أفريقيا برس – موريتانيا. تواصلت في موريتانيا من مناظير مختلفة فعاليات إحياء اليوم العالمي لحقوق الإنسان حيث مرت الذكرى متثاقلة هذا اليوم بالسجال المعهود بين خطاب يتحدث عن مؤسسات جديدة وإنجازات تشريعية، وخطاب الهيئات الحقوقية التي تنتقد البطء في معالجة ملفات حساسة مثل مخلفات الرق والإرث الإنساني.
وتداخلت في إحياء الذكرى السابعة والسبعين لصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مشاعر الاحتفاء الرسمي مع نبرة القلق التي تبديها المنظمات الحقوقية، مما يجعل المشهد الوطني الموريتاني وكأنه في هذه المناسبة مرآة مزدوجة تعكس وجهاً يعلن التقدم وآخر يشير إلى ما لم يتحقق بعد.
وفي مناسبة احتفالية باليوم العالمي لحقوق الإنسان، وقف المسؤولون الموريتانيون ليؤكدوا «أن البلاد قطعت أشواطاً معتبرة خلال العام الجاري؛ فقد تحدثت المفوضية عن تعزيز الإطار المؤسسي لحقوق الإنسان، وإنشاء مؤسسات جديدة كالمعهد العالي للقضاء والسلطة الوطنية لمكافحة الفساد، إضافة إلى تقدم ملحوظ في جهود مكافحة الاتجار بالبشر، وبرامج اجتماعية وُصفت بأنها الأكبر في تاريخ دعم الأسر المتعففة.
وأكد الرسول ولد الخال المفوض المساعد لحقوق الإنسان والعمل الإنساني، أن الإنجازات التي سجلتها موريتانيا في مجال حقوق الإنسان تتماشى مع توجهات رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني، كما وردت في برنامجه الوطني «طموحي للوطن».
وأوضح أن هذه التوجهات ترتكز على حماية كرامة الإنسان ومكافحة كافة أشكال الغبن والتمييز والصور النمطية السلبية، بما يضمن لجميع المواطنين التمتع الكامل بحقوقهم دون أي تمييز.
وأشار السيد ولد الخال إلى أن احتفالات اليوم العالمي لحقوق الإنسان تحمل دلالات عميقة، تستدعي مزيدًا من التأمل وتقييم المسار الحقوقي الوطني، لا سيما في ظل الالتزامات الدولية التي صادقت عليها موريتانيا، والتي تمثل إطارًا قانونيًا وأخلاقيًا لقياس التقدم والإنجاز.
وأضاف أن المفوضية تمكنت خلال العام الجاري من تنفيذ الاستراتيجية الوطنية لترقية حقوق الإنسان للفترة 2024–2028، والتي تمثل وثيقة مرجعية شاملة لتعزيز حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، عبر ترسيخ مفهوم المواطنة وترقية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وبناء مجتمع متماسك خالٍ من الإقصاء والتهميش.
ومن جانبه، أشاد رئيس منتدى الفاعلين غير الحكوميين، محمدو ولد سيدي، بالإنجازات التي حققتها الحكومة الموريتانية في هذا المجال، داعيًا إلى تكاتف الجهود بين مختلف الفاعلين لضمان استمرار تطوير السياسات الحقوقية. وشدد على أهمية إشراك المنظمات غير الحكومية والمجتمع المدني في صياغة البرامج والمبادرات الحقوقية لضمان مشاركة أوسع ونتائج أكثر استدامة.
وفي هذا السياق، أكد ممثل المفوضية السامية لحقوق الإنسان في موريتانيا، جيبو مامادو، على التعاون الوثيق بين المفوضية والحكومة، خاصة مع مفوضية حقوق الإنسان والعمل الإنساني، مؤكدًا أن هذا التعاون يعزز قدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها الحقوقية.
وأضاف أن احتفالات هذا العام ركزت على تعزيز النفاذ إلى الخدمات الأساسية، بما يشمل التعليم والصحة، والحماية من التمييز والعنف، وضمان حرية التعبير وتحقيق الإنصاف.
وبينما كانت الكلمات الرسمية تتدفق بإيقاع مطمئن، كانت المنظمات الحقوقية ترصد صورة مختلفة؛ فبيان المرصد الموريتاني لحقوق الإنسان، الصادر في المناسبة نفسها، كشف عن هواجس عميقة لا تزال تلازم المشهد الحقوقي، بدءاً من التضييق على الحريات العامة وصولاً إلى بطء معالجة الملفات التاريخية الكبرى.
وأشار المرصد إلى أن العام الجاري شهد اعتقالات طالت ناشطين ومدونين وصحافيين بسبب آرائهم، بعضها تم عبر قوانين فضفاضة تُستخدم لتجريم التعبير، مما خلق جواً من القلق والريبة لدى المدافعين عن حقوق الإنسان.
كما تحدث المرصد عن محدودية الضمانات المتاحة للصحافة، واستمرار المضايقات والاستدعاءات ومصادرة المعدات في بعض الحالات، وهو ما يضع حرية الإعلام في مواجهة متكررة مع السلطات.
ومع أن الخطاب الرسمي يؤكد أن موريتانيا تتقدم في المؤشرات الدولية، ترى المنظمات الحقوقية أن هذه التقدمات لا تُخفي بطئاً كبيراً في معالجة ملفات شديدة الحساسية مثل مخلفات الرق والإرث الإنساني.
فالواقع الاجتماعي لا يزال، حسب المرصد، يعكس مظاهر تهميش متجذرة، ومطالبات الضحايا لم تجد بعد استجابة تتناسب مع حجم الألم التاريخي؛ كما أن الاحتجاجات التي يقودها المتضررون كثيراً ما تُقابل بتدخلات أمنية واعتقالات، في وقت يفترض أن تكون حرية التظاهر السلمي أداة من أدوات البحث عن العدالة وليست ملفاً أمنياً.
ويضيف الواقع القانوني من جهته، طبقة أخرى من التعقيد؛ فالقوانين المثيرة للجدل مثل قانون حماية الرموز الوطنية وقانون الجريمة السيبرانية لا تزال مطبقة رغم الانتقادات الدولية والمحلية، وهي النصوص التي تعتبرها المنظمات الحقوقية أدوات تُستخدم لتقييد الحريات أكثر من كونها نصوصاً لحماية النظام العام.
وفي الوقت الذي تشير فيه الحكومة إلى جهود إصلاحية متصاعدة، يرى الحقوقيون أن غياب إصلاح قانوني واسع ومتوازن يجعل المنظومة برمتها أقل قدرة على حماية المواطن وأكثر قابلية للاستخدام ضد حرية الرأي والتعبير.
وعلى مستوى العلاقات الدولية، تبدو موريتانيا نشطة وملتزمة بتقديم تقاريرها الدورية، كما تستقبل بعثات من الأمم المتحدة وتشارك في لجان حقوقية، وهي خطوة تُحسب لها في سياق التفاعل الإيجابي مع المجتمع الدولي.
لكن هذا التفاعل يتقاطع أحياناً مع ملفات حساسة، خصوصاً في ما يتعلق بالهجرة غير النظامية، حيث تتحدث منظمات دولية عن انتهاكات تشمل الاحتجاز غير الإنساني والترحيل التعسفي وسوء المعاملة، في سياق التعاون الأمني بين موريتانيا والاتحاد الأوروبي للحد من تدفق المهاجرين نحو السواحل الأوروبية.
هكذا إذن، ووفقا للمرصد الموريتاني لحقوق الإنسان، يتضح أن اليوم العالمي لحقوق الإنسان في موريتانيا ليس مناسبة للاحتفال وحده، ولا مساحة للانتقاد فقط، بل هو لحظة للتأمل في صورة بلد يسير في طريق طويل بين الإرادة الرسمية والواقع المجتمعي.
فالنظام القانوني بحاجة إلى إصلاح عميق، والمؤسسات مطالبة بأن تكون أكثر قرباً من المواطن، والسلطات مدعوة لأن تتعامل مع الحق في التعبير والتجمع باعتباره حقاً محمياً لا ورقة ضغط؛ كما أن المجتمع المدني مطالب بدوره في تقديم مقترحات أكثر تنظيماً وأبعد من المواجهة المباشرة.
وإذا كانت ذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان فرصة للاحتفال، فهي قبل ذلك مناسبة لمساءلة الذات، دولةً ومجتمعاً، حول الطريق الذي تم قطعه والطريق الذي لا يزال ينتظر.





