبط بصفقات عمومية، وبعضها الآخر بتسيير مؤسسات حكومية خلال الأعوام الماضية.
وبناء على التقرير، أحالت الحكومة الموريتانية لائحة الأسماء إلى الادعاء العام الذي أمر بفتح تحقيق رسمي، كلّف به شرطة الجرائم الاقتصادية قبل ثلاثة أسابيع. وقد استمعت الأخيرة للمشمولين كافة، بمن فيهم من تمّت إقالتهم أو تعليق مهامهم في انتظار نتائج التحقيق.
وحسب اللائحة التي أحالتها المحكمة، فإن ثلاثين مسؤولاً وردت أسماؤهم في القضية، عُزل عشرون منهم من وظائفهم، من بينهم أحد عشر مسؤولاً تمّت إقالتهم في مجلس الوزراء الاستثنائي المنعقد يوم 21 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي.
لكن مصادر متطابقة أشارت إلى أن بعض المسؤولين أُدرجت أسماؤهم عن طريق الخطأ، أو استُدعوا لأغراض إيضاحية لا تعني بالضرورة تورطهم في مخالفات. وهو ما يجعل الملف مفتوحاً على كل الاحتمالات، من التبرئة إلى الإحالة، حسب نتائج التحقيق النهائي.
ويرى مراقبون أن هذه القضية؛ وهي الأكبر منذ إحالة ملفات عشرية حكم الرئيس السابق إلى القضاء، تمثل اختباراً جديداً لمدى استقلال القضاء الموريتاني وقدرته على التعامل مع قضايا الفساد دون تسييس أو انتقائية.
وفي موازاة التطورات القضائية، عقد المكتب التنفيذي للائتلاف الوطني لمحاربة الفساد المشكل حديثاً من عشرات المنظمات غير الحكومية المهتمة بالشأن العام ومن الأحزاب السياسية، أول اجتماع له منذ تأسيسه مطلع تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، لبحث خطة عمله للأشهر الثلاثة المقبلة، ضمن رؤية، أكد الائتلاف أنها «تهدف إلى جعل محاربة الفساد مهمة وطنية مستمرة لا ترتبط بالأشخاص أو المواسم».
وناقش الاجتماع، الذي وُصف بأنه «محطة تأسيسية ثانية»، تقييم الانطلاقة الرسمية للائتلاف التي جرت في الخامس من تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، وإعداد خطة عمل تمتد من 10 تشرين الثاني/نوفمبر إلى 10 شباط/فبراير المقبل، تتضمن أنشطة ميدانية وتوعوية أبرزها تنظيم فعالية كبرى لتخليد اليوم العالمي لمحاربة الفساد في التاسع من كانون الأول/ديسمبر المقبل.
وأكد أعضاء المكتب التنفيذي في مداولاتهم أن «الفساد في موريتانيا لم يعد ظاهرة مالية فحسب، بل شبكة مصالح متشابكة تحتاج إلى مواجهة مؤسسية ومجتمعية شاملة»، داعين إلى إشراك النقابات والبرلمان والمجتمع المدني في متابعة ملفات الشفافية والرقابة.
ويأتي هذا الحراك المدني في لحظة حساسة تشهد فيها موريتانيا تصاعد النقاش حول حدود الفساد وآليات مكافحته؛ فبينما يتحرك القضاء نحو مسار المساءلة القانونية، يسعى المجتمع المدني إلى بناء ضغط أخلاقي ومؤسسي يضمن استدامة الإصلاح.
ويرى ناشطون في المجال أن هذا التقاطع بين المسارين «قد يخلق لأول مرة بيئة رقابية مزدوجة» تجعل من الصعب مستقبلاً تمرير التجاوزات دون مساءلة، خصوصاً في ظل الرقمنة المتزايدة للإدارة المالية الموريتانية.
وفي المقابل، يحذر بعض المراقبين من أن المعركة ضد الفساد لن تُحسم بالتحقيقات فقط ما لم تترافق بإصلاحات في أنظمة التعيين والصفقات العمومية، وبنشر شفاف لتقارير محكمة الحسابات بانتظام.
ويعدّ تقرير محكمة الحسابات، وما تبعه من تحركات حكومية ومدنية، مؤشراً على تحوّل تدريجي في مقاربة موريتانيا لمحاربة الفساد. فبعد سنوات من الخطاب السياسي العام، يبدو أن البلاد تدخل اليوم مرحلة أكثر جدية، تتقاطع فيها أدوات القضاء مع إرادة الفعل المدني.
وإذا ما نجحت النيابة العامة في إدارة الملف بشفافية، وتمكن الائتلاف الوطني من تثبيت حضوره في الميدان، فقد تشكّل هذه المرحلة بداية عهد جديد من المساءلة والمسؤولية، يعيد الثقة إلى المواطن في مؤسسات الدولة، ويعيد تعريف العلاقة بين السلطة والمال العام.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن موريتانيا عبر موقع أفريقيا برس





