هل باتت “المصالحة” بين المغرب وفرنسا وشيكة حقا؟

20
هل باتت
هل باتت "المصالحة" بين المغرب وفرنسا وشيكة حقا؟

مصطفى واعراب

أفريقيا برس – المغرب. أخيرا، وبعد سنوات الأزمة متعددة الأسباب والأبعاد بين باريس والرباط، تهب رياح مواتية لقيادة سفينة العلاقات بين البلدين في أجواء هادئة. فالظاهر أن الضغوط التي لم تتوقف للنخب السياسية والاقتصادية والدولة العميقة الفرنسية بكامل ثقلها على الرئاسة، قد نجحت في تحويل دفة قيادة السفينة نحو الرباط.. على الأقل، هذا ما توحي به القراءة الأولية لمجمل التحركات الأخيرة.

للوهلة الأولى، تبدو هذه التطورات مقدمات إيجابية لذوبان محتمل وشيك لجليد الأزمة. لكن المراقب، وهو يستحضر الواقع المعقد الذي بلغته العلاقات الفرنسية المغربية، بأبعادها الوطنية والإقليمية والأفريقية، يرى مستقبل تلك العلاقات من زاوية أقل تفاؤلا. والمقال التالي يحاول أن يجيب عن سؤالَي كيف ولماذا..

ظلت العلاقات الفرنسية المغربية، على مدى السنوات الثلاث من عمر الأزمة الحالية، تتأرجح بين جمود وتصعيد ومحاولات يائسة لـ “إنقاذ ما يمكن إنقاذه”. حاولت خلالها باريس لعب الكثير من الأوراق لكسر “عناد” الرباط، فتقاربت كثيرا من الجزائر. بيد أن اللعب على تناقضات العلاقات بين البلدين المغاربيَّين لم ينفع. ثم سعى محيط الرئيس الفرنسي إلى الإضرار بمصالح المغرب داخل هياكل الاتحاد الأوروبي للضغط على الرباط بقوة في ملفات الصادرات الزراعية وحقوق الإنسان والتأشيرة، ولم ينفع ذلك أيضا في تليين مواقف الرباط.

وأخيرا، قررت باريس التهدئة. فكانت استضافة الأميرات شقيقات العاهل المغربي من طرف عقيلة الرئيس الفرنسي، قبل أيام، تلاها الإعلان عن مكالمة هاتفية جرت بين رئيسي الدولتين، ثم زيارة وزير الخارجية الفرنسي إلى الرباط، وسط حديث متواتر عن زيارة محتملة للرئيس الفرنسي إلى المغرب في غضون الشهور المقبلة.

لكن الجانب المغربي يتعامل مع ذلك بحذر مع نوايا باريس لـ “المصالحة. فقد سبق أن عمدت باريس في أوج الأزمة مع الرباط إلى اللجوء إلى القاعدة الاستعمارية القديمة “فرق تسد”، من خلال اللعب على التناقضات الجزائرية المغربية.

فشل اللعب على التناقضات

وضمن هذا المنطق الاستعماري، راهنت فرنسا ماكرون على تطبيع علاقاتها المتوترة مع الجزائر، بمجرد تأزم علاقاتها مع المغرب. لكن سرعان ما تفاقمت الشكوك حول التقارب المعلن بين باريس والجزائر، كما شهدت عليه الزيارة “الرسمية والودية” التي قام بها الرئيس الفرنسي على رأس وفد كبير ضم أزيد من 90 شخصا بينهم سبعة وزراء، إلى الجزائر من 25 إلى 27 أغسطس/آب 2022.

وبينما طرح الإعلام العربي والدولي حينها أسئلة كثيرة حول إمكانية أن يشمل برنامج الزيارة وساطة بين الجزائر والمغرب، ظهر واضحا بأن هذا الاحتمال ليس واردا بتاتا في تفكير الرئيس الفرنسي. وبدا واضحا بأن همه الأكبر كان هو البحث عن ضمان واردات كافية لبلاده من الغاز الطبيعي بسعر تفضيلي من الجزائر.

بيد أن أكثر ما أقلق المغرب في هذه الزيارة كان هو اجتماع زيرالدة، حيث التقى ماكرون بعبد المجيد تبون ضمن برنامج الزيارة في 26 أغسطس 2022، بالضاحية الغربية للجزائر العاصمة، وكان كلاهما مصحوبين برئيسي أركان جيشيهما والاستخبارات، حيث شكل هذا اللقاء سابقة منذ استقلال الجزائر عن فرنسا. وبحسب ما تسرب عن اللقاء، فقد تركزت المباحثات حول برنامج دفاعي وأمني مشترك بين فرنسا والجزائر، وأيضا على “أعمال مشتركة لصالح البيئة الجيوسياسية” أي المحيط الجيوسياسي للبلدين، الذي يشمل بالضرورة المغرب. بالإضافة إلى ذلك، قرر الرئيسان الفرنسي والجزائري إنشاء “مجلس أعلى للتعاون” على مستوى رئاستي الجمهوريتين. وهو ما اعتبره المغرب بمثابة ميثاق أمني يمهد للقيام بأعمال (عسكرية) مشتركة على المستوى الإقليمي، ولا سيما في منطقة الساحل.

لكن تلك “المصالحة” لم تدم سوى بضع أسابيع حتى تعكرت العلاقات بين باريس والجزائر العاصمة من جديد، بسبب قضايا “الذاكرة” مرة أخرى الأثيرة لذى صناع القرار الجزائريين. فسحبت الجزائر سفيرها ثم أعادته بعد أسابيع، وسط صدمة فرنسية استغرقت طويلا. وزادت زيارة الجنرال السعيد شنقريحة، رئيس أركان الجيش الجزائري إلى باريس، يومي 23 و24 يناير/كانون الثاني 2023، من شكوك المغرب. إذ لم تكتف فرنسا بتفادي السير على خطى الولايات المتحدة في الاعتراف بمغربية الصحراء فقط، بل واختارت أن تزود الجزائر بحاجتها إلى السلاح المتطور [بحسب ما اُعلِن حينها] لتعويض السلاح الروسي.

لكن توجه الرئيس الجزائري نحو موسكو بعد ذلك وتوقيعه معها اتفاق شراكة استراتيجية، وعدم قيامه بالزيارة التي كانت منتظرة إلى باريس منتصف العام الماضي، قد قلب أوراق كل من الجزائر وفرنسا وباعد مرة أخرى كثيرا بينهما. واتضح أن فرنسا أثناء كل تلك المحاولات للتقرب من الجزائر، كانت تمارس ضغطا على المغرب حتى يعود إلى “بيت الطاعة”، كما رأى بعض المراقبين. لكن الرباط كانت بالمقابل تعمق شراكتها الاستراتيجية مع مدريد، التي بلغت مستوى غير مسبوق من التطور.

تراجع النفوذ الفرنسي

تم الترويج قبل أسابيع عن فوز مجموعة صينية متخصصة، بصفقة إنجاز مشروع الخط السككي للقطار فائق السرعة، الذي سوف يربط ما بين مدينتي مراكش وأكَادير. وهو الخبر الذي تم تكذيبه رسميا، في سياق “الفيتو” الأمريكي الذي يقال إنه يحرم المغرب من اختيار شركات صينية لتطوير بيته السككية رغم أنها تعتبر رائدا عالميا وشروطها أفضل، عكس مقاولة “ألستوم” الفرنسية.

والواقع أن ثمة عاملا حاسما ساعد المغرب على التحرر من قبضة الابتزاز الفرنسي، هو الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء في أواخر 2020. فقد كانت باريس قبل ذلك، تمارس ابتزازها على المغرب بشكل سافر، لعلمها بأنه يحتاج إليها في قضية الصحراء، باعتبارها عضوا دائما في مجلس الأمن الدولي. وكمثال بسيط على ذلك، نشير إلى صفقة القطار فائق السرعة “البراق” (320 كلم/ساعة) الذي فازت بصفقة إنجازه شركة “ألستوم” الفرنسية دون منافسة وبمبلغ فاق 2,5 مليار دولار. كما فازت بصفقتَي إنجاز القطار الحضري (ترامواي) بكل من الرباط والدار البيضاء، في وقت كانت تلك الشركة الفرنسية تعاني بشدة من ضائقة. ورغم احتجاج المجتمع المدني والخبراء المغاربة على كون تلك الصفقات باهظة، إلا أنها تمت رغم ذلك قبل أزيد من 10 سنوات.

وهو الأمر الذي لم يتكرر مع صفقات السكك الحديدية اللاحقة، حيث تعرض الصين (الرائد العالمي حاليا في القطارات فائقة السرعة) ودول أخرى (بينها إسبانيا) على المغرب، إنجاز الخطين الثاني والثالث من القطار الفائق السرعة “البراق” بأسعار تقل كثيرا عما تطلبه الشركة الفرنسية، وتقبل شروطه بنقل التكنولوجيا لمن خلال تصنيع القطارات بالمغرب الذي يمتلك أقدم خبرة في تصليح وصيانة القطارات بأفريقيا تزيد عن 80 عاما (منذ فترة الحماية الفرنسية).

وتشير الكثير من التقارير الدولية بهذا الصدد، إلى أن منافسة شرسة تجري في الظل، بالأساس بين شركات إسبانية، وصينية، وكورية جنوبية، وألمانية، حول المشاريع المثيرة للعاب التي أطلقها المغرب مؤخرا. فقد تم وضع مخطط ضخم يشمل إنشاء 1000كلم من سكك القطار فائق السرعة “البراق”، بغلاف يزيد على 10 مليار دولار، وأيضا لتعميم شبكات القطار السريع إلى مناطق من المغرب لم يسبق أن شملها، بغلاف مالي ضخم يناهز 25 مليار دولار حتى العام 2040.

وبحسب مصادر إعلامية إسبانية مطلعة، فإن المنافسة هذه المرة شرسة، بحيث تبدو حظوظ شركة “ألستوم” الفرنسية، التي اعتادت الحصول على صفقات بدون منافسة، ضعيفة أمام منافسين أكثر خبرة وبشروط أفضل لصالح المغرب، تتضمن نقل التكنولوجيا.

لقد تفوقت إسبانيا على فرنسا منذ عام 2013 لتصبح الشريك التجاري الرئيسي للمغرب، وهي الآن في طريقها لأن تصبح أيضا أكبر مستثمر أجنبي، بعد تعزيز العلاقات بين مدريد والرباط وتدهور العلاقات مع باريس، بحسب الإعلام الإسباني. فبينما كانت باريس منشغلة بأزمتها مع المغرب منذ ثلاث سنوات، زادت وتيرة هذا التطور في إطار التقارب الذي تلا الاعتراف الإسباني بمغربية الصحراء قبل عامين، حيث تم تطوير مشاريع الطاقة المتجددة والهيدروجين الأخضر، وهي المجالات التي كانت ستهيمن عليها فرنسا في السابق. كما زادت إسبانيا من ثقلها في الاقتصاد المغربي، على سبيل المثال، من خلال مشاركة مقاولاتها حاليا في بناء محطة لتحلية المياه تعد من بين الأضخم في العالم قرب الدار البيضاء، وهو مشروع ضخم بقيمة 800 مليون أورو. وفي الوقت نفسه، تتنافس شركة طاقة إسبانية على مشروع كبير في مجمع “نور ميدلت” للطاقة الشمسية، بجبال الأطلس الشرقي، ولديها حظوظ للفوز بهذه الصفقة.

الصحراء.. عقدة المنشار

بعدما استغلت إسبانيا الظرف، وسارعت إلى إعلان قربها من المغرب، من خلال اعتبارها البديل المغربي الذي يتضمن حكما ذاتيا صحراويا واسعا تحت السيادة المغربية امتثالا لقرارات الأمم المتحدة، باعتباره الحل الأكثر جدية وطريقة موثوقة وواقعية لحل النزاع الصحراوي المستمر منذ نهاية الاستعمار الإسباني للصحراء قبل نصف قرن، لم تبارح فرنسا موقفها في منتصف المسافة بين موقف المغرب وموقف الجزائر، المنافس الأكبر للمملكة في المنطقة المغاربية.

على الرغم من الدعم الفرنسي للمغرب في المنتديات الأممية، منذ طرحه مبادرة الحكم الذاتي في 2007 لحل النزاع المفتعل حول صحرائه بشل نهائي، إلا أن هذه القضية تمثل نقطة الخلاف الشائكة بين باريس والرباط حاليا. فحتى قبل اندلاع الأزمة الحالية بين البلدين، كان المغرب يتوقع أن تحذو الرئاسة الفرنسية حذو الإدارة الأمريكية التي اعترفت صراحة بسيادة المغرب على صحرائه الجنوبية في ديسمبر 2020. لكن بعد تبني إسبانيا في مارس 2022 للطرح المغربي وكذلك ألمانيا والبرتغال وهولندا والإمارات والسعودية وإسرائيل ودولا أخرى عديدة، زاد الضغط المغربي على فرنسا الرئيس ماكرون، التي وجدت نفسها قد خسرت المغرب والجزائر معا في وقت تم طردها من مستعمراتها السابقة بغرب أفريقيا.

بعد محاولات كبيرة لكن يائس للتقارب مع الجزائر منذ خمس سنوات، اقتنعت باريس أخيرا بأنها لم تحقق شيئا مهما من أزمتها مع المغرب.. وبأن حرب كسر العظام وسط المؤسسة العسكرية الحاكمة وبين أجنحة واجهتها المدنية، لن تنتهي قريبا، ما يعني عدم استقرار في سياسة الجزائر لمدى زمني قادم علمه بظهر الغيب.

بحسب مصادر فرنسية غير رسمية أو مقربة من الدولة العميقة الفرنسية، فإن الفترة الحالية تمثل مرحلة جديدة ستشهد قريبا تقاربا وتطبيعا للعلاقات بين فرنسا والمغرب. ويفترض ذلك أن أفضل طريقة لطي سنين الأزمة نهائيا هو اعتراف رسمي واضح وصريح من الدولة الفرنية بمغربية الصحراء. وهو الأمر الذي ألح عليه السفير الفرنسي بالمغرب كريستوف لوكوريي تلميحا، عندما صرح في 16 فبراير/أذار الماضي، بأنه “من المستحيل بناء مستقبل قوي بين البلدين، من دون توضيح الموقف الفرنسي من قضية الصحراء (المغربية)”.

اكتفاء باريس بتكرار دعمها “الواضح والمستمر” لخطة الحكم الذاتي المغربية والتأكيد على رغبتها في إحراز تقدم في هذه القضية الشائكة لم يعد مجديا لتجاوز الأزمة العميقة. وهو الأمر الذي يبدو أن الدولة (وليس فقط الرئاسة) الفرنسية أصبحت مضطرة إلى استيعابه، حيث عبر وزير الخارجية الفرنسي خلال زيارته الأسبوع الماضي للمغرب، بأن “هذه مسألة [يقصد قضية الصحراء] وجودية بالنسبة للمغرب. ونحن نعرف ذلك (…) وحان الوقت الآن للمضي قدما. وسأعمل على ذلك شخصيا”. لكنه بالمقابل لم يعبر عن موقف جديد بخصوصها، حيث استمر في اللف والدوران وإعادة تدوير الموقف الرسمي الفرنسي نفسه، لكن بكلمات أخرى.

المصادر الفرنسية تعتبر أن زيارة وزير الخارجية الفرنسي ستيفان سيجورني، إلى الرباط في 25 فبراير/شباط الأخير ولقاءه مع وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة، كان الغرض الأساس منها هو ضع الأساس لزيارة محتملة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى المغرب، مخطط لها قبل الصيف (ترجح بعض المصادر أن تتم خلال شهر أبريل/أيار أو مايو/نيسان القادمين. بينما سربت بعض المصادر غير الرسمية لكن المرتبطة بأجهزة الاستخبارات الخارجية الفرنسية، تزعم بأن الرئيس الفرنسي سوف يحذو قريبا حذو رئيس الحكومة الإسبانية بيدرو سانشيز الذي اعترف في رسالته الشهيرة للملك محمد السادس في 18 مارس 2022، بمصداقية الطرح المغربي لحل مشكل الصحراء.

بيد أن السؤال يبقى قائما وملحا رغم ذلك: هل يكفي أي اعتراف فرنسي (متأخر) بمغربية الصحراء في طي فصول أصعب أزمة مع المغرب؟ يصعب تأكيد ذلك، في ظل التعقيدات الاقتصادية والجيوسياسية الحالية التي تجعل مصالح البلدين الاستراتيجية الأخرى (التي لا تقل أهمية عن قضية الاعتراف) على طرفي نقيض.

حرب المصالح والنفوذ في القارة الأفريقية

في أواخر مايو/أيار من العام الماضي، كشف الكاتب المغربي أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون “قلل من احترامه لملك المغرب محمد السادس، بعدم تصديقه إياه عندما أعطاه كلمة شرف”. وأضاف بنجلون، الذي كان يتحدث إلى قناة i24 الإسرائيلية، موضحا بأن العلاقات بين البلدين توترت إثر “مزاعم التجسس المغربي على ماكرون باستخدام برنامج بيغاسوس الإسرائيلي”، حيث “أكد الملك محمد السادس لماكرون – خلال اتصال هاتفي بينهما – أن المغرب لم يتجسس عليه، وأن ذلك ليس من أساليبه. غير أن ماكرون لم يصدقه، رغم أن الملك أعطاه كلمة شرف بهذا الصدد. وهو ما أغضب الملك محمد السادس بشدة، لتنقطع العلاقات بين البلدين منذ ذلك الحين”. والطاهر بنجلون معروف بصلاته بمحيط الملك، بحسب العديد من المصادر، كما أنه من الرموز البارزة للتيار الفرانكفوني في المغرب.

بيد أن معطيات موضوعية تستبعد هذا الطرح القائل بكون أصل الخلاف بين البلدين هو “مزاجي” بين قائديهما. ولعل في مقدمتها تضارب المصالح واكتساح المغرب لما تعتبره فرنسا “حديقتها الخلفية”، أو “مجالها الحيوي” الذي تمثله مستعمَراتها السابقة في القارة الأفريقية. وهو موضوع واسع يفسر جزءا كبيرا من الأزمة الفرنسية المغربية التي بدأت صامتة منذ حوالي عقد من الزمان، واتسع مداها وتشعب وخرجت إلى العلن منذ ثلاث سنوات.

لقد كان مشهد اشتعال الشارع في العاصمة السينغالية دكار في مارس 2021، مُعَبرا بكثير من الوضوح عن الوضع الجديد القائم منذ سنوات في عموم المستعمرات الفرنسية السابقة بغرب أفريقيا. فبينما استهدفت احتجاجات السينغاليين الغاضبة بالحرق والتدمير العلامات والرموز الفرنسية بالبلاد، لأسباب كثيرة ليس المجال هنا للتفصيل فيها، كانوا يمرون بسلام على البنوك وشركات التأمين ووكالات شركة الطيران وغيرها من المصالح المغربية. وأثناء الانقلابات العسكرية والمظاهرات التي شهدتها دول المنطقة خلال السنوات التالية وما تلاها، كان المشهد هو نفسه في غينيا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي وغيرها.. حتى إن كثيرا من المحللين الفرنسيين لم يتوقفوا عن التحسر لكون المغرب الذي “غرس جذوره” عميقا في أفريقيا منذ عقود، أضحى في عداد كبار المستفيدين من رياح العداء الأفريقي لكل ما هو فرنسي بالقارة إلى جانب روسيا وتركيا والصين.

وفي هذا السياق، دفع ابتعاد المغرب عن فرنسا إلى الاقتراب بشكل كبير من دول الساحل الأفريقي التي تسعى إلى الانعتاق من هيمنتها. ولأن المجال لا يسمح بالحديث عن كل القطاعات التي تسعى تلك الدول إلى فك الارتباط فيها مع باريس، فإننا سنركز اهتمامنا على القطاع المالي وفي الصميم منه العملة الوطنية.

فباريس التي تلقت ضربات كبيرة بطردها من مالي وبوركينا فاسو والنيجر وإغلاق سفاراتها وتراجع نفوذها السياسي والعسكري، باتت تواجه أزمة جديدة ذات بعد اقتصادي، حيث أعلنت الدول الثلاث عن نيتها تبني عملة جديدة [يروج أنها ستحمل اسم “ساحل”] والتخلي عن عملة “الفرنك الإفريقي CFA “، التي تعتبر من رواسب الاستعمار حيث تخضع لهيمنة البنك المركزي الفرنسي.

وتعود قصة “الفرنك الأفريقي” هذا إلى مرحلة التحرر من الاستعمار، فبعد أن نالت 14 دولة من غرب أفريقيا استقلالها (مجموعة الدول الفرنسية) في 1960، أرغمتها باريس على استخدام عملة موحدة أطلقت عليها “فرنك CFA “، اختصاراً لـ Communauté Financière Africaine أو المجموعة المالية الأفريقية. من خلال العملة نجحت فرنسا في الحفاظ على الهيمنة الاقتصادية على اقتصادات هذه الدول، والتدخل في شؤونها السياسية على مدى الـ 64 عاما الماضية. فهذه العملة تطبعها فرنسا وبالتالي فإن ودائع تلك الدول يتحكم فيها “بنك فرنسا” المركزي. وللتذكير، استعملت باريس هذه العملة سلاحا لضرب استقرار بعض دول هذه المجموعة، كما سبق أن فعلت في غينيا منذ عقود، عندما طبعت وروجت كميات هائلة منها وروجتها داخل هذا البلد حتى ينهار اقتصده، ويسقط بالتالي نظامه الذي كان مناوئا لباريس!

وقد انتشرت بالفعل شائعات عن الاسم المحتمل للعملة “ساحل”، من قبل شخصيات قريبة من الأنظمة في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وتم طرح نماذج من الأوراق النقدية المستقبلية على شبكات التواصل الاجتماعي، تحمل صورة العقيد عاصمي غويتا والقبطان إبراهيم تراوري والجنرال عبد الرحمن تياني.

وقال الجنرال تياني في خطاب نقله التلفزيون الوطني للنيجر قبل أيام، إن “العملة هي خطوة للخروج من هذا الاستعمار”، في إشارة إلى الفرنك الإفريقي وفرنسا القوة الاستعمارية السابقة. وأضاف بأن النيجر ومالي وبوركينا فاسو، وهي ثلاث مستعمرات فرنسية سابقة تديرها الآن أنظمة عسكرية، “لديها خبراءها في المال وستقرر في الوقت المناسب تغيير عملتها”. وتابع الجنرال تياني قائلا: “العملة هي علامة على السيادة والدول الثلاث منخرطة في عملية استعادة سيادتها الكاملة”، مؤكدا أنه “لم يعد هناك أي شك في أن دولنا لن تظل البقرة الحلوب لفرنسا”.

ويأتي تصريح الجنرال تياني بعد أسبوعين من انسحاب مالي وبوركينا فاسو والنيجر من المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس)، والتي يتهمونها باستغلالها من قبل فرنسا، علما أن المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا عارضت الانقلابات العسكرية في الدول الثلاث، وفرضت عقوبات اقتصادية شديدة على مالي، قبل تطبيقها على النيجر.

وخلال قيام “علي مهامان لامين زين” الوزير الأول لجمهورية النيجر، الذي يشغل أيضا منصب وزير الاقتصاد والمالية، بزيارة صداقة وعمل إلى المملكة يومي 12 و13 فبراير/شباط 2024 مرفقا بوفد هام ضم وزيري الخارجية والدفاع، ذكرت تسريبات –رغم تكتم السلطات المغربية الشديد– أن جدول الأعمال شمل مفاوضات متقدمة حول مساعدة مغربية في طبع العملة الجديدة، وتكوين أطر نيجيرية في أفق المساعدة على إنشاء مؤسسة لطبع العملة بالنيجر. فالمغرب لدية مؤسسة وطنية متطورة جدا (دار السكة) لطبع العملات المعدنية والورقية، والوثائق الرسمية (جواز السفر وبطاقة الهوية، الخ)، وكذا الطوابع وغيرها من الإصدارات ذات الحساسية العالية. وهو يعد من بين 9 دول فقط في القارة الأفريقية (التي تضم للتذكير 54 دولة) لديها مؤسستها الوطنية لإصدار العملة.

كما شملت المفاوضات مساعدة الخبراء المغاربة في استغلال مناجم اليورانيوم في النيجر، التي ظلت تستغلها فرنسا بدون حسيب ولا رقيب على مدى عقود طويلة إلى أن أنهى النظام العسكري القائم ذلك. وأيضا قضايا التعاون العسكري (التكوين والسلاح)، وغيرها من المجالات التي كانت النيجر تعتمد فيها بشكل حصري على فرنسا. هذا إلى جانب مبادرة المغرب لربط دول الساحل بالمحيط الأطلسي..

ولهذه الأسباب ولأخرى كثيرة غيرها، اختار المغرب لنفسه موقعا يعادي موضوعيا المصالح الفرنسية بالمنطقة. وبالتالي فإن أي حديث عن “مصالحة” وشيكة بين الرباط وباريس يبدو مجرد أمنية فرنسية صارت بعيدة جدا عن التحقق. فحتى لو “أقنعت” باريس الرباط بأن “تتعاونا” بشكل مشترك في المنطقة الأفريقية في مقابل اعتراف فرنسي محتمل بمغربية الصحراء مستقبلا، كما تدعي بعض القراءات المتهافتة للواقع، فإن المغرب سوف يحكم على نفسه بخسارة ثقة الأفارقة. وهو احتمال مستبعد جدا على اعتبار أن أهمية أي اعتراف فرنسي مفترض بمغربية الصحراء قد تضاءلت منذ 10 ديسمبر 2020، تاريخ الاعتراف الأمريكي.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن المغرب اليوم عبر موقع أفريقيا برس