مصطفى واعراب
أفريقيا برس – المغرب. تشعر فرنسا بالإهانة من قبل المغرب، مستعمَرتها السابقة، لأنه لم يقبل مساعدتها لمواجهة آثار الزلزال، الذي ضرب جبال الأطلس المغربية في 8 سبتمبر الماضي. وفي أثر ذلك، تفوق السياسيون والإعلام في فرنسا هذه المرة حتى على الجزائر، التي لم يقبل المغرب عرضها هي الأخرى لـ “المساعدة”، حيث رأينا وسمعنا مستوى غير مسبوق من النقاش الهابط لم يحترم حتى ظروف الفجيعة الصعبة، وأغضب كثيرا من الفرنسيين أنفسهم.
في كل مرة يهتز بلد من عالمنا على وقع كارثة طبيعية، تتهافت عروض المساعدة الإنسانية كثيرة أو قليلة بحسب أهمية البلد المنكوب في سباق يخفي أكثر مما يُظهر. وهو ما يُطلق عليه اسم “ديبلوماسية الكوارث”، التي تركب على مآسي الآخرين لتحقيق أهداف ليست دائما “إنسانية”..
فما هو الجزء الخفي من جبل جليد الأيدي الممدودة بالمساعدات الدولية؟ ولماذا تميزت فرنسا بغضبها إلى حد السعار، لمجرد أن المغرب تجاهل عرضها المتكرر لتقديم “المساعدة”؟ ولماذا اكتفى المغرب بالمساعدة المعروضة من أربع دول فقط؟
يعتبر مبدأ التدخل “للمساعدة الإنسانية”، من المبادئ التي تحكم عمليات الإغاثة الدولية عبر العالم في حالات الكوارث الطبيعية.
ويعني مصطلح “المساعدة الإنسانية” في العلاقات الدولية، توفير السلع والمواد اللازمة لتخفيف المعاناة الإنسانية على الضحايا المنكوبين. ولا تشمل توفير الأسلحة أو الذخيرة أو غيرها من المعدات أو المركبات أو المواد، التي يمكن استخدامها لإصابة الأشخاص أو قتلهم. وبحسب منظمة الصليب الأحمر الدولي، ينطبق مصطلح “الكوارث الطبيعية” على الأوبئة، والمجاعات، والزلازل، والفيضانات، والأعاصير، والانهيارات الجليدية، والانفجارات البركانية، والجفاف، والحرائق، وغيرها من الكوارث التي ليست بأسباب بشرية، ويمكن أن تؤدي إلى الوفاة، والمعاناة البشرية، والأضرار المادية.
ووفقا لمبدأ التدخل “للمساعدة الإنسانية”، فإن “لكل شخص الحق في طلب المساعدة الإنسانية اللازمة، للحفاظ على حياة الإنسان وكرامته في حالات الكوارث الطبيعية. ويشمل هذا الحق “الحصول على المساعدة كذلك من المنظمات الحكومية أو غير الحكومية”.
هذا من حيث المبدأ العام. أما تصريفه في ساحات الكوارث فشأن آخر، حيث يدرك المتبصرون جيدا في السياسة الدولية وجود جغرافيا سياسية للكوارث الطبيعية، تحركها خلفيات ليست إنسانية صرفة في غالب الأحوال.
“دبلوماسية الكوارث”
في الثامن من كانون الأول/ديسمبر 1988، وعقب حدوث زلزال أرمينيا الشهير، الذي أودى بحياة أكثر من 30 ألف شخص، قام الزعيم السوفياتي “غورباتشوف”، بخطوة غير مسبوقة في تاريخ العلاقات السوفياتية-الغربية، حيث “طلب” مساعدات إنسانية من الولايات المتحدة الأمريكية، لمواجهة تلك الكارثة الإنسانية. لم يصدر طلب المساعدة هذا عن موسكو بسبب عجزها عن إنقاذ مواطنيها، وإنما أتى هذا التعاون الروسي الأمريكي في مواجهة زلزال أرمينيا، بالأساس، خطوة سياسية هدفت إلى تحقيق تقارب مع الخصم الأمريكي. ولذلك أسست هذه الخطوة لاحقا لما بات يُعرف في العلاقات الدولية بـ “دبلوماسية الكوارث”.
إن الأمثلة على تنشيط ديبلوماسية الكوارث بين الدول التي بينها خلافات معقدة وقديمة كثيرة جدا. لنأخذ منها بعض الأمثلة، وفي مقدمتها النزاع بين تركيا واليونان. ففي الثاني والعشرين من آذار/مارس 2021، دعا وزير الدفاع اليوناني الجارة تركيا إلى التعاون مع بلاده، لمواجهة الزلازل التي دمرت كلا البلدين. وقد قادت هذه الخطوة بالفعل إلى تحسن تدريجي في العلاقات المتوترة على الدوام بين البلدين، قبل أن تعود لتتأزم من جديد. والمعروف أن لدى تركيا واليونان نزاعات معقدة حول المناطق الاقتصادية الخاصة في المياه الإقليمية وحول المجال الجوي، وصولا إلى إساءة معاملة الأقليات.
وكادت العلاقات بين البلدين أن تنقلب إلى حرب في عام 2020، عندما وقع صدام بين السفن الحربية التركية واليونانية، نتيجة لخلاف حول التنقيب عن الغاز، بسبب عدم الاتفاق حول المناطق الاقتصادية البحرية الخاصة. لكن بعد الزلزال الذي هز تركيا وسوريا في 6 شباط/فبراير 2023، أبدت اليونان تعاطفا إنسانيا مع جارتها تركيا ودخل البلدان في مسلسل تهدئة، قاد قبل أسبوعين إلى إعلانهما عن دخول العلاقات بين البلدين “عصرا جديدا”، على أساس “نهج جديد مبتكر للتعامل مع القضايا الخلافية الكبرى” بينهما.
لكن دبلوماسية الكوارث، لا تنجح دائما في تحسين العلاقات بين الخصوم لأمد طويل، وفي هذا الباب تعتبر العلاقات الهندية الباكستانية هي النموذج الأشهر للمصالحات المتذبذبة. ففي السادس والعشرين من كانون الثاني/يناير 2001، تسبب زلزال ضرب الهند في مقتل نحو 25 ألف شخص وتدمير قرى بأكملها. فعرضت باكستان المساعدة على غريمتها نيودلهي. وهو ما قاد إلى أول محادثات بين زعيمي البلدين، أعقبها لقاء تاريخي جمع بينهما في الرابع عشر من تموز/ يوليو من نفس العام. لكن شهر العسل بين البلدين هذا لم يدُم طويلا، حيث عادت العداوة مجددا بين البلدين عقب تعرض البرلمان الهندي لهجوم من قبل مسلحين. فوجهت إثره الهند أصابع الاتهام إلى باكستان، ليتصاعد التوتر مجددا ويصل إلى مشارف قيام الحرب.
يقودنا هذا الكلام إلى زلزال الحوز في المغرب، وما تلاه من قبول المغرب للمساعدة الإنسانية من عدد محدود جدا من الدول. وكانت الخلفية التي تحرك بعض تلك الدول تتمثل في سعيها إلى توظيف ظروف الفاجعة، لتحريك “ديبلوماسية الكوارث” لأغراض سياسية.
لا للجزائر وفرنسا..
ضمن عروض المساعدة الإنسانية، صدر بيان غريب عن الخارجية الجزائرية خلا من أية إشارة للسلطات المسؤولة في المغرب، وتحديدا ملك البلاد الذي يقود جهود الإنقاذ بنفسه رغم مرضه العضال. وتضمن البيان تنويها إلى أن “الجزائر تعرض مخطط مساعدات لوجستية ومادية طارئة على المملكة المغربية، واستعدادها لفتح مجالها الجوي لنقل المساعدات والجرحى، في حال طلبت الرباط ذلك”. لكن بيانا صادرا عن وزارة الخارجية المغربية كشف بأن المدير العام للخارجية أبلغ القنصل الجزائري، “بأنه وبعد التقييم، فإن المملكة المغربية ليست بحاجة إلى المساعدات الإنسانية المقترحة من قبل الجزائر”.
وما لا تقوله بيانات خارجتي البلدين، أن الجزائر قررت اللجوء إلى “ديبلوماسية الكوارث الطبيعية” في الوقت الخطأ، وبغرض واضح هو تلميع صورتها دوليا. فبعد التهديدات بإعلان الحرب على جارها الغربي، وبعد قطع العلاقات وإغلاق الأجواء، وإطلاق البحرية الجزائرية النار وقتل مصطافين مغاربة قرب السعيدية واحتجاز جثة أحدهم حتى الآن، تنبهت الجزائر إلى أن ظروف فاجعة الحوز تمنحها فرصة لا تعوض لإظهار للمغرب بمظهر البلد الرافض لمساعدتها. والحال أن وسائل إعلام غربية كشفت بأنها كانت تعلم علم اليقين بأن المغرب لن يقبلها، وأن “المساعدات” كانت جاثمة في مطار بوفاريك العسكري في العاصمة الجزائرية تنتظر الإذن من السلطات المغربية للانطلاق، مع تعليمات للطاقم بأنه متوجه في الحقيقة إلى ليبيا…
أتي ذلك في وقت كان المسؤولون الفرنسيون، وفي مقدمتهم الرئيس ماكرون، يكررون عرضهم لمساعدة المغرب على مواجهة الزلزال. وأمعن الإعلام الفرنسي في عنصريته عندما استهان بأساليب تحقيرية من قدرة المغاربة على التعامل مع الزلزال من دون إشراف من فرنسا! بل وحاول تحريض المغاربة ضد قيادتهم بزعم أنهم يستهينون بمصير الضحايا برفضهم مساعدة فرنسا..
وبينما تزال فرنسا تجد صعوبة في استيعاب حقيقة كون المغرب وضعها على “قائمة الانتظار”، حرك الموقف المغربي من “المساعدات الفرنسية” المقترحة موجة تعاطف واسعة معه في غرب أفريقيا، خصوصا مالي والنيجر وبوركينا فاسو التي قطعت علاقاتها مع فرنسا. وقررت بوركينا فاسو طلب مساعدة المغرب لتدريب قوات النخبة في جيشها، على نحو ما سبق أن فعل مع الجيش الغيني قبل أشهر. وهي المهمة التي كان يتولاها الجيش الفرنسي من قبل.
وفي مواجهة الانهيار المتسارع لنفوذ باريس في المغرب، الذي يعطي “نموذجا سيئا” لباقي الأفارقة في رفض الوجه الاستعماري لفرنسا، قام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الثلاثاء الماضي (12 سبتمبر/أيلول) بخطوة متهورة أخرى، عندما وجه خطابا مباشرة إلى الشعب المغربي، بالتزامن مع عيادة الملك محمد السادس لجرحى الزلزال في المستشفى الجامعي لمراكش، وفي وقت لا يتوقف إعلام بلاده [لم يعد مستقلا، حيث بات يحصل جميعه على دعم عمومي] عن نفث سمومه، محتقرا المغاربة ومبخسا جهودهم في لملمة جراحات الكارثة الطبيعية.
وقال ماكرون مخاطبا المغاربة، كأنهم ما زالوا تحت الحماية الفرنسية: “سنكون بجانبكم بشكل دائم، اليوم وغدا (…) على المستوى الإنساني، والطبي، وفي إعادة الإعمار، وأيضا للمساعدة في المجال الثقافي وحفظ التراث، وفي جميع المجالات التي يرى الشعب المغربي وسلطات بلاده أننا مفيدون فيها له”.. وهكذا انكشف سر الإصرار الفرنسي على “مساعدة” المغرب في موضوع الزلزال، بسبب زلة لسان من ماكرون عند حديثة عن “إعادة الإعمار”، وهو الهدف من جميع تحركاته الخارجية، حيث سبق له أن ردد العبارة نفسها مثلا خلال زيارته لبيروت في صيف 2020، بعد انفجار مرفئها.
ولا غرابة حين نعلم بأن التقديرات الأولية تشير إلى أن إعاة إعمار المناطق التي دمرها زلزال الحوز، سوف تمتد على عدة سنوات وتكلف حوالي 100 مليار درهم (10 مليار دولار). وهو ما يعني أن الأمر سيتعلق بعشرات (وربما مئات) الصفقات، التي يخشى الفرنسيون أن تُحرَم منها مقاولاتهم مستقبلا. وأما عبارات المواساة الزائفة فمجرد دموع تماسيح للتغطية.
لماذا “رفض” المغرب المساعدات ؟
بمجرد انتشار تفاصيل الزلزال المدمر الذي خلف أزيد من 3000 قتيل و5000 جريح (حتى اللآن)، بادرت عشرات الدول عبر العالم إلى عرض مساعدتها الإنسانية على المغرب، للبحث عن ناجين محتملين وانتشال جثث وتوفير دعم إغاثي، تقول المصادر إن عددها ناهز 72 دولة وآلاف المنظمات غير الحكومية الدولية. بيد أن المغرب خلق المفاجأة عندما اكتفى بقبول المساعدة من أربع دول فقط، وهي: إسبانيا وبريطانيا وقطر والإمارات. ولكن ليس فرنسا، حيث اكتفت المملكة بقبول مساعدات إنسانية من جمعيات إغاثة فرنسية ومجموعات من المغاربة المقيمين في أوروبا. وفي هذا الشأن، قدمت السلطات المغربية مبررات تشرح موقفه. أولها، أن المغرب يستفيد من دروس تجارب إدارة الكوارث الطبيعية، في هايتي وتركيا واليونان وإيطاليا. وهي دول سبق أن تعرضت لزلازل مدمرة، واكتفت بقبول المساعدات الأساسية للتعامل مع الإسعافات الأولية، بما في ذلك المساعدة في البحث عن الناجين وإنقاذهم، ولم تقبل المساعدات الأخرى إلا بحسب ما تفرضها عليها الحاجة.
وبحسب البيانات الرسمية الصادرة عن المغرب حول الكارثة، رصد تحليل لشبكة “دوتشي فيله” الألمانية معايير وأولويات يتم التركيز عليها، منها: أن المغرب يرى أنه ليس بحاجة إلى مساعدات غذائية وأدوية، نظرا لتوفره على موارد كافية منها، سواء بالاعتماد على دور المؤسسات الحكومية أو جهود المجتمع الذاتية. كما يرى المغرب أن نجاعة خطط الإنقاذ والإسعافات، تقتضي تنسيقا محكما بين فرق الإنقاذ المغربية مع نظيراتها الأجنبية؛ وأن عددا محدودا من المتدخلين، يجعل مهمات الإنقاذ الحساسة تتم بكيفية أكثر تنسيقا ونجاعة. وبالمقابل، فإن عدم التنسيق في مثل هذه الحالات سيؤدي إلى نتائج عكسية [نتيجة حالة الفوضى التي سيتسبب فيها].
وكان التلفزيون المغربي الرسمي قد ذكر بأن “السلطات المغربية أجرت تقييما دقيقا للاحتياجات في الميدان، أخذت بعين الاعتبار أن عدم التنسيق في مثل هذه الحالات سيؤدي إلى نتائج عكسية”. وبحسب البيانات الرسمية الصادرة عن المغرب حول الكارثة، رصد تحليل لشبكة الألمانية معايير وأولويات يتم التركيز عليها، منها: أن المغرب يرى أنه ليس بحاجة إلى مساعدات غذائية وأدوية، نظرا لتوفره على موارد كافية منها، سواء بالاعتماد على دور المؤسسات الحكومية أو جهود المجتمع الممربي الذاتية. كما يرى المغرب أن نجاعة خطط الإنقاذ والإسعافات، تقتضي تنسيقا محكما بين فرق الإنقاذ المغربية مع نظيراتها الأجنبية. وأن عددا محدودا من المتدخلين، يجعل مهمات الإنقاذ الحساسة تتم بكيفية أكثر تنسيقا ونجاعة. وبالمقابل، فإن عدم التنسيق في مثل هذه الحالات سيؤدي إلى نتائج عكسية [نتيجة حالة الفوضى التي سيتسبب فيها].
هكذا، وبينما كان المغرب يخوض سباقا مع الزمن لإنقاذ الأرواح إثر الزلزال المدمر، توغلت السياسة إلى الأخبار حول الكارثة الإنسانية، مع قبول الرباط المساعدات من دول دون أخرى. لكن بينما قللت ألمانيا، على سبيل المثال، من أهمية عدم قبول المغرب “على الفور” لعرضها تقديم المساعدة في عمليات الإغاثة وإنقاذ ضحايا الزلزال، مشيرة إلى أنها لا ترى ما يشير إلى كون قرار المغرب كان سياسيا، مكررة عرض المساعدة على الرباط.. أشعل إعلان المملكة “عدم حاجتها” للمساعدات الإنسانية المقدمة من الجزائر، وعدم طلبها المساعدة من فرنسا التي أعربت عن استعدادها لذلك، جدلا محتدما لم يتوقف حتى اللحظة، حول الخلفية السياسية التي دفعت بالمغرب إلى هذا القرار، علما بأن علاقة المملكة مع كلا البلدين تتسم بالقطيعة والجفاء منذ قرابة العامين.
وثمة سبب آخر يفسر رفض الرباط لأغلب عروض المساعدة الإنسانية. فقد جرت العادة أن تذهب المساعدات، المشكلة من الدواء والغذاء أساسا، من الدول الغنية إلى دول متضررة فقيرة أو أصابتها حاجة طارئة بسبب كارثة طبيعية. والمغرب الذي يعتبر نفسه دولة صاعدة pays émergent في غير حاجة لا إلى الغذاء ولا إلى الدواء، وقد أكدت الأيام بأن المملكة لم تُعانِ خصاصا رغم الهبة التضامنية الكبرى للمواطنين الذين اقتنوا الغذاء والدواء واللباس والفراش والغطاء وغيرها، وحملوها إلى المناطق المنكوبة بالزلزال.
وبالتالي نحن أمام تكرار لما سبق أن قامت به دول نكبتها كوارث طبيعية. على غرار الهند التي رفضت المساعدات من المجتمع الدولي في عام 2004، في أعقاب كارثة التسونامي الذي ضرب قبالة سواحل سومطرة (في المحيط الهندي)، من أجل تعزيز صورتها كقوة صاعدة مستقلة. وعادت الهند نفسها مرة أخرى لترفض المساعدة الخارجية في صيف 2018، عندما شهدت ولاية كيرالا بجنوب شرق البلاد فيضانات مدمرة أودت بحوالي 500 قتيل وشردت مئات الآلاف من الفلاحين. فعرضت دولة الإمارات مساعدة إنسانية سخية بقيمة 100 مليون دولار، لكن نيودلهي رفضتها بأدب، وهو ما تسبب لها في خلافات مع حكومة الولاية المتضررة.
“المساعدات الإنسانية”: قوة ناعمة وحرب نفوذ
من خلال استعراض الموقف الفرنسي وخلفياته، ثبت للقارئ أن الكوارث الطبيعية إنما تشكل جوهر لعبة القوة والنفوذ التي تستهوي قوى دولية وإقليمية كثيرة. لكن الدول ليست الوحيدة التي تلعب دورا في الجغرافيا السياسية للكوارث الطبيعية. ولذلك فإن الأموال والدعم الإنساني تأتي في معظمها من مصادر خاصة أو غير حكومية، حيث إن العديد من المنظمات غير الحكومية والشركات تأتي أيضا لمساعدة مناطق الكوارث. لكن هذه المنظمات التي تصف نفسها بأنها “غير حكومية”، تعمل أحيانا كواجهات غير رسمية لبعض الدول. ومن بينها، يمكننا تسليط الضوء مثلا على المنظمات الإغاثية الفرنسية، التي تتواجد حاليا في المناطق المنكوبة بزلزال 8 سبتمبر/أيلول الماضي، رغم أن الحكومة الفرنسية غير متواجدة رسميا ضمن جهود المساعدة. وقد كشف الرئيس ماكرون في كلمته الموجهة للشعب المغربي، الثلاثاء الماضي، بأن الحكومة الفرنسية منحت تلك الجمعيات “غير الحكومية” مبلغ خمسة ملايين يورو، وبأنه سيستقبلها قريبا.
وصرح رئيس إحدى تلك الجمعيات لوسائل إعلام فرنسية بنبرة لا تخلو من تحدي، بأنه ليس في حاجة إلى ترخيص من المغرب للتواجد في المواقع المنكوبة، لأنه تمت دعوته “من طرف جمعيات محلية مغربية”. وهو تبرير مثير للغرابة، إذ المعروف أن الدول ذات السيادة هي التي تمنح أو تمنع أيا كان من التواجد والعمل فوق بلادها.
وفي خضم جهود “المساعدة الإنسانية”، تعمل صراعات قوية على النفوذ بين مختلف الدول الفاعلة المشاركة في جهود التدخل الإنساني. فالكوارث الطبيعية والتحديات التي تنطوي عليها، تشكل وسيلة للقوى الإقليمية والدولية لتأكيد نفسها وتعزيز نفوذها ورعاية مصالحها في البلد المنكوب، من خلال بناء قوة ناعمة معتبرة هناك. لكن بتعدد الدول المتدخلة في مجال المساعدة الإنسانية تتعدد المصالح وتتضارب. وبالتالي سيستحيل علينا في هذا المقام الحديث عنها جميعا. وسنكتفي باستعراض أهمية “المساعدات الإنسانية” في بناء “قوة ناعمة”، بالنسبة إلى أهم دولتين في هذا المجال: الولايات المتحدة واليابان.
يوضح جيل كاربونييه، رئيس مركز جنيف للتعليم والبحث في العمل الإنساني، أن “عمليات الإغاثة التي تقوم بها الدول في أعقاب الكوارث الطبيعية هي مزيج من السخاء والحساب”، حيث يمكن لهم [المانحون] أن يتعاطفوا حقيقة مع السكان المتضررين، لكن المصلحة الوطنية تؤثر عليهم بشكل كبير وأكيد”.
ويصف الباحث المساعدات التي قدمتها الولايات المتحدة عام 1812 لمدينة كاراكاس [عاصمة فنزويلا] بعد أن ضربها زلزال، بأنها حالة نموذجية في هذا الصدد. ففي سياق حرب استقلال فنزويلا عن إسبانيا، اغتنمت واشنطن الفرصة لتضع نفسها في مواجهة القوة الاستعمارية. وبعد مائتي عام على ذلك، تستخدم واشنطن اليوم نفس الوسائل لإثبات فائدتها لحلفائه الآسيويين.
ويواصل جيل كاربونييه قائلا: “إن الولايات المتحدة اليوم هي أكبر جهة مانحة للمساعدات الإنسانية في العالم”. وتقدر حكومتها هذا النوع من المساعدات لأنها لا تتسم بحساسية سياسية كبيرة، وأيضا لأن تمريرها في الكونغرس أسهل من تمرير المساعدات للتنمية.
فبعد الإعصار الرهيب الذي ضرب الفلبين في 8 نوفمبر/تشرين الثاني 2013، وتسبب في أضرار لأزيد من 14 مليون شخص، قامت واشنطن بمناورات إنسانية كبرى؛ إذ بعد ستة أيام على مرور إعصار هايان، أعلنت الولايات المتحدة وصول حاملة طائراتها جورج واشنطن قبالة سواحل الفلبين. وقدمت دعما استثنائيا لعمليات الإغاثة التي كانت لا تزال في مهدها، جندت لها الـ 5000 جندي وعشرات الطائرات و15 مروحية، التي كانت على متن حاملة الطائرات، وقدرات كبيرة لإنتاج مياه الشرب للمتضررين.
وفي غضون ذلك، اعترف المتحدث باسم البنتاغون بالمصلحة السياسية لهذا النوع من عمليات التدخل، الذي أصبح حسب قوله “أولوية”. بل كشف بأن “المساعدات الإنسانية وعمليات الإغاثة الطارئة تشكل ركائز أساسية لاستراتيجيتنا الدفاعية”. لا سيما أنها، بحسب وثيقة وزارة الدفاع الأميركية تكلفتها “رخيصة” وبالمقابل هي “شديدة الفعالية”.
من جانبها، تعتبر اليابان الكوارث الطبيعية “سلاحا” من أسلحة دبلوماسيتها. وإذا تقديم المساعدة والموارد في حالة الكوارث الطبيعية ليس بالأمر الجديد بالنسبة لليابان. ولكن إلى غاية عام 2007، كانت “أنشطة التعاون الدولي من أجل السلام” ضمن الوظائف الرئيسة للديبلوماسية اليابانية. لكن تلك الأنشطة أصبحت منذ ذلك العام إحدى المهام الرئيسة لقوات الدفاع الذاتي البحرية FAD، التابعة للبحرية الحربية اليابانية، وهي القوات التي تتولى “الدفاع عن اليابان والحفاظ على النظام”!
وقد انتبهت الصين متأخرة إلى أهمية المشاركة بفعالية في جهود الإغاثة الدولية، بحيث أصبحت بدورها أكثر “سخاء” من ذي قبل، خصوصا في القارة الآسيوية حيث تخوض حروب نفوذ مع الولايات المتحدة واليابان على الخصوص.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن المغرب اليوم عبر موقع أفريقيا برس