الأراضي الصناعية المهجورة بالدار البيضاء كنز منسي

5
الأراضي الصناعية المهجورة بالدار البيضاء كنز منسي
الأراضي الصناعية المهجورة بالدار البيضاء كنز منسي

أفريقيا برس – المغرب. خلف محطة القطار الدار البيضاء مسافيرن، وعلى بُعد خطوات من حي الصخور السوداء، يمتد فضاء واسع يلفّه الصمت. في المكان الذي كانت تضج فيه الآلات وتتعالى فيه خطوات العمال قبل عقود، لم يبقَ اليوم سوى أرض بور منسية عند هامش الذاكرة الحضرية. يُعرف هذا الموقع باسم عين بورجة، ويجسّد مشهدًا مألوفًا في كبريات المدن المغربية: أراضٍ فارغة، مصانع مهجورة، ومناطق مهملة في قلب المدينة نفسها.

تطرح هذه المساحات سؤالًا جوهريًا: هل ينبغي النظر إليها كندوبٍ تشوّه وجه المدينة، أم ككنوزٍ نائمة تحمل في طيّاتها فرصة لتحويل ملامح الدار البيضاء؟ بالنسبة للمهندس المعماري مهدي بصري، مؤسس مكتب دياغرام للهندسة المعمارية وأستاذ في مدرسة الهندسة المعمارية بالدار البيضاء، الجواب لا لبس فيه: «هذه الفضاءات تمثل رافعات قوية للتحول». ويضيف: «المدينة كجسدٍ حيّ، قد تتوقف بعض أنسجته عن العمل، لكنها تظل قابلة للتجديد. وبالمثل، يمكن إحياء الأراضي الحضرية المهجورة لتعيد النبض إلى الجسد الحضري بأكمله».

بناء المدينة فوق المدينة

على مدى عقود، توسعت الدار البيضاء – شأنها شأن معظم المدن المغربية الكبرى – على حساب الأراضي الزراعية والمساحات الطبيعية. هذا التمدد العمراني غير المتوازن يلتهم موارد ثمينة ويزيد الضغط على البيئة.

يقول بصري: «علينا أن نتعلّم الطهي بما لدينا في الطبق. أي بدل استهلاك أراضٍ جديدة، لنبنِ المدينة فوق المدينة نفسها. فذلك خيار بيئي مستدام ومحفّز لديناميات اجتماعية جديدة».

تشهد الدار البيضاء اليوم نموًا سريعًا بمعدل هكتارين يوميًا، ما يجعل الأراضي المهجورة أشبه باحتياطي عقاري منسيّ، كثيرًا ما يوجد في قلب المدينة. فقبل نصف قرن، كانت هذه الأراضي تقع على أطراف الحاضرة، لكن الزحف العمراني ابتلعها ووضعها في مواقع استراتيجية بالغة الأهمية.

عين بورجة.. تراث نائم

تمثل الأرض المهجورة في عين بورجة هذا الإمكان بوضوح. فعلى بُعد خطوات قليلة من المحطة، تقع عند تقاطع عالمين: من جهة، حي بلفيدير النابض بالحياة بمقاهيه ومتاجره، ومن جهة أخرى، أرض خالية تنبض بذكريات الماضي.

«عين بورجة هي أولاً ذاكرة»، يقول بصري. «لقد كانت هذه المنطقة المحرك الصناعي للدار البيضاء، تحيط بها المدن العمالية. تضم عمارة فريدة تمزج بين أسلوبي الآرت ديكو والطراز الموريسكي الجديد، وهي جديرة بأن تُكتشف من جديد. إن إعادة تأهيل هذا الحي تعني أيضًا استعادة هذا التراث المجهول وتعريف سكان الدار البيضاء بتاريخهم».

لكن الرهان يتجاوز البعد التراثي. فالمسألة تتعلق بإعادة ابتكار فضاء معيشي قادر على احتضان أنشطة جديدة: حدائق، ومرافق ثقافية، ومساحات عمل، وسكن. «يمكن لهذه الأحياء أن تصبح منصات انطلاق للشباب المغربي، وفضاءات منفتحة وشاملة للجميع»، يضيف المهندس.

أمثلة ملموسة قيد التنفيذ

بدأت الدار البيضاء بالفعل هذا التحول. فقد شُيّد مركز كازا فاينانس سيتي على أراضي مطار أنفا القديم، بينما يحتل حي المارينا اليوم المساحات المينائية المهجورة سابقًا. ورغم الجدل الذي أثارته بعض هذه المشاريع، فإنها تُظهر قدرة التجديد الحضري على تغيير صورة المدينة وتعزيز جاذبيتها.

«الأرض المهجورة هي صفحة بيضاء»، يلخص بصري. «يمكننا أن نكتب عليها قصة جديدة: تحويل مستودع إلى سوق مغطى، أو مصنع إلى مركز ثقافي، أو أرض فارغة إلى حديقة. حتى المصنع القديم يمكن أن يصبح المكان المفضل لجيل جديد».

قضية بيئية واجتماعية

يتجاوز الأمر تحسين الصورة أو الجاذبية، إذ تُعالج إعادة تأهيل الأراضي المهجورة حالة طوارئ بيئية حقيقية. فالدار البيضاء لا تتوفر سوى على متر مربع واحد من المساحات الخضراء لكل ساكن، بعيدًا عن 10 أمتار مربعة التي توصي بها منظمة الصحة العالمية.

«تجديد هذه المواقع يعني أيضًا خلق متنفسات للمدينة»، يوضح بصري. «إقامة حدائق وساحات عامة، وتطوير وسائل تنقل سلسة حول المحاور المتعددة – المحطات، الترامواي، الحافلات، سيارات الأجرة – من شأنه أن يُحدث فرقًا في الحياة اليومية لسكان الدار البيضاء».

كما لا تقل القضية الاجتماعية أهمية عن البيئية. فالأراضي المهجورة يمكن أن تتحول إلى أحياء جديدة تقوم على التنوع، والانفتاح، والإدماج. «يمكن لهذه الفضاءات أن تصبح مختبرات لتجارب حضرية جديدة، منفتحة على الثقافة والإبداع والاقتصاد الاجتماعي»، يضيف المهندس.

وقد بدأت العاصمة الاقتصادية للمملكة فعلًا في استعادة فضاءاتها العامة: حديقة العصبة العربية، الكورنيش المعاد تأهيله، والحدائق الحضرية الجديدة. «يخرج سكان الدار البيضاء اليوم أكثر من أي وقت مضى، ويعيدون اكتشاف مدينتهم. علينا أن نواصل هذا التوجه، وأن ندمج تجديد الأراضي المهجورة في هذه الدينامية»، يدعو بصري.

ولتحقيق ذلك، ستكون هناك حاجة إلى رؤية واضحة، وسياسات عمومية قوية، وقبل كل شيء إرادة جماعية. لأن، كما يختم بصري، «تجديد المدينة ليس شأنًا يخص المهندسين المعماريين وحدهم، بل هو مشروع يخصنا جميعًا: إنه إطار حياتنا، ذاكرتنا، وقبل كل شيء مستقبل أطفالنا».

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن المغرب عبر موقع أفريقيا برس