أفريقيا برس – المغرب. على نحو مدهش، اتسمت معركة الـ 12 يوما بين إسرائيل وإيران بتفاعل باهت من الشارعين العربي والإسلامي مع مجرياتها بشكل شبه مطلق من خلال الشبكات الاجتماعية.
فباستثناء الشارع المغربي الذي شهد وقفات تضامنية مع إيران، اكتفى باقي العرب والمسلمين بالتفاعل مع أكبر مواجهة مع الكيان منذ أكثر من نصف قرن، من خلال التدوينات والتغريدات المتحمسة جدا لصور الدمار التي كشفت هشاشة الكيان الإسرائيلي، والتي لا تكلف أصحابها سوى نقرة بطرف أصابعهم على هواتفهم. بينما لم تكلف “الجماهير العريضة” نفسها الخروج إلى الشوارع العربية والإسلامية، لترفع عاليا صوت تضامنها مع إيران وغضبها من الكيان الإسرائيلي. واستوى في ذلك الشارعان السني والشيعي.
وفي سياق تقييم مواقف “الاستثناء المغربي” نفسه، وجبت الإشارة إلى أن تضامن غالبية المغاربة مع إيران كان متحفظا، لأسباب سياسية تتعلق أساسا بموقفها الذي يعتبرونه “سلبيا” من قضية الصحراء. والتقرير التالي يستعرض أبرز المواقف المغربية والرسمية والشعبية من هذه المعركة المفصلية…
مع اشتعال “معركة السماء” بين الكيان الإسرائيلي وإيران، بدا موقف المغاربة منقسما على نفسه بحدة بين ثلاثة اتجاهات رئيسة: موقف رسمي غير واضح، وموقف شعبي مساند لإيران بتحفظ لأنه معادي بالضرورة لإسرائيل، ومواقف الأطراف السياسية والمجتمع المدني والإعلام، التي تباينت بحدة بين موقف مؤيد بالمطلق لإيران، وموقف مؤيد بتحفظ لها، وموقف معارض تماما لها ومعادٍ لإسرائيل، وموقف معارض لإيران ومؤيد لإسرائيل.
وعموما، برزت آراء متباينة على مستوى التفاعل الشعبي، توزعت بين من اعتبر الهجوم الإسرائيلي تصعيدا خطيرا يهدد الأمن الإقليمي ويتنافى مع القانون الدولي، وبين من يرى في إيران دولة توسعية تنتهج سياسات عدائية تجاه المغرب والعالم العربي، ولا تستحق بالتالي أي تعاطف، في ظل دعمها المستمر للانفصاليين في قضية الصحراء المغربية وراعيتهم الجزائر.
المغرب الرسمي “يراقب بحذر”
ساد الموقف الرسمي (موقف الدولة وليس الحكومة التي لا تسير الشأن الديبلوماسي) “ترقب حذر”، ولم يعبر بالتالي عن نفسه طيلة أيام المعركة إلى حدود يومها الـ 12. وبعبارة أكثر دقة، فقد تعاملت الرباط بتجاهل رسمي كان من أبرز مظاهره غياب المغرب عن بلاغ مشترك ضم العديد من الدول العربية والإسلامية، التي عبرت عن إدانتها للهجوم الإسرائيلي على إيران. بينما لم يصدر عن الرباط أي تعليق أو موقف سياسي حول “معركة السماء”، التي تخوضها تل أبيب وطهران بشكل غير مسبوق.
وهذا الموقف (أو اللاموقف) الذي يرى فيه كثير من العرب والإسرائيليين وحتى المغاربة على شبكات التواصل الاجتماعي “خيانة”، ينظر إليه محللون مغاربة وغربيون باعتباره نهجا براغماتيا يتبناه المغرب الرسمي، يقوم على مبدأ الدفاع على المصالح العليا للبلاد، وليس الاصطفاف داخل محاور وراء المبادئ. وقد ذهبت تحليلات إلى أن المغرب وجد نفسه أمام مأزق استراتيجي بالغ التعقيد، دفعه إلى عدم التصريح بدعم أو مهاجمة أي من طرفي المعركة. ولم يخرج عن “صمته الاستراتيجي” إلا عندما تعرضت قاعدة العديد القطرية، الاثنين الماضي، لهجوم صاروخي إيراني. حينها عبرت الرباط إلى جانب عواصم عربية أخرى عن إدانتها للاعتداء الإيراني على قطر.
وتذهب تحليلات جيواستراتيجية أن المغرب يعي تماما أنّ “معركة السماء” المستعرة بين طهران وتل أبيب، ليست سوى مظهر من مظاهر إعادة الصراع على النفوذ والتموقع الجيوسياسي في مناطق حساسة بالشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
وما بعدها لن يشبه ما قبلها بما يُنتظر أن تحمله من تحولات قد تطال بتداعياتها غير المباشرة لبّ المصالح المغربية العليا، وفي صدارتها قضية الصحراء. فالمغرب يجد نفسه مطالبا بموازنة التزامه التاريخي بمساندة القضية الفلسطينية، من جهة، مع رفض تدخلات إيرانية في شؤونه الداخلية ودعمها للمناورات الانفصالية التي تهدد وحدته الترابية.
إن انتصار إيران وتراجع إسرائيل في هذه الحرب (رغم أن هذا غير وارد بسبب الدعم الأمريكي الكبير) من شأنه أن يخلق واقعا إقليميا جديدا، قد لا يكون في صالح المغرب. فتزايد النفوذ الإيراني في المنطقة سوف يوفر دعما مباشرا أو غير مباشر للجزائر، ويشجعها أكثر على التصعيد ضد المغرب، سواء عبر ذراعها البوليساريو أو ربما أبعد من ذلك. كما أن أي هزيمة لإسرائيل قد تحرم المغرب من شريك تكنولوجي واستراتيجي فعال في ظل التوازنات الحالية المعقدة.
لكن السيناريو المعاكس لا يتمناه المغرب لأنه لا يخلو بدوره من مخاطر. فهزيمة إيران وانفراد إسرائيل بالهيمنة في المنطقة، قد تدفعها إلى استغلال تفوقها لفرض أجندتها السياسية والأمنية بشكل أكثر عدوانية. فالتجارب أثبتت أن إسرائيل تتحرك بمنطق فرض الهيمنة وإعادة رسم الخرائط، بما يضمن مصالحها فقط. وهي ليست بالتالي على استعداد للقبول بوجود دولة مستقلة (المغرب)، حتى وإن كانت خارج نطاق الصراع معها.
ولهذا يبدو مفهوما ترقب المغرب الحذر لتطورات “حرب السماء”، بانتظار ما ستنتهي إليه…
خطاب “محور المقاومة أولا “..
بانتظار ذلك، وفي الوقت الذي يتابع فيه العالم مجريات التصعيد العسكري الخطير بين إيران وإسرائيل، تشهد الساحة المغربية حربا من نوع آخر. حرب أسلحتها ليست الصواريخ ولا المسيرات، بل التدوينات والمواقف المتضاربة والمتطرفة حتى في عنفها، على مواقع التواصل الاجتماعي. وتعكس هذه الحرب الرمزية انقسامات أيديولوجية وثقافية عميقة تخترق المجتمع المغربي، تصدرتها حرب تيارات الإسلاميين والحركة الأمازيغية.
التيار الإسلامي المعتدل (الإصلاحي) في المغرب، ممثلا بحزب العدالة والتنمية وبعض الجمعيات والتنظيمات ذات التوجه الديني، خرج بمواقف تساند إيران فيما اعتبره “معركة وجودية ضد الكيان الصهيوني”. وتماهت هذه المواقف مع الخطاب “العروبي المتشبع بمبادئ العروبة وشعارات الأمة الواحدة، الذي يرى في القضية الفلسطينية جوهر الصراع في المنطقة. وفي هذا الصدد، ذهب الحماس بعبد الإله بنكيران، الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، بعيدا في الإشادة بإيران، واصفا إياها بـ “الدولة الوحيدة التي تدعم فلسطين فعليا”.
فبعيد انطلاق العدوان الإسرائيلي على إيران، سارع حزب العدالة والتنمية إلى إدانة هجوم إسرائيل على إيران بشدة، واصفا إياه بـ “العدوان الصهيوني الغادر” الذي استهدف عددا من المدن الإيرانية وخلّف في أعقابه شهداء من المدنيين والقادة والعلماء، في تصعيد “همجي وغير مسبوق”. وأضاف الحزب، في بلاغ رسمي، أن هذا العدوان يُعد انتهاكا صارخا لسيادة دولة عضو في الأمم المتحدة [إيران]، واستباحة ممنهجة لمقدراتها وبنياتها التحتية، في تحدٍّ سافر لكل المواثيق والقوانين الدولية، وسط صمت دولي مُخزٍ وتواطؤ أمريكي مطلق، عسكريا وسياسيا ودبلوماسيا”.
وموقف المساندة المطلقة نفسه لإيران مع مهاجمة الكيان الإسرائيلي والإمبريالية الأمريكية، تبنته لكن تحت شعارات مختلفة، بعض الأحزاب اليسارية كفيدرالية اليسار وحزب “النهج الديمقراطي ” الماركسي اللينيني، متجاهلة ما يؤاخذه غالبية المغاربة على طهران بشأن قضية الصحراء المغربية، وربطت موقفها أساسا بموقف إيران الثابت تجاه دعم القضية الفلسطينية، ولكون إيران تُعتبر رمزا لمناهضة الاستعمار والصهيونية في الشرق الأوسط، وبالتالي دعمها في مواجهة إسرائيل هو دعم للمبادئ الإنسانية. كما تضامنت معها مركزيات نقابية كبرى (الكونفدرالية الديمقراطية للشغل)، والمنظمات غير الحكومية المناصرة للقضية الفلسطينية، وغيرها.
وقد واجهت مواقع إعلامية مقربة من السلطات المغربية المتضامنين مع إيران في معركتها ضد إسرائيل، عبر منشورات أخذت شكل حملة منظمة. ذكّرتهم فيها بأن “إسرائيل قدمت دعما مهما للمغرب في قضايا عدة، مثل دعمها له في نزاع الصحراء”. وانتشر بالمقابل على نحو واسع بين المغاربة على شبكات التواصل الاجتماعي، منشور لأحد أتباع جبهة البوليساريو يُدعى طالب سالم مع صور له في عناق حار مع رضا زبيب سفير إيران بإسبانيا. ويشرح فيها الناشط الصحراوي أنه خلال وقفة تضامنية شارك فيها أمام سفارة إيران بالعاصمة الاسبانية مدريد، استغل اقترابه من السفير ليخبره بأنه من “الصحراء الغربية ويتمنى النصر لإيران في مواجهة الإمبريالية. بحسب نفس الناشط فإن السفير زبيب رد بابتسامة قائلا: “أنا أيضا أتمنى أن تصبح الصحراء الغربية حرة مستقلة”.
خطاب “المغرب أولا “..
نأت أغلب الأحزاب المغربية (حكومية ومعارضة برلمانية) بنفسها عن التعبير عن مواقف تؤيد هذا الطرف أو ذاك، واكتفت بقصر اهتمامها بالشأن المغربي. وهي في ذلك تماهت مع موقف الدولة المغربية الذي اكتفى بمراقبة ما يجري، بانتظار ما ستؤول إليه الأمور. وأما المغرب الشعبي، أي عامة المواطنين، فقد مال بالفطرة إلى مساندة إيران لكن بتحفظ، تبرره اعتبارات عديدة.
موقف إسلاميي المشاركة والتغيير من داخل المؤسسات (وفي مقدمتهم حزب العدالة والتنمية وأذرعه الدعوية) بدا غير متوافق مع عدد من الذين يتقاسمون معهم المرجعية نفسها. فقد عبر عدد كبير من أبناء التيار الإسلامي في المغرب عن انتقادهم له بسبب ما تمثله إيران من تهديد سواء للمغرب أو في حق المسلمين السنة بالمنطقة. وتعرض حزب العدالة والتنمية لحملة عدائية من الإعلام المرتبط بالحكومة، الذي هاجمه مذكرا إياه بأن إيران راكمت مواقف ومؤامرات عديدة ضد المغرب. وهو ما حمل زعيمه عبد الإله بنكيران على توضيح موقفه قائلا: نحن مع إيران في مواجهة إسرائيل، ومع المغرب في مواجهة إيران”.
في المقابل، عبر تيار واسع من الحركة الأمازيغية عن موقف واضح ومباشر، تحت عنوان كبير “مصلحة المغرب أولا”. ويرى نشطاء هذا التيار أن الانخراط في دعم أي طرف في صراع الشرق الأوسط، يجب أن يخضع لمنطق براغماتي ووطني، لا على ولاءات دينية أو عاطفية. فبالنسبة لهؤلاء، إيران ليست سوى “دولة توسعية ساهمت في تأجيج الصراعات الطائفية وتدمير دول عربية”، وامتد دورها السلبي – وفقا لمنشوراتهم – إلى شمال أفريقيا بدعمها لجبهة البوليساريو. وتساءل بعض نشطاء التيار الأمازيغي في هذا الصدد على فيسبوك: “كيف يمكننا أن نناصر دولة تمول مليشيات تسعى إلى اقتطاع جزء من وطننا؟”
بالمقابل، تنظر نخبة الحركة الأمازيغية إلى إسرائيل باعتبارها “شريكا استراتيجيا” داعما لمغربية الصحراء، حيث ترتبط مع المملكة باتفاقيات أمنية وعسكرية واقتصادية، في وقت قطعت الرباط علاقاتها مع طهران منذ 2018 بسبب معاداتها للوحدة الترابية للمغرب.
الملاحظ أن زعماء التيار السلفي (بكل تلاوينه) الذين اعتادوا الركوب على كل مناسبة صغيرة وكبيرة للظهور، توارى أغلبهم (بمن فيهم المحسوبين على بعض دول الخليج). وفي المقابل، لمع نجم الداعية المعروف عبد الله نهاري، بعدما خرج في فيديو عبر قناته على “يوتيوب”، ليهاجم الإسلاميين الذين عبروا عن موقف مؤيد لإيران في مواجهتها لإسرائيل، معتبرا أن “كلا البلدين المتحاربان يعاديان الأمة وارتكبا في حقها جرائم كبيرة”.
وأضاف قائلا إنه “إذا كنا نصطف إلى جانب إيران ضد إسرائيل لأنها تستعمر فلسطين، فإن إيران تستعمر الأحواز، الدولة السنية العربية ومنعتها من اللغة العربية السنية، وهي تمثل أضعاف مساحة فلسطين. والإيرانيون أخذوا سوريا لولا الألطاف الإلهية، وسلمت لهم العراق بأكملها، واليمن، ولبنان التي صارت دولة ولاء لولاية الفقيه”، فإذا كان المعيار هو الاستعمار، فإن حجم البلاد المستعمرة من طرف إيران تتقدم على إسرائيل بمئات الكيلومترات. وهذا زعم أعتبره باطلا”.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن المغرب عبر موقع أفريقيا برس