أفريقيا برس – موريتانيا. في وقتٍ يشهد فيه العالم استقطاباً متسارعاً وتتصاعد فيه الانتقادات للدور الأمريكي في دعم الحرب الإسرائيلية على غزة، جاء اللقاء الذي جمع الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ضمن قمة مصغّرة احتضنها البيت الأبيض، ليثير جدلاً واسعاً في الأوساط السياسية والشعبية الموريتانية.
وفي مشهدٍ تتقاطع فيه رمزية الصورة مع ثقل اللحظة الدولية، شغلت القمة المصغّرة التي جمعت الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني بالرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، أذهان الموريتانيين خلال الساعات الماضية، وسط تحليلات متباينة لما تحمله الدعوة الأمريكية من دلالات سياسية ورسائل جيوسياسية.
غير أن وقع اللقاء في أوساط المتابعين لم يَخْلُ من كدرٍ أخلاقي، إذ جاء في توقيت لا تخطئه العين: حين تقف واشنطن داعماً صلباً لحرب الإبادة التي يشنّها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، ما يثير تساؤلات عميقة عن ثمن الاصطفاف في لحظة تبدو فيها القيم مُعلّقة على مذبح المصالح.
وبينما تداول الموريتانيون صور الغزواني في البيت الأبيض بتحليلات فنية وسياسية، ظل السؤال الأهم معلقاً في خلفية المشهد: هل تكفي دبلوماسية الصور لتعويض الصمت الرسمي إزاء المجازر؟ وهل يملك القادة الأفارقة رفاهية الحضور في صالونات واشنطن بينما تئن شعوبهم ـ والعالم من حولهم ـ تحت وطأة الحرب والاضطراب؟
وفيما رأى البعض في المشاركة الموريتانية فرصةً دبلوماسية لتعزيز الحضور في الفضاء الدولي واستقطاب دعم جديد لمشاريع تنموية حيوية، لم يُخفِ آخرون شعورهم بالمرارة من انعقاد اللقاء في ظل ما يعتبرونه “تواطؤاً أمريكياً مكشوفاً” مع آلة الحرب الإسرائيلية.
وهكذا تداخل البُعد الاستراتيجي مع الإحساس الشعبي المتأجج بالقضية الفلسطينية، في مشهد يعكس التعقيد الذي يطبع الحراك السياسي الخارجي لنواكشوط في زمن التحولات الكبرى.
وقد أثار اللقاء اهتماماً واسعاً في الأوساط السياسية والإعلامية والشعبية في موريتانيا، في ظل تساؤلات متزايدة حول مغزى الدعوة الأمريكية وتوقيتها، وأبعادها السياسية والتنموية.
ويعد اللقاء الذي جرى بعيداً عن الأضواء الإعلامية المباشرة، أولَ تفاعل مباشر بين الغزواني وترامب منذ مغادرة الأخير للسلطة، وقد جاء في سياق لقاء ضم رؤساء كل من الغابون، ليبيريا، غينيا بيساو، والنيجر، إضافة إلى موريتانيا، بدعوة من مراكز تفكير أمريكية مقربة من الحزب الجمهوري، وسط عودة ترامب القوية إلى المشهد السياسي الأمريكي كمرشح رئاسي بارز في انتخابات نوفمبر المقبل.
وفي نواكشوط، تباينت تفسيرات المراقبين بشأن مدلولات اللقاء، حيث يرى بعضهم أن اختيار موريتانيا يعكس “عودة اهتمام أمريكي بملف الساحل الإفريقي” وخاصة في ظل فراغ خلفه الانسحاب الفرنسي وتقدم النفوذ الروسي والصيني، فيما يرى آخرون أن واشنطن، أو على الأقل جزءاً من نخبها المحافظة، تعيد بناء جسور التأثير مع أنظمة تُنظر إليها بوصفها مستقرة وتُبدي استعداداً للتعاون في ملفات الأمن والهجرة ومكافحة الإرهاب. من الناحية الرسمية، أكدت مصادر في الرئاسة الموريتانية أن اللقاء شكل مناسبة لبحث سبل تعزيز التعاون في مجالات الطاقة والمعادن والتكنولوجيا، وأيضاً “لتعزيز حضور موريتانيا كفاعل مسؤول في فضاء الساحل”، على حد تعبير أحد المستشارين.
ورغم أن البيان الرسمي الأمريكي اكتفى بالإشارة إلى “نقاشات بنّاءة حول التحديات المشتركة”، فإن انشغال الرأي العام الموريتاني تجاوز الجانب البروتوكولي، حيث تبارت وسائل الإعلام المحلية في تحليل دلالات الصورة الجماعية، وموضع جلوس الرئيس الغزواني إلى جانب ترامب، وحتى تعبيرات وجهه خلال التقاط الصور، في مشهد يعكس تعطشاً محلياً لأي إشارة تدل على تحسن علاقات موريتانيا مع القوى الكبرى.
وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، تباينت التعليقات بين من اعتبر أن “اللقاء يدعم صورة موريتانيا كبلد آمن وواعد اقتصادياً”، وبين من حذّر من أن “الارتهان لمحاور دولية متقلبة قد يعمّق تبعية موريتانيا للخارج بدل تعزيز استقلال قرارها”.
وأثار اللقاء جدلاً بين أنصار الرئيس الغزواني ومعارضيه، فبينما يرى مؤيدو الغزواني أنه استطاع أن يفرض أجندة بلاده وينأى بها عن الضغوط، اعتبر خصومه أن ظهوره في هذا المحفل كشف عن ضعف دبلوماسي وسوء تقدير لسياقات الخطاب.
وأكد الكاتب الشيخ ماء العينين، أحد وجوه الموالاة، أن الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني “استطاع أن يلفت نظر الرئيس ترامب إلى خصوصية موريتانيا وتمايزها عن بقية دول الساحل”.
وقال ماء العينين إن غزواني “لم ينسق وراء أجندة ترامب التي أراد فرضها ضمنياً في اللقاء، بل حوّل الحديث إلى أولويات موريتانيا الاستراتيجية، خصوصاً الأمن في منطقة الساحل، والتنمية الاقتصادية ذات البعد السيادي”.
واعتبر أن الرئيس الموريتاني “مرّر رسالة ذكية مفادها: إذا كنتم جادين في شراكة اقتصادية عادلة فأهلاً بكم، أما التطبيع فليس على جدول أعمال موريتانيا”.
كما أكد أن “خطاب غزواني كان مختلفاً عن باقي القادة الحاضرين بسبب الطابع العربي والإسلامي للجمهورية الموريتانية، ما يعكس استقلالية الخطاب ووضوح الموقف”.
وفي المقابل، شنّ الإعلامي والمعارض البارز الداه يعقوب هجوماً لاذعاً على أداء الرئيس غزواني خلال القمة، معتبراً أنه “لم يفهم السياق ولا نمط الحديث المتبع في مثل هذه الاجتماعات الدولية رفيعة المستوى”.
وقال يعقوب إن غزواني “أطال الحديث بشكل غير مألوف مما دفع ترامب إلى مقاطعته صراحة، قائلاً للحضور: ربما سنمضي قدماً بأسرع من هذه الوتيرة، في إشارة واضحة إلى ملله من خطاب الرئيس الموريتاني”. وأشار إلى أن الرئيس الأميركي بدأ بكلمة مختصرة، شدد فيها على “نهاية عصر المساعدات”، وبدء مرحلة التعاون التجاري والتسلح، لكن ولد الغزواني، حسب يعقوب، “أخذ منحى آخر، فأطنب في الثناء على ترامب وعلى جهوده للسلام، في خطاب تقليدي لا يناسب طبيعة اللقاء”. وأضاف أن “الرؤساء الآخرين التقطوا الرسالة وتحدثوا بإيجاز عن فرص الاستثمار، بينما غزواني اكتفى بتكرار الحديث عن الجغرافيا والثروات”. غير أن مراقبين يرون أنه رغم غموض السياقات الدقيقة التي أفرزت قمة البيت الأبيض المصغّرة، فإن موريتانيا وجدت فيها فرصة لتأكيد موقعها كدولة تسعى لتثبيت الاستقرار والانفتاح على الشركاء الدوليين.
وبينما تظل النتائج الملموسة لهذا اللقاء رهن المستقبل، فإن انشغال الموريتانيين به يعكس، في حد ذاته، حجم الترقب الشعبي لأي بادرة تشير إلى تغير في مسار علاقات البلاد الدولية، أو في شكل إدارتها للفرص والمخاطر في زمن التحولات الكبرى.
ورغم الجدل المثار، فإن اللقاء كرس حضور موريتانيا على الساحة الدولية، وأعاد طرح السؤال الأهم: كيف يمكن لموريتانيا أن تستثمر موقعها الجيوسياسي وتنوعها الثقافي في علاقة ندّية مع قوى كبرى كالولايات المتحدة؟
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن موريتانيا عبر موقع أفريقيا برس