أفريقيا برس – المغرب. عندما أعلن بلاغ صادر عن القصر في 27 شباط / فبراير 2025 عن تعليق الملك محمد السادس (62 عاما) لأنشطته الرسمية طيلة شهر رمضان لأسباب صحية، لم يفاجئ هذا الإعلان المغاربة، فقد بات معروفا منذ سنوات أن الملك المغربي مصاب بمرض مزمن يجعل صحته تتدهور تدريجيا. وعلى الرغم من أن البلاغ طمأن الشعب بأن “الملك يوجد في صحة جيدة”، إلا أنه أطلق العنان من جديد لِكَمٍّ هائل من التوقعات من داخل المغرب وخارجه، ذهب بعضها حد الزعم بأن “الملك مات” وأن السلطات تتستر على ذلك…
بيد أن خلف المزايدات تعود أسئلة ملحة لتطرح نفسها من وقت لآخر، لعل أبرزها: ما الذي يصيب الملك؟ ومن يحكم المغرب في غيابه؟ وماذا عن قضية الخلافة في حال تعذر مواصلته لمهامه بسبب تدهور صحته أو وفاته؟ ثم ما حقيقة ما يجري تداوله على شبكات التواصل الاجتماعي حول وجود صراع مفترض في أعلى قمة هرم السلطة في المغرب؟
مرض الملك الطويل
لم تكن تلك المرة الأولى التي تعود فيها صحة الملك المغربي إلى دائرة الاهتمام المغربي والدولي. فمنذ العام 2018 تاريخ إجرائه عملية جراحية بباريس لمعالجة عدم انتظام دقات القلب، يقوم القصر بانتظام بإخبار الرأي العام المغربي (والدولي) بمستجدات حالته الصحية. تلت بمدة قليلة إجرائه عملية أخرى سبقتها لإزالة ورم حميد من عينه اليسرى، ثم تدهورت صحته سريعا. فقد أصبح نحيفا يتنفس بصعوبة ويجد صعوبة في الوقوف والسير، بحسب ما أظهرت لاحقا صور ومقاطع فيديو وتسجيلات مصورة لخطبه في التلفزيون المغربي الرسمي. ولم تُعرف طبيعة المرض الذي يعاني منه إلا بعد أن سَرّب الأطباء الأجانب الذي أشرفوا على علاجه بأنه يعاني مرضا مناعيا مزمنا، يقوم بتخريب الأعضاء “النبيلة” في الجسم على مهل.
وزادت حالته الصحية تدهورا ─على ما يبدو─ منذ الصيف الماضي، حيث ظهر خلال إلقائه خطابا في 29 يوليو 2024 متعبا للغاية ينطق بصوبة ويرتعش. وأبدى صعوبة أثناء وقوفه تحية للعلم الوطني، ما دعا ابنه ولي العهد إلى التدخل لمساعدته في الجلوس على الكرسي.
وفي 28 أكتوبر 2024 عندما استقبل الرئيس الفرنسي خلال زيارته الرسمية للمغرب، ظهر وهو يتكئ على عكاز طبي. وانتشرت حينها تفسيرات طبية غير رسمية تفيد بأن السبب يعود إلى معاناة الملك من تبعات “انكماش عضلي على مستوى الظهر من جهة اليمين بسبب ضغط العصب الوركي”. وقد ظهرت عليه هذه الأعراض الطبية بشكل واضح بعد ذلك، على الخصوص خلال استقباله أعضاء الحكومة في نسختها الجديدة بعد التعديل الحكومي الأخير، وكذا أثناء مراسم تعيين الولاة والعمال الجدد.
وفي الثامن من ديسمبر 2024 الماضي، تعرض الملك لحادث سقوط “أثناء ممارسته لنشاط رياضي معتاد”، بحسب ما كشف بلاغ رسمي صدر عن القصر. وتسبب السقوط في “إصابة في الكتف الأيسر مع كسر في عظم العضد”، حيث تم “إجراء عملية جراحية ناجحة على الفور” في عيادة القصر الملكي”، الذي أضاف: “سيظل كتف العاهل ثابتًا لمدة 45 يوما”.
بعد ثمانية عشر يوما من خضوعه للعملية الجراحية، سافر محمد السادس إلى أبو ظبي حيث أمضى إجازة لمدة 50 يوما إلى غاية 14 فبراير. ثم شوهد مرتين وهو يتجول مع أصدقائه في مركز تسوق كبير يضم متاجر فاخرة. في الفيديو الأول، كان يمشي ببطء وساعده معلق في حمالة ويرتدي بدلة رياضية. وفي الفيديو الثاني، كان يركب سيارة كهربائية صغيرة تشبه تلك المستخدمة في المطارات الكبيرة للأشخاص ذوي الحركة المحدودة.
من يُسَيِّر المغرب؟
في سياق ذلك، تطرح غيابات الملك المتكررة والطويلة سؤالا كبيرا: من يحكم المغرب في غياب الملك؟
ليس سرا أن من تقاليد “المخزن” وجود “حكومة موازية”، سبق أن سماها بعض معارضي الزمن الماضي بـ “حكومة الظل”. وتتشكل من مستشارين للملك لديهم دواوين ومكاتب في القصر، وكل مستشار منهم مكلف بمهمة محددة. وهؤلاء معروفون بأسمائهم وصفاتهم، وعلى رأسهم يوجد فؤاد عالي الهمة (63 عاما) الذي يعتبره الكثيرون ثاني أقوى رجل في البلاد بعد الملك.
وعالي الهمة ليس مستشار الملك فقط، فهو أيضا صديق مقرب له وكان رفيق دراسته وأحد أكثر المقربين منه. بعد إنهاء دراسته، التحق بوزارة الداخلية لمدة قاربت 8 سنوات بدأها ككاتب دولة ثم كوزير منتدب، وذلك خلال الفترة ما بين سبتمبر 1999 وأغسطس 2007، أي منذ اعتلاء الملك محمد السادس العرش، وإلى غاية تاريخ استقالة الهمة من مهامه ليخوض الانتخابات البرلمانية في دائرة الرحامنة (شمال مراكش) في سبتمبر 2007.
وكان الهمة وراء تأسيس حزب الأصالة والمعاصرة الذي يعتبره خصومه “حزبا إداريا”. وكان من المنتظر أن يقوده لأن يصبح وزيرا أولا بعد “اكتساحه” لنتائج الانتخابات التشريعية لسنة 2012، إلا أن حراك 20 فبراير 2011 الذي رفع شعارات مناوئة، وكذا تفاعل الملك محمد من خلال تغيير الدستور والدعوة إلى انتخابات سابقة لأوانها طوت فصول هذا المسار، بعد أن فاز حزب العدالة والتنمية بالانتخابات. فاستقال الهمة من حزب الأصالة والمعاصرة وعينه الملك مستشارا له. ورغم أنه قليل الظهور في الإعلام ولا يتدخل بشكل سافر في مجريات الحياة السياسية سواء في حضور الملك أو غيابه، إلا أن تقارير غربية تقول إن له يدا طولى وكلمة نافذة في كل القرارات التي تُتخذ في البلاد. بل واعتبره شباب 20 فبراير قبل 14 عاما، الحاكم الفعلي للمملكة وصاحب النفوذ والكلمة داخل القصر الملكي…
إعداد وليّ العهد
في بلد كالمغرب يحمل فيه الملك أيضا صفة أمير المؤمنين والقائد العام للجيش ويحوز مفاتيح المملكة، يُمثل ظهوره العلني سببا رئيسا لإشاعة الاستقرار والثقة في الدولة. فالمَلَكية تحتفظ بقاعدة شعبية كبرى في البلاد إلى درجة أن أغلب الأحزاب والهيئات لم تعد تجادلها في شرعيتها السياسية والدينية. ومنذ حوالي 80 سنة، لم تعد مسألة وراثة العرش في المغرب متروكة للظروف والصدف، حيث كان الملك محمد الخامس أول ملك من سلالة الملوك العلويين ─التي تحكم المغرب منذ العام 1664 للميلاد وحتى اليوم─ الذي عين ابنه الأكبر الأمير الحسن وليا للعهد (أصبح ابتداء من 1969 ملكا يحمل اسم الحسن الثاني). وبالتالي تم حسم مسألة تداول الحكم بين الملوك من الأب للابن الأكبر في الدستور، ومنذ ولادته في 8 مايو 2003 (سيبلغ في الثامن من مايو القادم 22 سنة من عمره)، كان الأمير الحسن بن محمد السادس منذورا لأن يصبح في يوم من الأيام بدوره ملكا للمغرب يحمل اسم “الحسن الثالث”.
وبذلك فإن مسألة خلافة الجالس على عرش المغرب محسومة نهائيا لفائدة الابن الأكبر للملك، وليس لأي أمير آخر من العائلة الملكية (شقيق الملك محمد السادس الوحيد الأمير رشيد، مثلا، أو حتى ابن عمه الأمير هشام الذي يخالفه الرأي والملقب بـ “الأمير الأحمر” لكونه معارضا لأسلوب الحكم القائم في المغرب).
بيد أن تراجع الحالة الصحية للملك محمد السادس خلال السنين العشر الأخيرة، أشاع حالة من القلق تعكسها بشكل جلي المنشورات والتعليقات على الشبكات الاجتماعية. وبالنتيجة تراجع حضوره ونشاطه الرسمي بشكل كبير، في مقابل محاولة جعل ولي العهد الحسن (22 سنة) يملأ ─بشكل أبكر من المتوقع─ هذا الفراغ الذي يكبر.. بحيث أصبح من الواضح أنه يجري إعداده على قدم وساق حتى يكون جاهزا لاعتلاء العرش في أي وقت.
في 14 يونيو 2009، كانت المرة الأولى التي يسمع فيها المغاربة الأمير الصغير يلقي خطابا بين يدي والده الملك، خلال حفل نهاية السنة الدراسية بالمدرسة الأميرية بالقصر الملكي في الرباط. بيد أن حفل نهاية السنة الدراسية 2011-2012 كان مناسبة ليظهر الأمير الحسن أن لديه مهارات فنية متميزة، ويتحدث بطلاقة العربية والفرنسية والإسبانية والإنجليزية. كما أظهر اطلاعه بالأمور الدينية وحفظه للقرآن الكريم.
ومع بلوغه سن الرشد في 2021، نقله الإعلام التلفزيوني إلى جانب والده في نشاطات رسمية دولية، كما أنه يحضر أنشطة رسمية إلى جانب كبار ضباط الجيش. كما أنه ينوب عن والده وبتكليف رسمي منه في شتى المهام والمناسبات. وفي 21 نوفمبر 2024 الماضي، استقبل ولي العهد الشاب بتكليف من والده، الرئيس الصيني شي جينبينغ الذي قام حينها بزيارة قصيرة بالغة الأهمية للمغرب. فبدا منشرحا ومنسجما في دور رئيس الدولة المستقبلي الشاب، وتعامل برباطة جأش مدهشة وهو إلى جانب واحد من أبرز قادة عالم اليوم.
والمعروف أن إسبانيا (إلى جانب الجزائر) تعتبر من أكثر دول العالم انتباها لقضية ما بعد الملك محمد السادس. ولذلك ينشر الإعلام الإسباني (الإعلام الجزائري له لغته “المختلفة”) تقارير وأخبارا حول مرض الملك ونشاطات ولي العهد.
“لم نر أميرا في سنه يعامل الملوك والرؤساء بهذه الراحة”، بهذه العبارات وصفت صحيفة “الإسبانيول” ولي العهد، الأمير الحسن، وهي تسلط الضوء على الملك المقبل للمغرب.
صراعات داخل دوائر الحكم؟
تتحدث تقارير إعلامية جزائرية وكذا بعض المعارضين المغاربة بالخارج (اليوتيبر هشام جرندو المتواجد بكندا مثلا) باستمرار، عن وجود انقسامات داخل الأسرة الملكية حول مسألة الخلافة، حيث تفضل بعض الأطراف الأمير رشيد لتولي الحكم، مما يفتح الباب أمام أزمة ولاء وصراع داخلي قد تُهدد استقرار المملكة. أو وجود صراعات وحروب بلاط بين أبرز الماسكين بزمام السلطة في البلد، أو حتى إعداد الجيش للقيام بـ “انقلاب”، الخ… وهي شائعات يؤججها ويشجع على تناسلها غياب الملك الطويل عن الساحة، والغموض الذي يحيط بحالته الصحية.
لكن الواقع أن من يعرف جيدا آليات اشتغال الحكم في المغرب ─في حضور الملك أو غيابه─ يدرك جيدا أن جلوس شقيق الملك على العرش مسألة مستبعدة جدا، لأسباب سبق الاشارة إليها، وأخرى لا يمكن الخوض فيها هنا. أما احتمال أن تنقلب شخصيات أو هيئات عسكرية أو مدنية على النظام، فهذا احتمال أصبح بعيدا منذ عقد السبعينيات حيث حصل تشتيت منهجي لمراكز السلطة، بحيث أضحى التنسيق بينها ─دون أن ينكشف أمرها─ أمرا شبه مستحيل.
الصحفي علي المرابط مدير صحيفتَي “دومان” و”دومان ماغازين”، سبق الحكم عليه في 2005 بـ “المنع من الكتابة الصحفية لمدة عشر سنوات”، وأداء غرامة مالية وصلت إلى 50 ألف درهم. وهو الحكم الذي اعتبرته حينها المنظمات التي تعنى بالدفاع عن حرية التعبير والصحافة في المغرب بأنه “أسوأ حكم ضد الصحافة صدر في المغرب”. وتعرض للمنع من إصدار صحف بالمغرب، ما دفع به إلى الاشتغال مع صحف إسبانية ثم إطلاق قناة إعلامية على شبكات التواصل.
المرابط الذي سمحت له علاقاته بأصحاب القرار في المغرب وفرنسا (يحمل جنسيتها) وإسبانيا، يعتبر من الصحفيين الأوسع اطلاعا على كواليس دوائر صنع القرار في المغرب. يقول تعليقا على ما يروج من إمكانية القيام بانقلاب: «إن من باستطاعته الانقلاب ضد الملك محمد السادس أو ابنه الأمير الحسن بالسلاح هو الجيش. وأنا لا أعتقد بأن الجيش سيقوم بانقلاب ولا أن يسمح لأطراف أخرى مدنية بالانقلاب على النظام الحالي. صحيح هناك مؤامرة تدبرها أطراف من “البنية السرية” لأنها خائفة. نعم هؤلاء الذين يظهرون أنفسهم اليوم أقوياء ويرسلون المعارضين إلى السجن خائفون، ويريدون ضمانات لمستقبلهم. فهم يستحضرون نموذج إدريس البصري الوزير القوي في عهد الحسن الثاني، الذي كان جمع بين يديه صلاحيات وزير الداخلية والشرطة والمخابرات، بل وكان يسيطر على جزء من اقتصاد المغرب. وهذا أمر غير مسبوق في تاريخ المغرب المعاصر، حيث جمع بين يديه كل السلطات لكن ذات يوم [عند وفاة الحسن الثاني] انتهى أمره.
«وعندما أجريت معه حوارا لحساب صحيفة “إلموندو” الاسبانية [بعد لجوئه إلى فرنسا] كشف لي أسرارا طلب عدم نشرها، وأسرّ لي بأنه تعرض لمحاولة اغتيال في باريس من طرف جهات كانت تتآمر ضد الملك وتمت إقالتهم من مناصبهم». وبالتالي فإن التاريخ يعيد نفسه، و«هؤلاء الذين يرسلون الناس اليوم إلى السجون قد يجدون أنفسهم في مستقبل قريب هم أنفسهم في السجن. ولا زلت أذكر أن إدريس البصري الذي ملأ الدنيا وشغل الناس لعقود تحت حكم الحسن الثاني، اعترف لي عاما أو عامين قبل وفاته بأن “وسخ نفسه كثيرا”. فقد تعرض للاعتقال من طرف خمسة جنرالات للجيش والدرك أثناء جنازة الحسن الثاني، وقاموا بالاعتداء عليه بالضرب لأنه أغلق الحدود. والذي أنقذه من قبضتهم هو الأمير هشام ابن عم الملك، الذي كان يمر بالمكان صدفة.
إذن فإن “البنية السرية” لن تحتاج إلى القيام بانقلاب لأنها تعلم بأن الجيش هو الضامن لاستقرار الملكية. بالتالي فإن الجيش والدرك الملكي يراقبون ما يجري، ولن يسمحوا لأية جهة كانت بالانقلاب عليها».
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن المغرب عبر موقع أفريقيا برس