أفريقيا برس – موريتانيا. في نواكشوط، لم يكن اليوم العالمي لحقوق الإنسان هذه المرة مناسبة للاحتفال بإنجازات، بل لحشد أصوات الغضب: قاعات مكتظة بالمعارضين، وميكروفونات تتناوب عليها خطابات حادة، ووجوه سياسية ترى أن البلاد تنحدر نحو منعطف مقلق، حيث تتراجع الحريات، ويتسع نفوذ الفساد، وتتشابك الملفات، مع التلميح بأن العدالة نفسها أصبحت جزءاً من لعبة تصفية الحسابات.
في هذا المشهد المشحون، رفعت المعارضة الموريتانية سقف انتقاداتها للحكومة، محذّرة من مسار خطير يهدد الحقوق المدنية ويشوّه معركة مكافحة الفساد، وداعية إلى وقفة وطنية قبل أن تتسع هوة الثقة بين المواطن والدولة.
جاء ذلك ضمن فعاليات متواصلة إحياء لليوم العالمي لحقوق الإنسان واليوم العالمي لمكافحة الفساد، وجّهت خلالها المعارضة الموريتانية انتقادات واسعة للحكومة، محذّرة من «تراجع خطير» في الحقوق المدنية، ومن «موجة فساد متصاعدة» ترى أنها تهدد مؤسسات الدولة وأنها تُستغلّ أحياناً لتسوية حسابات سياسية.
وفي ندوة نظمتها منظمة انبعاث الحركة الانعتاقية «إيرا» الحقوقية، اعتبر عدد من القادة السياسيين أن موريتانيا تعيش مرحلة «انتكاسة غير مسبوقة» في مجال الحريات.
وقدم رئيس حزب العهد الديمقراطي (قيد التأسيس) سيدنا عالي محمد خونه، قراءة قاتمة للمشهد الحقوقي، قائلاً إن ما يجري منذ عام 2019 يمثل «تراجعاً تاريخياً مرعباً»، متهماً السلطة بالمسؤولية الكاملة عن هذا الانحدار.
ورأى أن الوضع تجاوز وصف «التجاوزات الفردية» ليتحوّل إلى «منظومة متكاملة لإسكات الأصوات وتحويل أجهزة الدولة إلى أدوات قمع».
وأضاف ولد محمد خونه أن هذا المسار يضع البلاد على «منزلق خطير»، داعياً القوى الوطنية إلى التعاطي مع المرحلة بحذر.
وتوسع ولد محمد خونه في الحديث عن القضية الفلسطينية، مندداً بما وصفه بـ»المجازر المستمرة»، ومعتبراً أن مناصرة الشعب الفلسطيني «اختبار إنساني عالمي» يجب على المجتمع الدولي أن يتعامل معه بجدية.
وأكد محمد الأمين ولد شعيب نائب رئيس حزب «تواصل» ذي المرجعية الإسلامية، أن المشاركة السياسية والحكامة الديمقراطية تواجه «عوائق بنيوية» تعيق تطور المسار الديمقراطي في موريتانيا.
وأشار إلى أن تركّز الصلاحيات في يد السلطة التنفيذية يُضعف التوازن بين المؤسسات، وأن الإدارة العمومية «تفتقد للحياد المطلوب وتتحرك في المشهد السياسي لصالح طرف واحد هو النظام».
وعن الإطار الانتخابي، أكد ولد شعيب أن المدونة الحالية تعاني «ثغرات عميقة» تحول دون ضمان الشفافية والنزاهة، وتحدّ من إمكان بناء تنافس سياسي متكافئ.
ودعا رئيس حزب جبهة المواطنة والعدالة محمد جميل ولد منصور إلى خلق مناخ سياسي إيجابي، قائلاً «إن حضور المعارضة والموالاة في الساحة يجب ألا يكون سبباً في القطيعة، بل مدخلاً لحوار متبادل».
وحذر من أن غياب التواصل بين الطرفين سيؤدي إلى «انغلاق كل طرف داخل رؤيته».
وانتقد ولد منصور قانون الرموز، واصفاً إياه بـ»التشريع غير المناسب»، وداعياً إلى إلغائه لأنه «لا يخدم حقوق الإنسان ولا يساهم في تطوير الديمقراطية».
كما شدد على ضرورة توحيد الموقف الوطني لمعالجة ملف الإرث الإنساني استجابة لمطالب أسر الضحايا.
في نفس الاتجاه، قال عبد السلام ولد حرمة رئيس حزب الصواب (البعث الموريتاني) إن تدخل الدولة في تشكيل الحياة السياسية «أكبر أزمة حقوقية في البلاد»، معتبراً أن الحق في الانخراط السياسي «يتآكل يوماً بعد يوم».
وأضاف أن قانون الرموز شكّل «انتكاسة للحق في الوصول إلى المعلومة».
بالتزامن مع فعاليات حقوق الإنسان، نظم نواب المعارضة مؤتمراً صحافياً بمناسبة اليوم العالمي لمكافحة الفساد، قدّم النائب المعارض محمد بوي ولد الشيخ محمد فاضل خطاباً شديد اللهجة، أكد فيه أن الفساد «مشكلة مجتمعية قبل أن يكون قضية إدارية»، وأن احتفاء المجتمع ببعض المفسدين «يجعل من مكافحته مهمة معقدة». وأكد ولد فاضل «أن إلغاء التقادم عن جرائم الفساد سيجعل الملاحقة القضائية مستمرة لكل المتورطين مهما طال الزمن»، لكنه انتقد ما سماه «تسييس ملف العشرية»، متسائلاً عن أسباب تقليص لائحة المشمولين بالفساد من 300 إلى أربعة فقط.
وطرح سلسلة أسئلة حول غياب قطاعات معينة عن تقارير محكمة الحسابات، وعن عشرات صفقات التراضي التي لم يشملها التحقيق، إضافة إلى تساؤلات حول صفقات المختبر الجنائي والمعدات الطبية.
وذهبت النائبة المعارضة كاديتا مالك جالو في الاتجاه نفسه، معتبرة أن الفساد «بلغ مستويات غير مسبوقة»، وأنه «أكثر انتشاراً اليوم مما كان عليه في عهد الرئيس السابق».
وانتقدت النائبة ما وصفته بـ»توظيف محاربة الفساد بانتقائية»، وتساءلت عن كيفية إعلان مكافحة الفساد بينما «معظم المفسدين يعملون مع النظام».
وركز النائب محمد الأمين ولد سيدي مولود في مداخلته على الإطار القانوني، مشيراً إلى أن المعارضة قدّمت عدة طلبات لإجراء تحقيقات برلمانية في ملفات المياه والوقود والطرق، لكنها قوبلت بالرفض بعد تعديل النظام الداخلي بطريقة تجعل مرور التحقيقات «أمراً بالغ الصعوبة».
وقال إن مؤسسات التفتيش بالدولة «تعمل تحت تأثير السلطة التنفيذية»، وإن تقارير محكمة الحسابات «حُصرت في أشخاص محددين».
أما النائب يحيى ولد اللود، فحذّر من انتشار الفساد داخل المؤسسات العسكرية، معتبراً أن هذا الوضع «لا يمكن للدولة والمجتمع تحمله».
وأشاد ببداية ملف العشرية الذي شمل رئيساً سابقاً ووزراء، لكنه انتقد «انتهاء الملف بتوجيه الاتهام لأشخاص دون غيرهم»، معتبراً أن ذلك «انحراف خطر».
كانت خلاصة هذه المواقف وهذه الفعاليات هي التأكيد على أن معركة مكافحة الفساد والدفاع عن الحريات «مستمرة ولن تتوقف»، لكن قادة المعارضة متخوفون من تحول محاربة الفساد إلى «أداة سياسية»، ومجمعون على أن الإصلاح الحقيقي يمر عبر استقلال القضاء وشفافية المؤسسات واستعادة ثقة المواطنين في الدولة.





