أفريقيا برس – موريتانيا. تعيش الساحة السياسية الموريتانية هذه الأيام حالة ترقب واسعة، بعد إعلان الرئيس محمد ولد الغزواني، في خطابه بمناسبة الذكرى الخامسة والستين للاستقلال الوطني الذي صادف أمس، أن «التقرير النهائي للمرحلة التحضيرية للحوار السياسي الذي تسلمه من منسق الحوار، سيُعرض خلال الأيام القادمة على جميع الفرقاء السياسيين، ليتسنى لهم تقديم ما يرونه مناسباً من إضافات أو تعديلات أو إعادة صياغة». وأكد الرئيس أن السلطة التنفيذية «لن تدخر جهداً في تهيئة الظروف الملائمة» لضمان أن تكون مخرجات الحوار «متميزة ومضمونة التنفيذ».
وجاء هذا الإعلان ليعيد النقاش حول الحوار الوطني إلى واجهة المشهد، بعد أشهر من التحضير الذي قاده منسق الحوار الوطني السياسي المخضرم موسى فال، عبر لقاءات مكثفة مع الأحزاب السياسية، والنقابات، ومنظمات المجتمع المدني، وشخصيات مستقلة.
وقد انتهت هذه المرحلة إلى وثيقة أولية، أكد منسق الحوار وجود توافق أولي حول محاورها الأساسية، بانتظار الجولة الحاسمة التي ستجمع كل الأطراف حول طاولة واحدة لمناقشتها.
وفي خطابه الذي حمل نبرة طمأنة واضحة، اعتبر ولد الغزواني أنه «لا يوجد مبدئياً ما قد يعيق عقد حوار سياسي في موريتانيا، أو يعكر صفوه»، مستغرباً، في لهجة عتاب سياسي غير معتادة، ما سماه «السعي لمقايضة المشاركة في الحوار» هنا أو هناك.
ورأى الرئيس الغزواني «أن هذا الحوار، إذا انعقد كما هو مرجوّ، فسيكون «فرصة للجميع لإجراء مراجعة شاملة، في هدوء وسكينة، لمجمل التحديات التي تواجه الوطن».
وربط الرئيس الدعوة إلى الحوار بالسياق السياسي الراهن الذي اعتبره مثالياً، لأنه، وفق تعبيره، لا يشهد تجاذبات انتخابية ضاغطة، ولا تمر البلاد بأزمة سياسية أو اقتصادية تفرض حسابات ظرفية، مما يجعل اللحظة مناسبة لتأسيس أرضية توافق مستقرّ يُبنى عليها في المستقبل.
وبدأت التحضيرات لهذا الحوار فعلياً، في شهر مارس/ آذار الماضي، حين كلّف الرئيس السياسي موسى فال ببدء مشاورات تمهيدية شملت مختلف القوى الوطنية.
وقد تميزت هذه المرحلة بالصمت الإعلامي من المشاركين، حفاظاً، كما قيل، على «هدوء المسار»، قبل أن تتسرب ملامح أولية عن توافق واسع حول الحاجة إلى تقييم السنوات الماضية، وإعادة ترتيب الأولويات الوطنية في مجالات الحكم الرشيد، والتنمية، وتحصين الوحدة الوطنية، ومحاربة الفساد، وتعزيز الحريات.
لكن هذه التحضيرات تجري على خلفية تاريخ معقد من الحوارات الوطنية غير المجدية في موريتانيا، التي شهدت خلال العقدين الماضيين سلسلة من المشاورات السياسية، أبرزها حوارا 2011 و2016، ومشاورات 2022 المتعلقة بتحديث المنظومة الانتخابية.
وبرغم ما حملته تلك الحوارات من نتائج مهمة، خصوصاً على مستوى تهدئة المناخ السياسي وتطوير بعض القوانين، إلا أن جزءاً منها ظلّ رهيناً لغياب آليات تنفيذ واضحة، أو لعودة التوتر السياسي في محطات لاحقة؛ وهو ما يجعل الرهان اليوم أكبر هو: إقامة حوار قادر على تجاوز سقف البيانات الختامية نحو التزامات قابلة للتطبيق.
وقد حرص ولد الغزواني في خطابه الأخير على التذكير بأن نهج الانفتاح والتشاور كان خياراً ثابتاً منذ توليه السلطة عام 2019، مشيراً إلى أنه «سلك بوعي وقناعة طريق الإصغاء، ويده ممدودة نحو الجميع»، وأن عدداً كبيراً من الأطراف السياسية وقادة الرأي شاركوا هذا النهج في السنوات الماضية. وفي سياق المأمورية الثانية، التي تحمل عنوان «طموحي للوطن»، جدّد الرئيس تعهده بتنظيم حوار «لا يستثني أحداً ولا موضوعاً»، وهو ما قال إنه تعهّد ماضٍ في تنفيذه دون تأخير.
وقد بدا واضحاً أن الرئيس يريد إرسال إشارة قوية بأن الحوار ليس مجرد مبادرة سياسية عابرة، بل ركن أساسي لأي محاولة جادة لبناء إجماع وطني في مواجهة التحديات المتزايدة حول الأمن والتنمية والحوكمة.
ورغم أجواء الطمأنة التي بثها خطاب الرئيس، لا يزال جزء من الطبقة السياسية يحافظ على حذر تقليدي، نظراً لتجارب الماضي، بينما يبدي آخرون استعداداً للمشاركة ضمن شروط تتعلق بضمانات التنفيذ، ووضوح آليات متابعة النتائج، وإشراك الجميع دون استثناء.
غير أن الثابت اليوم أن موريتانيا تقف أمام فرصة سياسية نادرة، في ظرف داخلي هادئ نسبياً، وإقليم مضطرب يفرض ضرورة تحصين الجبهة الوطنية. ومع قرب عرض التقرير النهائي للمرحلة التحضيرية، يبدو أن الأسابيع المقبلة ستكون حاسمة في تحديد ما إذا كان الحوار المرتقب سيكون محطة عابرة أخرى، أم لحظة تأسيسية لمسار إصلاحي أوسع.
ورغم الاهتمام الواسع الذي أبدته مختلف الأطراف السياسية والمدنية بمسار الحوار المرتقب، فإن صورة المشاركة في هذا الاستحقاق ما تزال محاطةً بكثير من الغموض.
ويبرز في هذا السياق الموقف غير المحسوم لجناح معارض متشدّد يقوده النائب البرلماني بيرام الداه اعبيد، وهو الجناح الذي يرفع منذ سنوات شعار مظلومية الرق ويعتبر نفسه صوتاً لمكوّن اجتماعي واسع. ويضع هذا التردد النظام أمام معضلة حقيقية: فإمّا أن يتعثر عقد الحوار بسبب غياب هذا الطرف المؤثر، وإمّا أن يُنظّم الحوار من دونه، وهو ما سيُضعف شموليته ويثير تساؤلات حول مدى تمثيله لكل الحساسيات السياسية والاجتماعية في البلاد.
وقد حاول منسق الحوار موسى فال، تبديد بعض هذه المخاوف، مؤكداً أنه سيبذل كل الجهود لإقناع هذا الجناح بالانضمام إلى الطاولة، داعياً إلى عدم «محاكمة النيات» وترك الباب مفتوحاً أمام الجميع. ومع ذلك، يبقى المشهد مفتوحاً على كل الاحتمالات، في انتظار ما ستسفر عنه الأيام المقبلة بعد اكتمال عرض التقرير النهائي على فرقاء الساحة؛ عند ذلك سيتضح بجلاء ما إذا كانت موريتانيا ستنجح أخيراً في انتزاع لحظة توافق وطني حقيقية وشاملة أم إن ظروفها لم تسمح لها بذلك.





