ما موقع أفريقيا في عقيدة الصين العسكرية؟

5
ما موقع أفريقيا في عقيدة الصين العسكرية؟
ما موقع أفريقيا في عقيدة الصين العسكرية؟

أفريقيا برس – المغرب. تكشف وثيقة مسربة عن العقيدة العسكرية الصينية، صادرة عن وكالة المخابرات الأميركية المركزية (سي آي إيه) عام 1963، عن توافق كبير مع ما نشر على موقع وزارة الدفاع الصينية بعد عقود بالخصوص ذاته.

ويشير ذلك إلى عدم وجود تحوّل جذري في هذه العقيدة بل هو تطور طبيعي يواكب تكنولوجيا الحروب الحديثة، كالحرب السيبرانية وحروب الفضاء، وبروز ما يستدعي التدخل العسكري خارج النطاق الإقليمي للصين، في سياق حماية المصالح الاقتصادية الصينية، خصوصا تأمين الخطوط البحرية على امتداد ساحل القارة الآسيوية وصولا إلى البحر الأحمر.

بالطبع، فإن هذه العقيدة العسكرية الصينية تتوافق مع متطلبات رؤية بكين التي حددت عام 2049، العام الذي يوافق الذكرى المئوية الأولى لتأسيس جمهورية الصين الشعبية، كعتبة لمرحلة جديدة في تاريخ الشعب الصيني واستعادته مكانته التاريخية على الصعيد الدولي والإنساني.

سياسة جديدة

يمكن القول إن السياسة الصينية انتقلت في السنوات الأخيرة خصوصا في عهد الرئيس شي جين بينغ من السياسة المتحفظة إلى سياسة أكثر مبادرة تهتم بتطوير العلاقات الخارجية ومحاولة تحقيق الأهداف الإستراتيجية للجمهورية، بعيدا عن التحالفات العسكرية والاقتصادية وسياسات المحاور.

تعتمد السياسة الخارجية الصينية المعلنة مبدأ المنفعة المتبادلة تحت عنوان “الكل رابح” (win-win relation)، وترتكز على مبادرة الحزام والطريق (Belt & Road Initiative) التي أعلنها الرئيس شي جين بينغ عام 2013 مستلهمة طريق الحرير التاريخي، وترسم تحركاتها ضمن الخطط الهادفة لإنجاح هذه المبادرة.

زاد اهتمام الصين بالقارة الأفريقية في السنوات الأخيرة، باعتبارها منطقة إستراتيجية لأمن بكين الاقتصادي والبحري، إذ تمر غالبية التجارة المنقولة بحرا بين الصين وأوروبا عبر مضيق باب المندب، وهو ما يعرّض تجارة الصين من الطاقة والسلع لخطر الانقطاع أو القرصنة والتوترات الإقليمية.

وشجع ذلك فكرة التوسع العسكري خارج النطاق الإقليمي للصين وزيادة اهتمامها بدول القارة السمراء خاصة تلك الواقعة على البحر الأحمر، فعملت على تطوير علاقاتها مع تلك الدول، وأنشأت أول قاعدة عسكرية صينية خارجية في جيبوتي.

واليوم، تحاول بكين رسم علاقتها مع الدول الأفريقية على أساس الشراكة الحقيقية. وخلافًا للقوى الغربية والولايات المتحدة، فإن الصين لم يكن لها وجود استعماري في القارة بل دعمت الدول الأفريقية خاصة الاشتراكية منها في حقها بالاستقلال وتقرير المصير.

في المقابل، تضررت المصالح الصينية في القارة بفعل التدخلات الغربية والانقلابات في بعض الدول والأنظمة السياسية الحليفة لها مثلما حدث في ليبيا والسودان، وهو ما دفعها إلى التفكير بتعزيز وجودها العسكري في القارة.

العلاقات التاريخية

وبالعودة للتاريخ القريب، فإن العلاقات الصينية الأفريقية بقيت زمنا طويلا قائمة على دعم حركات الاستقلال وتقديم المساعدات الاقتصادية، إلا أنها انتقلت في نهاية القرن العشرين لتأخذ دورا اقتصاديا وسياسيا وعسكريا عبر مراحل عدة.

وقد أُسست العلاقات الأولى مع الدول الأفريقية بعد إعلان جمهورية الصين الشعبية في عام 1949، واعتمدت على تقديم المساعدات الاقتصادية للدول الأفريقية المستقلة حديثًا، ودعم “مناهضة الإمبريالية” ومكافحة الاستعمار في أفريقيا، وبالمقابل الحصول على دعم تلك الدول على الصعيد الدولي وخاصة في قضية الصين الواحدة وعدم الاعتراف بتايوان.

وشهدت ما عرفت بمرحلة الإصلاح والانفتاح التي بدأت عام 1978 واستمرت حتى منتصف التسعينيات تحوّلا في شكل السياسية الخارجية الصينية نحو الاهتمام بالتنمية الاقتصادية المحلية وكل ما يرتبط بها خارجيا.

أدى ذلك إلى تحوّل في علاقات الصين الخارجية ومنها العلاقات مع الدول الأفريقية إذ اعتمدت على التعاون الاقتصادي المفيد للطرفين، وانتقلت من تقديم المساعدة الاقتصادية إلى عقود الخدمات والاستثمار والتجارة.

وبعد منتصف التسعينيات من القرن الماضي، ومع مطلع هذا القرن، انتهجت الصين خططا للتنمية المحلية الداخلية والخارجية وتعزيز الأهداف والوجود الإستراتيجي وتعزيز العلاقات الخارجية.

وشهدت تلك الفترة أول جولة في القارة للرئيس الصيني جيانغ زيمين الذي يعدّ مؤسس العلاقات الصينية الأفريقية بشكلها الحالي، فقد زار في مايو/أيار 1996 كلا من كينيا ومصر وإثيوبيا ومالي وناميبيا وزيمبابوي، وخلال جولته وقعت الصين أكثر من 20 اتفاقية للتعاون التجاري والاقتصادي والفني والثقافي مع الدول الأفريقية.

منتدى التعاون الصيني الأفريقي

شهدت نهاية فترة الرئيس جيانغ زيمين عام 2000 تأسيس منتدى التعاون الصيني الأفريقي “فوكاك” (FOCAC) الذي يُعدّ الأساس في العلاقات الصينية الأفريقية والإطار المؤسساتي للتعاون الاقتصادي.

ويُعدّ المنتدى الذي يُعقد بشكل دوري كل 3 سنوات أهم منصة للتعاون بين الصين والدول الأفريقية التي تجمعها علاقات دبلوماسية مع بكين، ويقوم هذا المنتدى على تعزيز العلاقات بين الطرفين في مجالات متنوعة أبرزها المجال الاقتصادي.

مثلت القمة التي عقدت في بكين 2006 نقطة التحوّل في مسيرة المنتدى مع تعهد الصين بتقديم 5 مليارات دولار في شكل قروض وائتمان، والالتزام بتطوير البنية التحتية في أفريقيا، وإنشاء مناطق اقتصادية خاصة.

غير أن مرحلة جائحة كورونا كانت حائلا دون انعقاد المؤتمر فتسبب ذلك في تراجع مرحلي في أداء المنتدى خصوصا على صعيد تقديم القروض، لكن القمة التي عقدت أخيرا في بكين بعد هذا الانقطاع شهدت مشاركة 50 دول أفريقية.

خلال هذه القمة، أعادت الصين ترتيب علاقاتها مع تلك الدول مرتكزة على شعار الرئيس الصيني شي جين بينغ “المشاريع الصغيرة والجميلة”، بدلا من البنية التحتية الباهظة الثمن.

التوسع العسكري الصيني

ترى الصين أن توسيع الحضور العسكري المتزايد لجيشها متجاوزا الدفاع الإقليمي التقليدي ضروري لتشكيل بيئة دولية تدعم الأهداف الإستراتيجية الطويلة الأمد، وخصوصا رؤية “الصين 2049′′، وتأمين المصالح في الخارج، مثل الاستثمارات في البنية التحتية الحيوية، وأمن الطاقة، وضمان سلامة الممتلكات الصينية الخارجية، وتعزيز النفوذ على المستوى العالمي، وهو ما عبرت عنه بوضوح الوثائق الصادرة عن وزارة الدفاع بهذا الخصوص.

وربطت الصين زيادة التعاون العسكري مع الدول الأخرى بمبادرة “الحزام والطريق”، وركزت على تعزيز العلاقات الأمنية والعسكرية مع الدول الرئيسية على طول مسارات المبادرة وتلك التي توفر المواد الأولية لها والممرات البحرية الضرورية لإنجاحها.

وشمل هذا التعاون التدريبات المشتركة، ومبيعات الأسلحة، وبرامج التدريب، وبالإضافة إلى ذلك عملت على توسيع شبكة الملحقين العسكريين لتعميق العلاقات الأمنية، خاصة مع الدول في أفريقيا وجنوب آسيا والشرق الأوسط.

تعزيز الوجود العسكري

عزّزت الصين وجودها العسكري في القارة الأفريقية، واتخذ هذا الوجود أشكالا، منها: المشاركة في عددٍ من عمليات حفظ السلام، وإرسالها عددا من السفن الحربية لمكافحة عمليات القرصنة على الساحل الصومالي، وتعزيز التبادلات والتعاون العسكري الدولي في محاولة لمواجهة التحديات الأمنية العالمية، وإنشاء القواعد البحرية.

قوات حفظ السلام

إحدى إستراتيجيات جيش التحرير الشعبي الصيني لتوسيع حضوره العالمي تتمثل في المهام غير القتالية مثل المساعدة الإنسانية والإغاثة من الكوارث وعمليات حفظ السلام، وهي مهام توفر للجيش خبرات تشغيلية، وتعزز في الوقت نفسه العلاقات الدبلوماسية للصين مع الدول الأخرى.

وتشارك الصين في 12 بعثة لحفظ السلام، توجد منها 7 بعثات في مالي، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وجمهورية أفريقيا الوسطى، والسودان، وجنوب السودان، وغينيا بيساو، والصومال.

كما أنشأت الصين قوة “الاستعداد والتدخل السريع” التي تضم 8 آلاف فرد، بالإضافة إلى فريق دائم يتكون من 300 عضو من الشرطة الصينية مخصص لمهام حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة.

مكافحة القرصنة البحرية

تنفّذ البحرية الصينية عمليات منتظمة لمكافحة القرصنة في خليج عدن والمياه الدولية الأخرى، وهي عمليات تساعدها على اكتساب الخبرة في العمل في البحار البعيدة عن حدودها.

وفضلا عن ذلك، تقوم السفن الحربية الصينية بزيارات إلى الموانئ في دول مختلفة، خاصة في أفريقيا والشرق الأوسط، مما يعزز الدبلوماسية العسكرية ويؤسس شراكات إستراتيجية.

المناورات العسكرية

تنفذ الصين تدريبات عسكرية ثنائية مع دول ذات أهمية إستراتيجية لها مثل باكستان ودول جنوب شرق آسيا والدول الأفريقية، التي تظهرها كقوة عسكرية قوية وتسهم في نفوذها الجيوسياسي.

وقد استضافت بحرية جنوب أفريقيا لأول مرة مناورات بحرية مع سفن من البحرية الروسية والصينية في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2019، وأجرت مناورات مشتركة في المحيط الهندي قبالة ساحل ديربان، وفي فبراير/شباط 2023 أجرت الصين مناورات بحرية عسكرية مشتركة مع روسيا وجنوب أفريقيا.

كما تجري البحرية الصينية تدريبات مشتركة لمكافحة القرصنة مع كل من الكاميرون، والجابون، وغانا، ونيجيريا.

قاعدة جيبوتي

أعلنت الصين إنشاء أول قاعدة عسكرية بحرية خارجية لها على ساحل القرن الأفريقي في جيبوتي عام 2017، التي تطل على الجانب الغربي لمضيق باب المندب، والممر الإستراتيجي للبحر الأحمر الذي يعدّ جسرا بين أفريقيا والشرق الأوسط ويربط أوروبا بشرق آسيا، وعلى بعد أقل من 10 كيلومترات من القاعدة تتجاور القاعدتان الأميركية واليابانية.

وأنشئت القاعدة ضمن اتفاقية “معاهدة أمنية ودفاعية” وقعت في فبراير/شباط 2014، مقابل عقد إيجار بـ20 مليون دولار، بالإضافة إلى تأهيل وتدريب القوات في جيبوتي والمساعدة في رفع كفاءتها.

وتلعب القاعدة دورًا حيويا في دعم عمليات البحرية الصينية، خاصة تلك المتعلقة بحماية خطوط الاتصال البحرية، وهي ضرورية لتجارة الصين العالمية واستيراد الطاقة.

تُعدّ قاعدة جيبوتي نموذجا أوليا لخطط الصين المستقبلية لإنشاء مزيد من المرافق اللوجستية وربما القواعد في مواقع أخرى بالعالم، بينما تخطط الصين لإنشاء قواعد عسكرية إضافية لدعم القوات البحرية والجوية والبرية. ومن المواقع المحتملة في أفريقيا: تنزانيا، وكينيا، وناميبيا.

صعوبات التوسع العسكري

تواجه الصين بعض الصعوبات في وجه التوسع العسكري، وأهمها علاقات تلك الدول المضيفة مع القوى العالمية الغربية، وخاصة الولايات المتحدة، والتشكيك في أهدافها المستقبلية، والتحريض المتواصل عليها والتلويح باستخدام العقوبات ضد الشراكة معها والخوف من تكرار نموذج العقوبات التي فرضت على الشركات والدول المتعاونة مع روسيا خلال الحرب في أوكرانيا.

ومن جانب آخر، لا تزال القدرات العسكرية الصينية خاصة البحرية محدودة نتيجة التحديات المالية ومحاولة الولايات المتحدة تقييد النمو العسكري وحرمانها من امتلاك التكنولوجيا لتطوير ترساناتها، إضافة إلى الأعباء المالية، والخوف من أن يؤدي الوجود العسكري إلى توتر العلاقات الدبلوماسية مع الدول الأخرى.

وفي الوقت التي تقدم فيه الصين تدريبات واستشارات عسكرية لبعض الدول الأفريقية تبقى هذه المساهمة محدودة نظرا إلى المساهمة التي تقدمها الدول الأوروبية والولايات المتحدة. فعلى سبيل المثال، قدم الاتحاد الأوروبي لمالي وحدها من خلال بعثة التدريب العسكريي تدريبًا عسكريا لنحو 10 آلاف عسكري، أي ثلث القوات المسلحة المالية.

كما أن جودة الأسلحة الصينية ما زالت أقل من جودة الأسلحة الأميركية والغربية والروسية، مع غياب الخبرة أو الكفاءة المحلية اللازمة لاستخدامها في الحروب والصراعات مثل نظيرتها من الأسلحة الأوسع انتشارا.

الجميع رابح

وفي المحصلة، فإن الصين وانطلاقا من خصوصية تجربتها الثقافية والتاريخية، فإنها تحرص على رعاية مصالحها في أفريقيا على مبدأ “الجميع رابح”، وتنأى بنفسها عن الميراث الاستعماري العسكري الغربي المتمثل بالهيمنة العسكرية المباشرة.

وهي تسعى لإيجاد شراكات إستراتيجية شاملة مع دول أفريقيا، بما يشمل التعاون العسكري الذي يهدف إلى حماية مصالحها وملء الفراغ الذي تتركه خلفها كل من فرنسا والولايات المتحدة، وهو ما زال يلقى قبولا واسعا في القارة الأفريقية وسط كثير من الانتقادات والتحفظات الغربية.

ورغم احتمال تنامي الوجود العسكري الصيني في القارة الأفريقية فإنه -على الأرجح- لن ينحو منحى الدول الأوروبية الاستعمارية بل سيبقى منسجما مع مبادئ العقيدة العسكرية الصينية المعلنة.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن المغرب عبر موقع أفريقيا برس